012 اللانشاط النووى وأثره على الأجيال القادمة
أ.د. ممدوح عبد الغفور حسن
فجأة وبدون أى مقدمات انطلق نداء البرنامج النووى المصرى، فى وقت اتتبع فيه الحراك النووى بين أمريكا وبطانتها من جهة، وبين إيران و كوريا الشمالية جهة أخرى، وبدأت أشعر بالحيرة، فقبل هذا النداء المدوى كان لدى الرئاسة التى أنتمى إليها تعليمات عليا بوقف كل الأنشطة التى يمكن أن تفسر على أن لها صفة "نووية" وتفكيك بعض التجهيزات البحثية والتجريبية، وتبع ذلك مباشرة المشكلة التى أثارتها الوكالة الدولية بأن مصر تجاوزت التزامها بمعادة منع انتشار الأسلحة النووية، والكل يعلم تطورات هذه القضية التى تناولتها وسائل الإعلام على أوسع نطاق والتى تبين لها أنها فشنك وليس لدينا عشر معشار ما لدى كوريا أو إيران، فضلا عن إسرائيل والهند وباكستان. وأثار ذلك الشجون فى نفسى ورجعت إلى تاريخ البرنامج النووى المصرى الذى عاصرتة منذ بداية حياتى العملية
لاشك أن أى نشاط إنسانى يقوم به جيل سيترك أثره على الأجيال التالية عليه، وعلى الأخص الجيل الحاضر الذى يملك زمام الأمور فى الزمن الذى تعانى فيه الكرة الأرضية من التلوث والتدهور البيئى واستنزاف الموارد الطبيعية، وفوق كل ذلك تكدس الأسلحة النووية بالرغم من المعاهدة التى سميت معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. ولذلك ظهر مفهوم "التنمية المتواصلة" أو التواصل فى التنمية الذى يعنى ببساطة تنمية الحاضر بدون حرمان الأجيال القادمة من حقها فى التنمية أيضا والذى يعنى ببساطة أن المشاكل التى تنشأ نتيجة نشاطنا لا يجب أن نتركها لأجيالنا القادمة لكى تعانى منها، والذى يعنى أيضا ألا نستنزف كل موارد الأرض فهى ليست من حقنا وحدنا بل تشاركنا فيها الأجيال القادمة ويجب أن نترك لها نصيبها من هذه الموارد. هذا من ناحية الأنشطة التى نقوم بها الآن.
وبنفس المنطق هناك أنشطة نحجم عنها ويتولد عن ذلك مواقف تضع أجيالنا القادمة فى مواقف حرجة تفرض عليهم أوضاعا ما كانوا يسمحوا بها لو أنهم كانو مكاننا. إذن علينا إذا أردنا أن نكون منصفين لأجيالنا القادمة أن نضعهم فى اعتبارنا عند القيام بأى نشاط، وفى نفس الوقت عند عدم القيام بنشاط معين أو الإحجام عنه، وفى نفس الوقت أيضا يجب أن نضعهم فى اعتبارنا عندما نتقاعس عن واجب نحو أنفسنا، لأن تفريطنا فى حقوقنا يهدر أيضا حقوق من يأتوا بعدنا، فليست حقوقنا ملك لنا وحدنا بل هى أيضا ملك لأجيالنا القادمة. علينا إذن عند التفكير فى القيام بنشاط معين أو الإحجام عن آخر أن نضع أجيالنا القادمة فى اعتبارنا.
ومن الأنشطة، أو اللاأنشطة، التى قمنا بها هو دخولنا العصر النووى، وتخلفنا عن هذا العصر الذى كانت بداية الإعلان عنه هى القنبلة النووية التى ألقتها أمريكا على هيروشيما فى صبيحة السادس من أغسطس عام 1945 فقتلت ما يقرب من سبعين ألف نسمة فى لحظة واحدة وأصابت مثل هذا العدد بإصابات فظيعة، هذا غير التدمير الفظيع الذى أحدثته والحرائق التى أضرمتها. منذ هذه اللحظة تبين أن هناك ماردا جبارا انطلق من قمقمه وهو على استعداد أن يكون خادما لكل من يستطيع أن يسوسه أو يخضعه، هذا المارد هو الطاقة النووية ذات الوجهين: وجهه حسن طيب وجميل يتمثل فى المفاعل النووى، ووجه دميم وقبيح يتمثل فى القنبلة النووية، وعلى من يدخل العصر النووى أن يتمرس فى التكنولوجيا النووية التى لا تتحقق إلا بدورة الوقود النووى.
