الموقع التربوي للدكتور وجيه المرسي أبولبن

فكر تربوي متجدد

المتأمل في واقع الأمة الإسلامية في العصور المتأخرة يتألم لما آلت إليه الحال، وما وصلت إليه من مستوى يندى له الجبين، وقد قلبت النظر في هذا الواقع متلمسا الأسباب، وباحثا عن سبل العلاج، محاولا المساهمة في الخروج من هذا الوضع إلى المكانة التي تليق بنا، نصحا للأمة، وإبراء للذمة.

وتوصلت إلى أن هناك أسبابا عدة يضيق المجال بذكرها وتعدادها، ومن أبرزها بعد الأمة حكاما ومحكومين عن هدي الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، وعن هذا السبب نشأت أسباب عدة، ساهمت في الوضع الذي نعيشه، وجعلتنا في مؤخرة الركب -إن كنا مع الركب- بعد أن كنا السادة والقادة، وحماة البيضة والدار (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)(<!--) [ سورة آل عمران، آية: 110 ].

أصبحنا عالة على أعدائنا، وهما على أمتنا، وأدرك أعداؤنا سر تأخرنا، ومكمن مصيبتنا، وأساس بليتنا، فعاثوا فى الأرض فسادا، يتآمرون ويخططون، ونحن في غفلة عما يكاد لنا، انشغلنا بأنفسنا عن عدونا، وبدنيانا عن ديننا، فلا ديننا يبقى ولا ما نعمّر).

ولا أريد أن أحمل أعداءنا كل مصائبنا ومآسينا )أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(<!--) [ سورة آل عمران آية 165 ]. فمنا الداء وعندنا الدواء بإذن الله، و " ما أنـزل الله من داء إلا وأنـزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله"  (<!--).

ومن هذا المنطلق وجدت أن جهلنا بواقعنا سبب رئيسي من أسباب مصيبتنا، وأيقنت أن فقه الواقع علم هجره الكثير من طلاب العلم ورواد الصحوة.

وفقه الواقع علم أصيل، تبنى عليه كثير من العلوم والأحكام، وفي ضوئه تتخذ المواقف المصيرية.

ومن خلال قرءاتي اليسيرة، واهتماماتي الخاصة بهذا العلم لم أجد من أصّل له، أو أفرده في رسالة أو مصنف.

فبدأت أجمع شتات الموضوع من بطون الكتب، وعقول الرجال، وتجارب العلماء والدعاة، فتكونت لدي حصيلة علمية، شعرت أن طلاب العلم في حاجة إليها، فشرعت ألقيها عليهم ضمن الدرس الأسبوعي، ثم ألقيتها في محاضرة عامة، وألح علي كثير من طلاب العلم بأن أصدرها في رسالة تجمع شتاتها، ويبقى دوام نفعها بإذن الله.

وها أنذا قد فعلت، فما كان فيها من خير فمن الله وحده، وما شابها من نقص وضعف فمني والشيطان، وأستغفر الله.

وتشتمل هذه الرسالة الموجزة على الفصول التالية:

1- تعريف فقه الواقع.

2- أساس هذا العلم.

3- مقومات فقه الواقع.

4- الآثار الإيجابية لفقه الواقع.

5- ضوابط ومحاذير.

6- مصادر هذا العلم.

7- خاتمة.

 

تعريف فقه الواقع

هو علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة، من العوامل المؤثرة في المجتمعات، والقوى المهيمنة على الدول، والأفكار الموجهة لزعزعة العقيدة، والسبل المشروعة لحماية الأمة ورقيها في الحاضر والمستقبل.

