نظريات التعلم
بذل علماء النفس جهداً كبيراً في محاولتهم لتفسير التعلم عند الإنسان ، وحتى عند الحيوان ، و قد استقطبت قضايا التعلم ، اهتمام مشاهير علماء النفس في هذا القرن أمثال : ادوارد ثورندايك ، و إيفان بافلوف ، و ادوين جثري ، و كلارك هل ، وبوريس سكنر ، وكوفكا وكوهلر ، وكورت ليفين ، وجان بياجيه ، وجيرم برونر ، وديفيد أوزوبل و غيرهم .
و على أي حال ، فإن نظريات التعلم تستحق أن يحشد لها مثل هذا الجهد ، فهي تحتل مكان الصدارة بين شتى موضوعات علم النفس ، إذ يندر أن يصدر سلوك إرادي عن الإنسان ، لا يكون لعملية التعلم دور فيه ، سواء أكان هذا السلوك عضلياً أم مزاجياً أم عقلياً . بسيطاً كان هذا السلوك أو معقداً ، مقصوداً أو غير مقصود .
فالتعلم لُبْ العملية التربوية وهو عملية تغير شبه دائم في سلوك الفرد لا يمكن ملاحظته مباشرة ، ولكن يستدل عليه من الأداء أو السلوك الذي يصدر من الفرد ، وينشأ نتيجة الممارسة ، كما يظهر في تغير أداء الفرد .
ولم يختلف علماء النفس على مركزية موضوع التعلم و أهميته في حياة الإنسان باعتباره أقدر الكائنات الحية على التعلم ، و أكثرها حاجة له . غير أن الاختلافات بين وجهات نظر هؤلاء العلماء في تفسير قضايا ونظريات التعلم كانت كبيرة .
وبما أن نظريات التعلم واسعة و متعددة ، والخوض في تفاصيلها والاختلافات فيما بينها أمر صعب ، بل ويعرض إلى ضياع المعالم الرئيسية التي نحتاج إليها ، لذلك فمن الضرورة أن نتعرض لبعضها دون البعض الآخر ، و أن يكون اختيارنا مبنياً على أسس واضحة .
أما الأسس التي روعيت في اختيارنا للنظريات التي سنعرضها في هذا المقام فهي التالية :
<!--أن نتطرق إلى النظريات الأساسية و الرائدة والتي تعتمد عليها النظريات الأخرى المحدثة والتي لا يمكن استيعابها بدون التعرض لتفسيرات النظريات الأساسية ، التي قامت على أساس تجربة أو تجارب رائدة ، ومثال ذلك : النظرية الشرطية اعتمدت على تجارب بافلوف المعروفة والتي استخدم فيها الكلاب ، ونظرية سكنر بالتعلم الشرطي الإجرائي ، ونظرية المحاولة و الخطأ قامت على تجارب ثورندايك على القطط وغيرها من الحيوانات وبخاصة قانون الأثر الذي ورد في هذه النظرية و اعتمدت فكرته نظريات عديدة أخرى بعد ذلك .
<!--أن تكون النظريات المختارة ممثلة للاتجاهات المتباينة في تفسير عملية التعلم .
<!--أن ينصب الإهتمام بالدرجة الأولى على النظريات ذات العلاقة بمواقف التعلم الصفي الذي يتعرض لها التلاميذ .
وسنتوسع في بحثنا هذا في نظرية المحاولة و الخطأ للعام ثورندايك
التعلم بالمحاولة و الخطأ و قوانينهما :
و يطلق على هذا الاتجاه مسمى " الاتجاه الربطي " حيثُ يقوم المتعلم بربط المثير و الاستجابة ، و تشكل الرابطة هنا وحدة التعلم الذي يقاس به الأداء . ويُعد ( ثورندايك ) أبو علم النفس التربوي صاحب هذا الاتجاه .
مفاهيم التعلم بالمحاولة والخطأ :
1- المثير: هو أي شيء يتعرض له الكائن الحي سواء أكان مصدره داخلياً أم خارجياً، أو هو أي حدث أو موضوع يعمل على إحداث السلوك.
2- الاستجابة: هي السلوك العضلي أو الغددي أو الكلامي أو الانفعالي أو الاجتماعي أو العقلي يرد به الكائن الحي على المثيرات.
3- الارتباط: ارتباط المثير بالاستجابة.
4- الاستعداد: ويقصد به القدرة على اكتساب أنماط من المعرفة أو المهارة.