اعتقدنا، أو أحببنا أن نعتقد، أن دخولنا العصر النووى هو فى إنشاء المؤسسات وإقامة المبانى وإعداد الكوادر وإجراء البحوث الورقية واستخدام الإشعاع والنظائر المشعة فى الطب والزراعة والصناعة، ونسينا أن التكنولوجيا النووية هى تكنولوجيا متكاملة لا تتأتى إلا بتملك دورة الوقود النووى بدءا من اليورانيوم وحتى التخلص من النفايات مرورا بمفاعلات توليد الكهرباء، كذلك وقعنا فى مطب القول بأن الطاقة النووية السلمية شىء والحربية شىء آخر تماما بينما الحقيقة هى أى الفرق بينهما شعرة، والطامة الكبرى هى الهوجة التى كان يحركها البعض عن جهل ساذج أو تجاهل خبيث لإجهاض أى تحرك مخلص لدخول العصر النووى بإنشاء مفاعلات القوى، والحجة فى ذلك، أو الشماعة، كانت التلوث الإشعاعى، وكانت هذه الهوجات تغذى من الخارج وتتصاعد منها رائحة صهيونية لم يكن يدركها إلا ذوى الأنوف الحساسة، وللأسف كانت تنساق وراء هذه الهوجات صحف لها وزنها وكتاب لهم مكانتهم. وقد نجحت هذه الحملات فى وقف تقدم البرنامج النووى أكثر من مرة حتى وصلت الهوة النووية بيننا وبين أبناء عمومتنا إلى ما هى عليه الآن. وعلى أى الحالات أيهما أفضل عزيزى القارىء التلوث الإشعاعى أم الغارات النووية؟
قد يتصور أحد أن هذه دعوة إلى التسلح النووى، ولهذا أحب أن أكون واضحا تماما أننى لا أقصد ذلك أبدا، وذلك لسبب بسيط جدا هو أننا لا نقدر عليه من ناحية، ومن ناحية أخرى مصر عضوة فى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وكذلك فى معاهدة أفريقيا خالية من الأسلحة النووية، على أن ذلك ليس هو المهم الآن، المهم الآن ماذا نفعل فى الوضع المحرج الذى وضعنا أنفسنا فيه بأيدينا، ولمن لا يدرى فهذا الوضع هو وجود الرؤس النووية بالعشرات، إن لم تكن بالمئات، بالقرب من حدودنا وعلى بعد لا يزيد عن 300 كم عن عاصمتنا العريقة، وكلما مر الزمن كلما زادت هذه الرؤوس عددا؛ فالشعب المصرى فى تكاثر مستمر. وهذه الرؤوس جاهزة للانطلاق فى أى لحظة، وقد تأتى هذه اللحظة نتيجة تهور أو خطأ أو سوء فهم أو تعمدا بسوء قصد، ولا أعتقد أن أحدا يستطيع أن ينفى تماما هذه الاحتمالات، خاصة فى ظل حكومة أبناء عمومتنا الحالية، والتى لم تختلف عن أية حكومة سابقة ولن تختلف عن أى حكومة لاحقة فى المقصد، ولكن الاختلاف هو فى التكتيك لتنفيذ هذا المقصد، وأول الأولين فى هذا المقصد هو شعب مصر، وإذا سألنى حفيدى ماذا سنفعل يا جدى لو هددتنا إسرائيل بالأسلحة النووية؟ أو إذا فعلتها فعلا واعتدت علينا بهذه الأسلحة الفتاكة؟ بماذا أجيبه؟ هل أطمئنه بأن ماما أمريكا ستهب للدفاع عنا انطلاقا من حرصها على حقوق الإنسان؟ وأن طنط كوندا ستشجب هذا العمل فى افتتاح إحدى دورات قهوة الأمم وتعلن أن أنكلنا بوش سيزور المنطقة بعد عشرة أيام محملا بدعوات مجلس الكبار الذى سينهض انطلاقا من قراره رقم 255؟ هل لديك عزيزى القارىء إجابة مطمئنة لحفيدى؟ أيا كانت إجابتك أو إجابتى فهى قطعا لن تكون أبدا أننا سندافع عن أنفسنا بأيدينا، وليس أوضح من السبب. أنا لا يهمنى أن أضرب (بضم الألف) بالقنبلة الذرية، ولكنى أصاب بالهلع عندما يدور فى ذهنى أن حفيدى معرض لذلك.