 

أساس هذا العلم

يتصور بعض طلاب العلم أن فقه الواقع علم جديد، وثقافة حديثة، وهذا قصور في التصور، ونقص في العلم؛ لأن أساسه في القرآن، والسنة، وكلام سلف الأمة. ففي سورة الأنعام يقول - سبحانه وتعالى-: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)(<!--) [ سورة الأنعام آية: 55 ] ومن فقه الواقع استبانة سبيل المجرمين، ومعرفة أهدافهم ومخططاتهم

لهذا جاءت كثير من الآيات مفصلة ومبينة سبيل أعداء الله، وفاضحة لمآربهم وغاياتهم، ولنأخذ سورة واحدة تؤكد لنا هذه الحقيقة وتجليها: إنها سورة التوبة، ومن أسمائها (الفاضحة) لأنها فضحت المنافقين، وكشفت عن خداعهم وتضليلهم ومؤامراتهم، يقول -سبحانه وتعالى-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)(<!--) [سورة التوبة، آية: 49] (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ)(<!--) [سورة التوبة آية: 56] (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ)(<!--) [سورة التوبة آية: 62] (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ)(<!--) الآية [ سورة التوبة آية: 67 ].

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)(<!--) [ سورة التوبة آية: 107 ] وهذه الآية من أعظم الآيات التي فضحت المنافقين، وكشفت دسائسهم، واستغلالهم لهذا الدين بإقامة المساجد تلبيسا وخداعا، وسترا لمؤامراتهم.

ونجد في ختام هذه السورة: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)(<!--) [ سورة التوبة آية: 127 ].

ونجد كذلك في سورة البقرة، والأحزاب، والمنافقون ما يكشف عن المنافقين وغاياتهم.

أما اليهود والنصارى والمشركون فالآيات التي عن واقعهم كثيرة جدا، وهي من صميم فقه الواقع الذي يبينه الله -جل وعلا- لنبيه وللمؤمنين، ولنأخذ بعض الآيات في ذلك قال سبحانه: ) وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(<!--) [ سورة البقرة آية: 76 ]. (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)(<!--) [سورة البقرة: 120]. (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(<!--) [سورة البقرة آية: 146].

وهذه الآيات تكشف واقع اليهود، وفساد طويتهم، ونجد في النصارى قوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)(<!--) [سورة المائدة آية: 14].

وعن المشركين يقول سبحانه: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(<!--) [ سورة التوبة آية: 19 ]. وقال قبلها: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ)(<!--) [سورة التوبة آية: 17].

ونجد في بيان علاقة المنافقين بأهل الكتاب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ)(<!--) الآيات [سورة الحشر آية: 11]. والآيات في هذا الباب كثيرة جدا، وما ذكرته للإشارة والاستدلال على عناية القرآن بفقه الواقع، لا للحصر.

أما السنة فقد حفلت بكثير من الوقائع والشواهد، التي تدل على عناية المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الجانب.

فها نحن نراه صلى الله عليه وسلم يوجه المستضعفين من صحابته بالهجرة إلى الحبشة، وهذا برهان ساطع على معرفته صلى الله عليه وسلم بما يدور حوله، وأحوال الأمم المعاصرة له.

فلماذا لم يرسل الصحابة إلى فارس أو الروم أو غيرهم؟ ولماذا اختار الحبشة؟ يبين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: " إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد "  (<!--).

وها نحن نرى المرحلية في الدعوة ملائمة للواقع الذي تعيشه، ونجده صلى الله عليه وسلم يختار المدينة مكانا لهجرته، ويتعامل مع جميع الأطراف الموجودة فيها وحولها بأسلوب يناسب أحوالها. وعندما أرسل صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له: " إنك تأتي قوما أهل كتاب "  (<!--) وهذا من إدراكه صلى الله عليه وسلم واقع كل بلد وما يحتاج إليه؛ ولذلك قال له: " فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله.... "  (<!--) الحديث.

وكذلك نلمس عمق هذا العلم في غزواته، ورسائله إلى الأمم والملوك والقبائل. وكذلك يبرز هذا الجانب في استقباله للوفود، وتعامله معهم، وإنـزاله للناس منازلهم.

إن لم يكن هذا هو من الذروة في فقه الواقع فأين يكون؟ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)(<!--) [سورة الأحزاب، آية: 21].

ومن أقوى الأدلة على عناية الكتاب والسنة بفقه الواقع قصة فارس والروم، وفيها يبرز اهتمام الصحابة أيضا بهذا العلم، وإدراكهم لأهميته، والقصة كما وردت في سورة الروم، أنه قامت حرب بين فارس والروم، فانتصر الفرس على الروم، وهنا حزن المسلمون لهذ الأمر، فقام أبو بكر رضي الله عنهوراهن أحد المشركين على انتصار الروم على الفرس، وحدد لذلك أجلا قصيرا.

