صدر حديثا
صدر عن دار الصحوة بالقاهرة كتاب جديد يحمل عنوانا مهما هو: اللامع العزيزي لأبي العلاء المعري: شرح لديوان المتنبي، بتحقيق الدكتور عبد الله بن صالح الفلاح، وهو باحث جاد له باع في التحقيق حيث هو تلميذ للدكتور عبد الرحمن العثيمين شيخ المحققين –رحمه الله- كما أن له تجربة سابقة في تحقيق كتاب: الصفوة في معاني شعر المتنبي لأبي اليمن الكندي وهو كتاب مطبوع في النادي الأدبي بالأحساء بالمملكة العربية السعودية. واسم الكتاب هو: اللامع العزيزي سماه بذلك لأنه ألفه لرغبة عزيز الدولة ابن تاج الأمراء أبي الدوام ثابت بن ثمال بن صالح بن مرداس. وجدير بالذكر أن الكتاب قد تم تحقيقه من قبل، فقد حققه الأستاذ محمد سعيد مولوي، وقد أدى ذلك إلى توقف المحقق الحالي قليلا ليستجلي الأمر فلما صدر الكتاب كتب المحقق ملحوظاته على الكتاب، ونشرها في مجلة عالم الكتب السعودية باسم: ملحوظات على تحقيق كتاب اللامع العزيزي لأبي سعيد المعري تحقيق محمد سعيد مولوي (المجلد الثلاثون، العدد الرابع، ربيع الآخر 1430هـ)، ثم أكمل الملحوظات في حلقة ثانية نشرت أيضا في عالم الكتب (المجلد الرابع والثلاثون، العددان الثالث والرابع 1434هـ). وواضح –بداهة- كثرة الملحوظات التي أخذها المحقق الثاني على الأول، وقد كان هذا دافعا أكبر لكي يكمل المحقق عمله.
والكتاب المحقق يربو على ألفي صفحة في مجلدين؛ فبعد تسع وسبعين صفحة هي الدراسة التي قدمها المحقِّق للنص المحقَّق، يأتي صلب المخطوطة المحققة في 1534 صفحة، ثم يليها فهارس مفصلة للكتاب تقع في 414 صفحة؛ لتكون جملة أوراق الكتاب ألفين وسبعا وعشرين صفحة.
أهمية الكتاب:
تأتي أهمية الكتاب المحقق من أهمية موضوعه؛ فالمتنبي رجل ملأ الدنيا وشغل الناس، وقد كان ظهوره سببا في أن ركدت ريح الخصومة حول أبي تمام أو الشعر المحدث عموما. وقَبِل الناس أبا تمام مثلما قبلوا البحتري، ولكن الظاهرة الجديدة -أعني ظهور المتنبي- كانت مصدر حيرة كبيرة للذوق والنقد معاً. (فهو شاعر يجمع بين القديم والحديث، يجيء بالجزالة والقوة والبيان على خير ما كان يجيء به القدماء، ويغوص على معاني الحياة الإنسانية غوصاً بعيداً، ويُضمّن شعره فلسفة حياة وثقافة. تنتمي إلى القرن الرابع؛ كذبت المقاييس: أين ما كان يتحدث به النقاد عن الصراع بين القديم والمحدث؟ بل أين ما كانوا يتحدثون به من ميل إلى أبي تمام أو نزوع إلى طريقة البحتري؟ إنهم أمام طريقة جديدة قديمة لا ينفع فيها ما اعتمدوه من مقاييس "عمود الشعر") تاريخ النقد الأدبي عند العرب، د. إحسان عباس، 252.
ويشهد لمنزلة المتنبي ما حكاه الواحدي عن أبي الفضل العروضي من قول أبي العلاء المعري له عن المتنبي: (لا تظنن انك تقدر على إبدال كلمة واحدة من شعره بما هو خير منها فجرب إن كنت مرتاباً).
إن ما حققه المتنبي كان خطير النتائج، يشبه الورطة المنطقية، ولبيان ذلك أقول إنه حقق - في أقل تقدير- ثلاثة أمور:
1 - عودة إلى النزعة البدوية في الروح وإلى البداوة في الأسلوب (وكانت هذه إحدى طرقه لليقظة العربية).
2 - تمثيل منتهى ما بلغه عصره من عمق فكري (تجريبي أو فلسفي تجريدي).
3 - محو الفارق بين الشعر والخطابة بتساوٍ عجيب دون تغليب أحدهما على الآخر.