ومن الأنشطة التى غضضنا الطرف عنها ونسيناها، أو بمعنى أصح تناسيناها، هو الواجب النووى الذى فرض علينا نحن أفراد جيل الخمسينات ولم نواجهه بالشجاعة والصراحة مع النفس. فإذا كانت الحالة الأولى، حالة النشاط واضحة ومفهومة، إلا أن الحالة الثانية وهى حالة اللانشاط تحتاج إلى بعض الشرح.
عندما دخلت البشرية العصر النووى الذى بدأ سرا فى عام 1939 ثم جهرا فى عام 1945 سارعت الدول جميعها إلى الدخول فى هذا العصر لكى تواكب التطور البشرى الحتمى ولا تتخلف وتنزوى فى قاع سلة الأمم، وتنافست الدول فى إنشاء المفاعلات النووية بقدر ما تستطيع، والدولة التى عجزت عن ذلك حاولت على الأقل تنمية قدراتها البحثية فى المجالات النووية. الفرق بين النامية والمتقدمة فى هذا أن بعض الدول النامية أحست بأن التقدم النووى هام وحيوى بالنسبة لأمنها القومى فعمدت إلى تقوية قدراتها النووية بدرجة تفوق كثيرا تقدمها فى المجالات الأخرى فالعزة القومية لدى البعض تأتى فى المقدمة قبل الرفاهية بل ولقمة العيش أيضا. وقد كان من الأحرى على الوطن العربى أن يسلك هذا المسلك ليقوى قدراته النووية خاصة وأن من دوله ما ملكت القدرة المالية التى فاقت أغنى دول العالم، ولكنه تقاعس عن التقدم النووى وأبى أن يدخل العصر النووى لأسباب لا تبدو واقعية أو حقيقية، بالرغم من أننا كنا نعلم جيدا أن إسرائيل تقوم بتنفيذ برنامج نووى محكم لكى تحرز تفوقا عصريا على كل الدول العربية مجتمعة، وفى نفس الوقت كانت تعمل بكل قواها وبكل قوى من يعضدونها على إبقاء العالم العربى على تخلفه النووى بزعم أن المحطات النووية ستلوث البيئة. ولقد وقعنا أو استسلمنا لهذا الفخ الصهيونى المحكم حتى وصلنا إلى الوضع المتردى الذى نحن فيه. ففى الوقت الذى تملك فيه إسرائيل مئات الرؤوس النووية ووسائل حملها وتوصيلها إلى كل العواصم العربية، لا يملك العالم العربى كله ولا مفاعل واحد لتوليد الكهرباء، فى حين أنه كان بالامكان مد شبكة كهربائية نووية على طول العالم العربى وعرضه لو أنه كان بالفعل "عالما" عربيا وليس أشتاتا عربية. إذن اللانشاط النووى الذى قمنا به على مر الخمسين سنة الماضية جعلنا نتخلف نوويا ونورث هذا التخلف لأولادنا وأحفادنا. وإذا ما سألنا الآن واحد من هؤلاء الأحفاد ماذا نفعل ياجدى لو هاجمتنا إسرائيل بالقنابل الذرية، ووقفت أمريكا تشجب وتستنكر فى مجلس الأمن ولكنها تستخدم حق الفيتو ضد أى قرار بمعاقبة إسرائيل؟
أخى المواطن العربى إننى لا أجد جوابا لهذا السؤال، فهل لديك أنت جواب؟
ساحة النقاش