فأخبر أبو بكر رضي الله عنهالرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فأقره، وأمره بزيادة مدة الأجل إلى عشر سنين، ففعل أبو بكر، وجاءت الآيات في سورة الروم (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(<!--) [سورة الروم الآيات: 1 ـ 5]

ويبرز فقه الواقع في هذه القصة فيما يلي:

1ـ أن القصة بين فريقين كافرين، ومع ذلك خلدها القرآن الكريم؛ لأثرها المباشر على حياة المسلمين.

2ـ اهتمام المسلمين بهذه القضية، وحزنهم عندما انتصرت فارس، وفرحهم عندما انتصر الروم.

3ـ معايشة أبى بكر لهذه الأحداث، والمراهنة على انتصار الروم.

4ـ إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بل طلبه أن يمد في الأجل لأن (البضع) إلى عشر سنوات. والقضية ليست قضية سياسية بحتة كما يتصور كثير من الناس، بل هي قضية مبدأ، فانتصار الملحدين على أهل الكتاب يؤثر على المسلمين، وانتصار أهل الكتاب دليل على انتصار الحق على الباطل، وهو مؤذن بانتصار المسلمين على أهل الكتاب بعد ذلك؛ لأنهم هم الذين على الحق.

وهنا يأتي السؤال الذي أوجهه إلى طلاب العلم فأقول: إنني أرى أن روسيا وأمريكا تمثلان دور فارس والروم في الماضي، فهل كنا ندرك ما كان يجري بين الدولتين أيام الحرب الباردة؟ أو أننا نقول: هذه أمور لا تعنينا. ثم هل أدركنا وحللنا مرحلة الوفاق بعد ذلك، وأثر هذا الأمر على المسلمين؟ أو أننا نقول: الكفر ملة واحدة.

وعندما انهارت المنظومة الشيوعية، هل فرحنا بذلك فرحا عمليا، مبنيا على النتائج الحالية، وتوقع المستقبل المشرق بإذن الله؟ ثم هل نحن ندرس الآن قضية الصراع بين القوى؟ وأنه بعد أن كان بين الشرق والغرب، ثم انتصر الغرب على الشرق، سيكون الصراع بين الغرب النصراني والشرق المسلم.

وهنا سينتصر الإسلام في النهاية -بإذن الله- كما انتصر الروم النصارى على الفرس الوثنيين، ثم انتصر الإسلام على أهل الكتاب، وكذلك فقد انتصر الغرب النصراني على الشرق الملحد، وسينتصر المسلمون -بإذن الله- على أهل الكتاب: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(<!--) [سورة يوسف آية: 21].

وأخيرا: فبعد أن بينت أسس هذا العلم في الكتاب والسنة أشير إلى اهتمام السلف به، فهذا أبو بكر -كما بينت في قصة فارس والروم- يعني بهذه القضية عناية خاصة، وها هم الصحابة يتابعون هذه الأحداث متابعة ذات معنى، ويحزنون ويفرحون، بناء على ما يعلمونه من تأثير للهزيمة والانتصار في حياة المسلمين حاضرا ومستقبلا.

وعمر بن الخطاب يقول: "لست بالخب ولا الخب يخدعني" لست بالماكر المخادع -وحاشاه عن ذلك- ولكنه لا يمكن أن يخدعه الماكر المراوغ.

فالمسلم كيس فطن، واع مدرك لما حوله.

والعلماء من سلف هذه الأمة كانوا خيرمثال لحسن تعاملهم مع واقعهم، فالإمام أحمد بن حنبل في فتنة القول بخلق القرآن، وشيخ الإسلام بن تيمية في موقفه من التتار، وابن القيم فيما دونه عن فقه الواقع وحاجة المفتي إليه، والعز بن عبد السلام في مواقفه الخالدة من النصارى ومن حالفهم.