كما تأتي أهمية الكتاب –كذلك- من شارح شعر المتنبي أبي العلاء؛ فهو شاعر وناقد وفيلسوف، وله محفوظ كبير من ثقافة العرب وشعرها. كما أن إعجاب أبي العلاء بالمتنبي لأجل أنه يحمل كثيرا من رؤاه ومواقفه الفلسفية في الحياة. بل إننا نستطيع أن نجزم بأن المعري أقدم على تأليف "اللامع العزيزي" لما أحسه من قربى بين أفكاره وأفكار المتنبي. ولذلك نجد بعض أشياخ ابن خلدون يقرنون المتنبي والمعري في سلك واحد؛ حيث إنهم يخرجونهما من دائرة الشعر، لأنهما لا يجريان على طريقة العرب. ينظر: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، د. إحسان عباس، 538.
وعلى الرغم من أن ابن سعيد الأندلسي يرى أن المعري (أشعر من ملك طريق التخييل) إلا أننا هنا لا نتحدث عنه بصفته شاعرا، ولكننا نتناول شرحه –والشرح نقد ضمني- لديوان المتنبي.
ثم تأتي قيمة المحقق من خلال ما قام به من جهد في إخراج هذه التحفة الفنية من شاعر كبير وناقد كبير، وقد زاد العبء على المحقق كونه مسبوقا بتحقيق آخر.
وحتى ندرك الجهد المبذول في تحقيق الكتاب نعيش معه قليلا:
عمل المحقق شاهد له أو عليه:
ذكر المحقق تعريفا بأبي العلاء من حيث اسمه وكنيته ولقبه ونشأته ورحلاته و... ، وهذا ليس جديدا لكنه ألمح –في ذكاء- إلى عقيدته، وهذه قضية كثر اللغط فيها لكنه اعتذر عن ذكرها هنا بأن الأهواء قد لعبت دورا كبيرا في وصمه بالزندقة، أو وصفه بالمسلم الصافي العقيدة، ثم أخرج نفسه من دائرة الخلاف مبينا أنه بصدد تحقيق كتاب اللامع، وسوف يذكر عقيدته من خلال كتاب اللامع وهذا رأي قَصْد وفِكْر سديد؛ ذلك أن تعميم الأحكام أمر موهم، وأولى بمن يتتبع رأي أحد أن يناقش بموضوعية من خلال دلائل، وليس كلاما عاما لا يسنده دليل، ولا يحوطه برهان. وبعد نقول كثيرة من كتاب اللامع يصل المحقق إلى نتيجة مفادها: أن (عقيدة المعري تبدو في كتابه اللامع عقيدة المسلم المعظم لله ولرسوله، البعيد عن الزندقة والإلحاد) ص21 من الدراسة.
ومن القضايا التي ناقشها المحقق: نسبة كتاب معجز أحمد إلى أبي العلاء؛ وقد جزم بنسبة الكتاب للمعري الدكتور عبد المجيد دياب حين حققه ونشره في دار المعارف عام 1986م. وقد رد المحقق على ذلك، وأثبت أنه ليس للمعري، وساق أدلة كثيرة، منها:
<!--أن في الكتاب نصين لابن فورجة، وهو من تلاميذ المعري.
<!--أن مؤلف معجز أحمد يكثر من النقول، وممن نقل عنهم أبو العلاء المعري.
<!--أن مؤلف معجز أحمد ذكر في موضعين أن المعري أخذ معنى بيت المتنبي، ومعلوم أن الأخذ من مصطلحات السرقة. فهل يتهم المعري نفسه بالسرقة؟
<!--أن في الكتاب آراء تخالف المشهور من آراء أبي العلاء.
ثم قام المحقق بعد ذلك بدراسة الكتاب من حيث: عنوانه وتوثيق نسبته إلى المؤلف، وترتيب القصائد. وقد توصل إلى صحة عنوان الكتاب، والثقة في نسبة الكتاب إليه.
ثم تعرض المحقق لبيان منهج المعري في شرحه لديوان المتنبي، فذكر أن أبا العلاء:
<!--لم يشرح الديوان كله بل كان يختار من الأبيات ما يرى أن فيه استغلاقا للمعنى أو فيه قضية نحوية أو صرفية أو عروضية.
<!--اتخذ وحدة البيت الشعري منهجا لا يحيد عنه في الشرح فهو يذكر البيت ثم يتبعه بالشرح بادئا بالمفردة ثم يطرح الموضوعات الأخرى.
<!--يستهل شرحه للقصيدة بقوله: "ومن التي أولها".