5- الأثر: حالة الإشباع أو الضيق التي ترافق الاستجابة الناجحة أو الفاشلة.
نظرية التعلم بالمحاولة والخطأ :
( الاختيار والربط عند ثورندايك )
لمحة تاريخية :
وُلْدَ ادوارد ثورندايك في ويليمز بيرج بولاية ماساشوستس بالولايات المتحدة في الحادي والثلاثين من شهر آب عام 1874 م ، وبدأ تأثير أبحاثه على موضوع التعلم في الظهور منذ مطبع القرن العشرين .
و ظهرت الصورة التقليدية لأبحاث ثورندايك في نظرية التعلم في عامي 1913 م – 1914 م ، عندما نشر كتابه " علم النفس التربوي " الذي يتألف من ثلاثة أجزاء وحدد فيه قانون التدريب وقانون الأثر ، وهي المبادئ التي وضعها في ضوء أبحاثه التجريبية والإحصائية .
أما طريقته في البحث فقد كانت تقوم على المشاهدة وحل المشكلات وذلك على النحو التالي :
<!-- وضع العضوية في موقف يتطلب حل مشكله .
<!-- ترتيب توجهات الإنسان أو الحيوان .
<!-- اختيار الاستجابة الصحيحة من بين عدة خيارات .
<!-- مُراقبة سلوك الإنسان أو الحيوان .
<!-- تسجيل هذا السلوك في صورة كمية .
و قدْ كان ثورندايك مِنْ أوائل علماء النفس الذين حاولوا تفسير التعلم بحدوث ارتباطات تصل أو تربط بين المثيرات والاستجابات ، و يرى أن أكثر أشكال التعلم تميزاً عند الإنسان والحيوان على حدٍ سواء هو التعلم بالمحاولة والخطأ ، و يتضح هذا النوع من التعلم عندما يواجه المتعلم وضعاً مشكلاً ، يجب حله والتغلب عليه للوصول إلى هدف .
يستجيب الكائن الحي للمُثيرات التي تبْرز في موقف ما ، وبعض استجاباته يكون خاطئاً وبعضها يكون صحيحاً ، ويؤدي تكرار الاستجابة بصورة مُتداخلة إلى تناقض الاستجابات الخاطئة و زيادة ظهور الاستجابات الصحيحة الأكثر تناسباً مع المثير ، و بمعنى آخر يحْصل ربط بين الاستجابات الناجحة ومثيلاتها تدريجياً ، بحيث تُصبح الاستجابات الناجحة هي أكثر الاستجابات ظهوراً ، عندما يقع المتعلم تحت تأثير مُثيرات هذه الاستجابات فيما بعد .
فالتعلم من وجهة نظر ثورندايك هو تغير آلي في السلوك ، ولكنه يقود تدريجياً إلى الابتعاد عن المحاولات الخاطئة ، أي إلى نسبة تكرار أعلى للمحاولات الناجحة ، التي تؤدي إلى أثر مُشبع . وعليه فعلم النفس عند ثورندايك هو دراسة علمية ، و أن التعلم هو تغير في السلوك ، ويقصد بالسلوك كل ما يصدر عن الكائن الحي من أفكار و مشاعر و أفعال .
و قد عُرفت نظرية ثورندايك ، التي ظلت مُسيطرة لعدة عقود من القرن الماضي على الممارسات التربوية في الولايات المتحدة الأمريكية ، باسم الترابطية لأنه اعتقد أن التعلم عملية تشكيل ارتباطات بين المثيرات واستجاباتها . وقد طور ثورندايك ، نظريته من خلال الأبحاث الطويلة ، التي قام بها على أثر المكافأة في سلوك الحيوانات المختلفة. وإحدى أبرز تجاربه كانت على القطط الصغيرة الجائعة إذا ما وُضعت في أحد الأقفاص أو الصناديق المُشْكّلة ، و وُضع بجانبها من الخارج طعام ، فإنها ستسلك نفس نوع السلوك ، وستتعلم الخروج من الصندوق بنفس الطريقة .
و توصل ثورندايك نتيجة هذه التجارب إلى أن الحيوانات غير قادرة على العمليات العقلية العليا كالفهم و الاستبصار . لأن الحيوان لو أنه تفهم المشكلة إذن لوصل إلى الحل في وقت قصير . و أيقن أن تعلم هذه المواقف يتم بالتدريج بمعنى أن تكرار المحاولات يؤدي إلى تقدم تدريجي نحو السيطرة على الموقف و تعلم الاستجابة الصحيحة . ولخص من ذلك بأن الحيوانات تتعلم عن طريق المحاولة و الخطأ . فهي تستبعد أثناء محاولات التعلم المتتالية ، الاستجابات الخاطئة و تقوي الاستجابة الصحيحة التي توصل إلى الحل ، وتبقى في النهاية الاستجابة الصحيحة وحدها .