كما أن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ذكر في تفسيره أن فقه المسلم لواقعه من لوازم معرفة (لا إله إلا الله) على معناها الصحيح، ولم لا ؟ وبفقه الواقع يكتمل مبدأ تحقيق الولاء والبراء، وهذا المبدأ أصل من أصول عقيدة التوحيد التي جاءت بها (لا إله إلا الله).

وبعد:

ومن خلال ما سبق تبين لنا أساس هذا العلم، وأهميته من خلال الكتاب والسنة وفقه سلف الأمة، فحري بالعلماء خصوصا، وطلاب العلم عموما أن يدركوا هذه الحقيقة، ويتعاملوا معها تحقيقا لمفهوم (لا إله إلا الله)، والتزاما بمنهج الكتاب والسنة، واستبانة لسبيل المجرمين.

مقومات فقه الواقع

لكل علم أصوله وقواعده التي يبنى عليها، وبدون تلك الأصول والقواعد يصبح علما لا هوية له، وفنا يخضع للأهواء والأمزجة، وفقه الواقع له أصوله ومقوماته التي عنها ينبثق ومنها ينطلق، وهذه المقومات تصونه من استباحة المدعين، وتعين الراغبين في التخصص فيه، والتعمق في بحوره. وبمقدار اكتمال هذه المقومات تتكامل شخصية المنتمي إليه، وحسب تخلف أي واحد منها ينثلم العلم ويضعف صاحبه.  (<!--).

وسأذكر كل مقوم مع إلقاء الضوء عليه، بما يزيل الغموض أو اللبس، ومن الله أستمد العون والتوفيق.

 

أولا: القناعة بأهميته  (<!--)

لا يمكن أن يتخصص في هذا العلم من يتصور أن فقه الواقع مجرد مزيد من الثقافة، أو أن الأمة ليست بحاجة إليه. البوابة الرئيسية للولوج فيه: القناعة التامة بأهميته وضرورته، وأن تعلمه فرض كفاية.

على طالب العلم أن يدرك أن من أسباب تخلف الأمة في عصرها الحاضر جهلها بواقعها، وغفلة بعض طلاب العلم عما يكيده الأعداء ويخططون له، فالمنافقون وأسيادهم ينقضون الإسلام عروة عروة -ضمن تخطيط محكم رهيب- ونحن في غفلة من استبانة سبيل المجرمين، حتى استحكمت العلمنة في كثير من بلاد المسلمين.

ترى لو تنبه الدعاة والعلماء لهذا الأمر منذ عهد الاستعمار هل يحقق الأعداء ما حققوه في عالمنا الإسلامي؟ لأن الوعي يقود إلى العمل، والعمل يدرأ المخاطر بإذن الله.

انشغل بعض طلاب العلم والدعاة في قضايا مهمة -ولا شك- ولكنهم غفلوا عن قضايا أكثر أهمية، ومنها فقه الواقع، فخلا الجو لأعدائنا، وأصبحوا كما قال الشاعر:

خلا لك الجو فبيضي وأصفري

 

ونقري ما شئت أن تنقري

ومن هنا فالمقوم الأول أن نقتنع بأهمية هذا العلم وأثره في حياة المسلمين، وحاجة الأمة إليه حاضرا ومستقبلا.

  ثانيا: التأصيل الشرعي

من الملحوظ في واقعنا أن أكثر المعنيين بفقه الواقع ممن لم يدرسوا العلوم الشرعية ولم يتخصصوا فيها، بل إن عباقرة العلم السياسي المعاصر -حسب ما تنشر وسائل الإعلام- من غير المسلمين، ولذا نلحظ في أحداث الخليج مثلا تسابق وسائل الإعلام إلى استطلاع رأي هؤلاء، وكأنهم الحجة وإليهم المنتهى، وهذا سببه عزوف كثير من طلاب العلم عن التخصص في هذا الجانب، بل إن بعضهم لديه قناعة أن هذا الأمر لا يعنيه، حتى رأينا من طلاب العلم من يفسر الحديث المشهور " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " أي بأن يترك أمور السياسة وفقه الواقع لغيره.