<!--يذكر بحر القصيدة ونوع العروض والضرب، فإذا أراد الانتقال إلى بيت آخر قال: "وقوله".
<!--يذكر نوع القافية تارة في أول القصيدة بعد ذكر البحر، وتارة في آخر شرح القصيدة وتارة يغفل ذلك.
<!--يستطرد أحيانا إلى ذكر عادات العرب أو معارفها، وأحيانا يقتصر على شرح مختصر للبيت دون التعرض لأية قضايا: نحوية أو صرفية أو عروضية أو لغوية.
<!--يهتم أبو العلاء بالروايات في الأبيات التي يشرحها؛ فهو محيط بروايات الأبيات، وقد يرجح رواية لسبب أسلوبي، أو لإعطائها معنى أعمق، أو لوجود ما يؤيدها في البيت، أو ...
<!--اهتم بالألفاظ اهتماما بالغا؛ فهو لا يقف عند بيان معناها، بل يتعدى ذلك إلى وزنها واشتقاقها وكونها نكرة أو معرفة ويلمح إلى إعرابها وإن كانت من الأضداد أو مذكرة أو مؤنثة أشار إلى ذلك، وقد يتعدى المعنى المعجمي إلى المعنى السياقي، ويدعم كلامه بالشواهد من القرآن والحديث والشعر.
<!--يهتم –أحيانا- باللغات الواردة في الكلمة فهو يذكر أن في كلمة الأضحية أربع لغات: أُضحيّة وإِضحيّة وضحيّة وأَضحاة، وإذا كانت هناك لغة أفصح من لغة بيّن ذلك، كما يشير إلى تطور دلالة الكلمة، كما يهتم كثيرا بالكلمات المعربة، وإذا هناك خلاف حولها أشار إليه، كما لم يغفل الحديث عن الكلمات المولدة وبيّن الخلاف في كونها مولدة أو فصيحة، وقد يؤيد كلام العامة ويضعف كلام اللغويين، وقد يذكر دليلا على كلام العامة، وقد يذكر أنها لم ترد عن العرب.
<!--اهتم بالمعاني اهتماما كبيرا؛ فقد يذكر المعنى المراد من البيت، وقد يربط بين الأبيات في بيان المعنى، وقد يستعين ببعض شراح المتنبي كابن جني مثلا، وتارة ينتقد الشراح أو يرجح قول واحد منهم على الآخر، وأحيانا يشير إلا أنه لم يكشف المعنى سوى فلان وهذه أمانة علمية منه.
<!--أشار إلى أن للمتنبي معاني مبتكرة لم يسبق إليها، وأحيانا يجوّز أن يكون المتنبي غير مسبوق إلى هذا المعنى، وأحيانا أخرى يذكر أن المعنى مطروق لكن المتنبي قد زاد فيه.
<!--لم يذكر المعري مصطلح السرقة –على الرغم من شيوعه في عصره- وإنما أشار إلى أن المعنى مطروق أو أن الشاعر مسبوق بهذا المعنى، وقد يلمح إلى الأخذ من غير تصريح، وإذا كان المعنى مطروقا وللمتنبي فضل في التعبير عنه وضح ذلك.
<!--تعرض المعري للمبالغة عند المتنبي، ونعتها بالكذب الذي تستحسنه الشعراء، وقد يشير إلى أن المعنى الذي ذكره الشاعر إفراط في المبالغة، وادعاء لما لا يجوز أن يكون مع استحسان الشعراء له، كما يصف المبالغة بالغلو والكذب، وأحيانا يطلب الاستغفار من الإصغاء إليه، وبخاصة إذا كانت في حق الله –سبحانه-، وأحيانا ينعى أبو العلاء على الممدوح عدم إنكاره للمبالغة لأن فيها قلة تأدب مع الله –تعالى-. ولما عرف حرص المتنبي على المبالغة دعا له بالرحمة لأنه اجتهد في قول الباطل.
<!--على أنّ المعري لا يرد المبالغة مطلقا؛ فهو يستحسنها في مواضع كثيرة حين تكون خالية من الغلو والإغراق.
ثم ذكر المحقق ملحوظاته على الكتاب وهي:
<!--اختلاف رواية الشارح في الأبيات التي يستشهد بها عن ديوان الشاعر: حيث يظهر تلفيق أبي العلاء من بيتين خلافا للمشهور من الرواية.
<!--الخطأ في عزو بعض الأبيات لأصحابها.
<!--الخطأ في اسم الشاعر أحيانا.