وسنذكر فيما يلي مثالاً لإحدى تجارب ثورندايك ، و كيف توصل عن طريق مثل هذا النوع من التجارب إلى تفسير عملية التعلم .
وضع ثورندايك قطة في قفص مقفل . و وضع في خارج القفص وعاء به بعض الطعام ، بحيث ترى قطعة الطعام ولا تستطيع الوصول إليه إلا إذا خرجت من القفص ، ولا يمكن للقطة أن تخرج من القفص إلا إذا جذبت سقاطة معينة موجودة داخله ، إذ أن جذب السقاطة سيعمل في الحال على فتح باب معين و من ثم تستطيع القطة الخروج .
فالدافع هنا هو الجوع ، و الهدف هُنا هو الطعام خارج القفص ، و الاستجابة التي توصل إلى الهدف هي جذب السقاطة .
راقب ثورندايك سلوك القطة ، و وجد أنها بدأت ببذل محاولات مباشرة في اتجاه مرأى الطعام ، فحاولت أن تنفذ من خلال القضبان . و أخذت في عضها بقصد إزالتها و بقصد إيجاد ثغرة تنفذ منها ، و حاولت الوصول إلى الطعام بمد يدها من خلال القضبان ، وهكذا استمرت في مجموعة من المحاولات و الحركات التي لا تؤدي إلى الهدف ، حتى حدث أخيراً أثناء تحركها في القفص أن جذبت السقاطة فانفتح الباب و خرجت من القفص حيث وصلت إلى الهدف و تناولت الطعام .
كرر ثورندايك هذه التجربة ، و وضع القطة مرة أخرى و هي جائعة في القفص ، فوجد أن القطة تعمل نفس الحركات و الاستجابات الخاطئة التي سبق أن عملتها في المرة الأولى و التي لا تؤدي إلى الهدف ، و لكنها لم تكررها كثيراً ، و وصلت أخيراً إلى الهدف و لكن في وقت أقل و بعد عدد من المحاولات أقل .
و بعد تكرار التجربة عدة مرات وجد ثورندايك أن الحركات الخاطئة تقل بالتدريج ، و أن الزمن المستغرق في الخروج من القفص يقل كذلك حتى أتى الوقت الذي أصبحت القطة تعمل فيه الاستجابة الصحيحة ( جذب السقاطة ) بعد وضعها في القفص مباشرة و تستغرق في الخروج ثواني قليلة .
وعلى هذا أمكن لثورندايك أن يستنتج أن القطة لم تتعلم الاستجابة الصحيحة التي تؤدي إلى الهدف إلا بعد بذل عدد من المحاولات الخاطئة ، وأن تعلم هذه الاستجابة الصحيحة و استبعاد الخاطئة ثم بالتدريج .(1)
و إذا حاولنا أن نحلل ما يحدث أثناء هذا النوع من التعلم نجد أن :
<!-- لا بد من وجود دافع عند الحيوان يوجه سلوكه نحو الهدف ، هذا الدافع ينبني على حاجة عند الحيوان يريد إشباعها .
والدافع الذي أعتمد عليه ثورندايك في التجربة هو دافع الجوع . وكثيراً ما يستخدم هذا الدافع والدوافع الفسيولوجية الأخرى كدافع العطش والدافع الجنسي في تجارب الحيوان لأنها أكثر تأثيراً ، ولأنه يمكن التحكم في أحوالها التجريبية . وقد سبق أن أشرنا إلى أهمية مثل هذا النوع من الدوافع بالنسبة لتعلم الحيوان .
<!--<!--<!-- وجود عقبة تقف في سبيل الحيوان وتحول بينه وبين الوصول إلى الهدف . فتصور ثورندايك لموقف التعلم هو أنه موقف يتضمن مشكلة
(1) ( التعلم أسسه ونظرياته وتطبيقاته، د. إبراهيم وجيه محمود، ص 150- 152)
ولكي يسيطر الحيوان على هذا الموقف لابد أن يتخلص من العقبات الموجودة التي تنهي الموقف المشكل . فالباب المغلق في التجربة السابقة هو عقبة تقف بين الحيوان وبين الوصول إلى الهدف . ويصبح الغرض من التعلم هو أن يتخلص من هذه العقبة ويتصرف بالنسبة لها التصرف المناسب ( أن يضغط على السقاطة التي تفتح الباب ليخرج من القفص ) . ومواقف التعلم أغلبها من النوع الذي يتضمن عددا من العقبات لابد من التخلص منها ليتحكم الكائن الحي في نهاية الأمر من الموضوع الذي يتعلمه.