بل إن هناك من إذا أراد أن يثني على أحد طلاب العلم، عدد من محاسنه وصفاته العلمية أنه لا يتدخل فيما لا يعنيه -يقصد الأمور السياسية- وهذا تفسير للحديث على غير ما ورد له، وحمل له على غير محمله، وهناك فرق بين أن يتدخل المسلم في عمل غيره -مما لا يعنيه-، وبين أن يفقه حدود هذا العمل وأصوله وضوابطه، وبعبارة أدق، فرق بين أن تتدخل في تنفيذ هذا العمل الذي لم تكلف به، وبين أن تقول كلمة الحق إذا تجاوز صاحب العمل حدوده التي شرعها الله، ولن تستطيع أن تدرك هذا إلا إذا فهمت واقعك.

ومن هنا رأينا أن أكثر من يتعاطى هذا العلم يعتمد على الأسباب المادية، ويحلل الأحداث ويتوقع النتائج بعيدا عن الأسباب الشرعية، لأن (فاقد الشيء لا يعطيه) وما بني على خطأ فمآله إلى خطأ.

وهل ينبت الخطي إلا وشيجه

 

وتغرس إلا في منابتها النخل

ولذا فإن أقوى مقوم من مقومات فقه الواقع هو التأصيل الشرعي، وأحق الناس في هذا الجانب هم العلماء وطلاب العلم.

ولا يستلزم أن يكون المتخصص في فقه الواقع أحد خريجي كلية الشريعة، وإنما لا بد أن يكون لديه من العلم الشرعي ما يحتاج إليه في تخصصه، مما لا يعذر بجهله من فرض العين أو الكفاية.

ولنأخذ لذلك مثلا:

لو قامت حرب بين فئة مؤمنة وفئة كافرة، فإن المعني بفقه الواقع ممن يفتقد العلم الشرعي سيحلل الأحداث، ويتوقع النتائج معتمدا على الأسباب المادية فقط، فسيبدأ في إحصاء الجيوش، وما لدى كل فريق من عدة وعتاد، والظروف الجغرافية، وهلم جرا، بينما المتخصص في ذلك ممن يملك الدليل الشرعي سيبين أهمية الأسباب المادية، وأن الله قد أمرنا بالأخذ بها (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)(<!--) ولكنه يعلم أن الأسباب المادية ليست إلا وسيلة من وسائل النصر المشروعة، وأن هناك من الأسباب الشرعية ما تتضاءل أمامه الأسباب المادية، فيبني تحليله وتوقعه ضمن هذا الإطار (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(<!--) [سورة آل عمران، آية 173]. (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)(<!--) [سورة الشعراء، آية (61)]. (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)(<!--) [سورة محمد، آية (7)].

وخير مثال حي معاصر الجهاد الأفغاني، كم كان سيصمد المجاهدون الأفغان في توقعات الخبراء الماديين؟ وكيف صمدوا في تحليل الفقهاء الشرعيين؟ ولماذا لم يحققوا الانتصار النهائي بعد سنوات من الجهاد؟ لا يدرك تفسير هذا إلا العلماء الربانيون.

ولنأخذ مثلا آخر: وهو أحداث الخليج، فقد تابعت ما كتبه كثير من الخبراء والمحللين في تقييمهم للأحداث ونتائجها، ولفت نظري التخبط والاضطراب في هذا الأمر؛ ولم أجد له سببا سوى البعد عن التحليل الشرعي، والاعتماد على الأسباب المادية بمعزل عن الرؤية الشرعية.

لهذا كله أقول: إن من أول ما يجب أن يعتني به المتخصص في هذا الفن أن يبني علمه على أسس شرعية، مستمدة من الكتاب والسنة، وأخص علم العقيدة، فبدونه لن نفقه مبدأ الولاء والبراء، وعليه تبنى العلاقات بين الأمم والشعوب، وبعلم العقيدة نفهم حدود الإيمان وضوابطه، والخوف، والرجاء، والتوكل، وحقيقة النصر والهزيمة، ومن كتاب الله ندرك سبل المجرمين وأساليبهم، وما يجب تجاه ذلك، ومن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم نبني أسس التعامل مع الواقع الذي نعيشه، دون إفراط أو تفريط، مما يمكن للدعوة ويجنبها المزالق.