<!--الخطأ في ذكر من قيلت فيه القصيدة، ولم يحدث سوى مرة واحدة.
على أن هذه الهنات لا تقلل من شأن المعري، فالكتاب كبير الحجم، والاستشهاد فيه وفير، وأسماء الشعراء الذي يحفظ لهم المعري كثيرة، وهو كفيف البصر. ولعل ذلك كله شافع له، والخطأ مقدر على بني آدم أجمعين.
***
أما ما قام به المحقق من جهد فهو كبير، ولنذكر لذلك مثلا واحدا؛ فأبو العلاء المعري في شرحه لديوان المتنبي قد ذكر ألفين وثمانمئة وستة عشر بيتا –حسبما أحصيت وهذا الإحصاء يشمل الشعر، ولا يشمل الرجز الذي أفرد له المحقق فهرسا خاصا به- بلغ عدد الأبيات التي لم يتوصل إلى قائلها مئتين وثمانية وستين بيتا، أي أن نسبة هذه الأبيات تمثل عشرة ونصفا بالمئة، وهذا يدل على جدية المحقق، وتقدّر جهده الذي بذله في التوصل إلى الأبيات التي استشهد بها أبو العلاء، ولعل هذه النسبة التي تقف على مشارف التسعين بالمئة تمثل نسبة نجاح المحقق في عمله كله سواء في تحقيق نسبة الأبيات إلى قائليها أو غيره لكنها نسبة غير قليلة، فإذا تركنا الأبيات إلى بقية عمل المحقق سنجد أن النسبة سوف ترتفع إلى قريب من مئة بالمئة؛ فمثلا إخراج النص صحيحا مضبوطا بالشكل التام –على الجهد المضني الذي بذل فيه- يقترب من الغاية، كذلك الروايات المختلفة لأبيات المتنبي التي لم يذكرها أبو العلاء ، كما أنه وثق النقول التي ينقلها أبو العلاء من مصادرها الأصلية، وقد قام المحقق بالتعريف بالأعلام غير المشهورين، وعرف المواضع والبلدان الواردة في الكتاب. كما وضع فهرسا للأمثال، وفهرسا للغة، وفهرسا للقبائل والجماعات. وكل هذا يرفع من قيمة الكتاب ويذكرنا بكبار المحققين من أمثال: محمود شاكر والطناحي والعثيمين وغيرهم.
ما يؤخذ على المحقق:
<!--أن نسبة عزو الشواهد – التي كانت في الأشعار مرتفعة وقاربت التسعين بالمئة- قد انخفضت في الرجز فلم تبلغ الخمسين بالمئة حيث سجلت نسبتها –فيما أحصيت- ثمانية وأربعين بالمئة، ولعل للمحقق عذرا في ذلك؛ فتاريخ أمتنا ظل شفويا لفترة كبيرة، والعرب تنطق الرجز دون تكلف، وقد حُفظت أشياء من هذا الرجز ولم يُعرف لها قائل، كما أن ما بين أيدينا من الكتب أهمل نسبة كثير من الأرجاز إلى أصحابها.
<!--أن المحقق كرر نقلا واحدا من رسائل أبي العلاء ثلاث مرات في صفحتين، ولعله سهو منه.
<!--أن هذا النقل المكرر –فيما أحسب- أصابه بعض التصحيف؛ فالنقل على لسان أبي العلاء يقول: ( وقد فارقت العشرين من العمر ما حدثت نفسي باجتداء علم من عراقي ولا شامي) وأحسب أن قوله: "وقد" مصحفة عن "ومنذ" حتى يستقيم الكلام؛ فإن اللفظ لو كان بقد لزم أن يضع الواو قبل "ما حدثت" لكنها مع منذ أوجه وأحسن.
غير أن هذه الهنات الصغيرة لا تقلل من شأن عمل ضخم كهذا، وقد قضى فيه المحقق قرابة عشرين سنة، فجزاه الله خيرا على ما أمد به المكتبة العربية به من جهد، وإنا لنطمع منه في المزيد.
إنني أدعو القارئ العربي إلى قراءة هذه النسخة النفيسة من كتاب اللامع العزيزي التي تميزت بأنها شرح من شارح كبير لشعر شاعر كبير ومحقق أثبت أنه محقق كبير، فهنيئا لمكتبتنا العربية هذا العمل التراثي المهم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
الدكتور / إبراهيم عبد الفتاح رمضان
أستاذ البلاغة والنقد المشارك بجامعة القصيم