<!-- وفي سبيل الوصول إلى الهدف والتخلص من العقبات التي تحول بين الحيوان وبين بلوغه يبذل الحيوان مجموعة من الحركات والاستجابات العشوائية قبل أن يصل إلى الاستجابة الصحيحة التي توصل إلى حل المشكلة وتساعد على بلوغ الهدف ( جذب السقاطة ) .
وفكرة ثورندايك هي أن الحيوان لا يدرك الخطوات التي يجب أن يقوم بها لكي يصل إلى هدفه وأنه لو أدرك هذه الخطوات ، أو بمعنى آخر لو أدرك طريقة لما كان هناك دافع للحركات العشوائية التي يقوم بها حتى يصل في النهاية للاستجابة الصحيحة التي تنهي الموقف المشكل .
<!-- أن الوصول إلى الاستجابة أو الحركة الصحيحة يحدث مصادفة ، ومن ثم يميل إلى الجانب الذي حدثت فيه الاستجابة ( الجانب من القفص الذي لمس فيه السقاطة ) مما يؤدي إلى زيادة احتمال حدوث الاستجابة الصحيحة في المرات التالية . وكلما استمرت المحاولات كلما قلت الاستجابة الخاطئة وقل الزمن المستغرق في الوصول إلى الحل ، حتى يتمكن الحيوان من عمل الاستجابة الصحيحة وحدها في النهاية وهذه العملية تتم بالتدريج بخروج القطة من القفص .
<!--في المواقف التالية يميل الحيوان لتكرار السلوك الذي سبق أن وصل عن طريقه للهدف بينما لا يكرر السلوك الذي لم يوصله إلى الهدف.(1)
<!--<!--[if !vml]-->
(1) ( التعلم أسسه ونظرياته وتطبيقاته، د. إبراهيم وجيه محمود، ص 153- 154)
مثال لطفل يقوم بالتزلج للمرة الأولى عن طريق التعلم بالمحاولة و الخطأ:
<!--<!--
عند ذهاب صبي للمرة الأولى في رحلة مع أصدقائه إلى جبال الثلج لقضاء الوقت في متعة التزلج , نجد أن الصبي ينظر إلى أنواع الزلاجات والعصيّ , وإلى روعة وجمال الثلج ولونه الأبيض , ويستمتع بمشاهدة الأشخاص يتزلجون بمهارة وهم في غاية الفرح . فتتحرك في دواخله رغبة في التزلج بين كثبان الثلج,
فيبدأ بلبس الزلاجة وهو يشعر بسهولة التزلج بسبب مشاهدته لأداء المتزلجين فصوّر في مخيّلته طريقة يحاكي فيها مهارتهم ..
ولكن بعد لبس الزلاجات والوقوف عليها وبدأ السير بها قد تتغير لديه فكرة سهولة التزلج , فالمشاهدة ليست كالتطبيق والتجريب ؛ فيبدأ بمحاولة تطبيق ما يفعله المتزلجين فيسقط مرات عديدة في أول الأمر لعدم وجود التوازن , ثم يبدأ بمحاولة تثبيت نفسه بالعصا شيئاً فشيئاً , كما أنه يبدأ في منطقة صغيرة لاعتقاده بأنها المساحة المناسبة للتدريب , ولكن عند استمرار محاولاته التي تبوء بالفشل والتي لا تشبع رغبته في التزلج المستمر , سيستنتج أن المساحة الكبيرة هي الأفضل للتدريب والتزلج حتى يتمكن من إطالة مساحة السير بدون توقف أو سقوط , فعندما يبدأ بالتزلج في المنطقة الكبيرة تزداد في كل مرة المسافة التي يتزلج فيها بدون سقوط ومع تكرار المحاولة والإصرار على الاستمرار للوصول لإشباع رغبته في التزلج الجيد , نجده قد حقق هذه الرغبة وأصبح يتزلج بسهولة وسرعة وبدون سقوط .
ساحة النقاش