وأشير إلى أن هذا لا يمنع من أن نفيد من المتخصصين في العلوم السياسية وغيرها، ممن لم يبن علمه على أصول إسلامية، ولكن بعد عرضها على الأصول والضوابط والمنطلقات الشرعية  (<!--). وبهذا تتكامل الرؤية ويتحقق الهدف.

  ثالثا: سعة الاطلاع وتجدده

يختلف هذا العلم عن كثير من العلوم، فهناك بعض الفنون يستطيع طالبها أن يتقنها في فترة محددة، ثم ينتقل إلى غيرها، بينما بعض أنواع العلوم يحتاج المتخصص إلى الاستمرار في متابعتها، وملاحقة الجديد فيها. فمثلا: علم الفرائض علم مهم جدا، بل قيل إنه نصف العلم، ومع ذلك فيستطيع طالب العلم أن يتقنه في فترة محددة، ثم يبدأ في الإفادة منه وتطبيقه، وليس فيه مجال للتوسع إلا في مسائل فرعية، وكذلك علم النحو، فلم يترك المتقدم للمتأخر شيئا، فما علينا إلا أن نتقن ما دوّنه أسلافنا، ولذلك باءت محاولات التجديد فيه بالفشل، وحق لها ذاك.

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

<!-- - سورة آل عمران آية: 110.

<!-- - سورة آل عمران آية: 165.

<!-- - انظر رسالة" قل هو من عند أنفسكم" للشيخ عبد العزيز الجليل.

<!-- - سورة الأنعام آية: 55.

<!-- - سورة التوبة آية: 49.

<!-- - سورة التوبة آية: 56.

<!-- - سورة التوبة آية: 62.

<!-- - سورة التوبة آية: 67.

<!-- - سورة التوبة آية: 107.

<!-- - سورة التوبة آية: 127.

<!-- - سورة البقرة آية: 76.

<!-- - سورة البقرة آية: 120.

<!-- - سورة البقرة آية: 146.

<!-- - سورة المائدة آية: 14.

<!-- - سورة التوبة آية: 19.

<!-- - سورة التوبة آية: 17.

<!-- - سورة الحشر آية: 11.

<!-- - انظر فقه السيرة للغزالي، فقد صحح الألباني هذا الحديث.

<!-- - متفق عليه- البخاري8/267، ومسلم(2583).

<!-- - متفق عليه- البخاري8/267، ومسلم(2583).

<!-- - سورة الأحزاب آية: 21.

<!-- - سورة الروم آية: 1-5.

<!-- - سورة يوسف آية: 21.

<!-- - هذه المقومات التي سأذكرها ليست على سبيل الحصر، ولكنها خلاصة البحث والاستقراء، وفوق كل ذي علم عليم.

<!-- - يرى بعض طلاب العلم أن هذا مدخل للعلم وليس مقوما، ولكن لا مشاحة في الاصطلاح.

<!-- - سورة الأنفال آية: 60.

<!-- - سورة آل عمران آية: 173.

<!-- - سورة الشعراء آية: 61.

<!-- - سورة محمد آية: 7.

<!-- - وهو من باب "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" صحيح الجامع 1/600 رقم 3131 مع الضوابط التي ذكرها العلماء في هذا الباب. 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 222 مشاهدة
نشرت فى 5 أغسطس 2012 بواسطة maiwagieh

ساحة النقاش

الأستاذ الدكتور / وجيه المرسي أبولبن، أستاذ بجامعة الأزهر جمهورية مصر العربية. وجامعة طيبة بالمدينة المنورة

maiwagieh
الاسم: وجيه الـمـرسى إبراهيـــم أبولـبن البريد الالكتروني: [email protected] المؤهلات العلمية:  ليسانس آداب قسم اللغة العربية. كلية الآداب جامعة طنطا عام 1991م.  دبلوم خاص في التربية مناهج وطرق تدريس اللغة العربية والتربية الدينية الإسلامية. كلية التربية جامعة طنطا عام 1993م.  ماجستير في التربية مناهج وطرق تدريس اللغة العربية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,632,936