الموقع التربوي للدكتور وجيه المرسي أبولبن

فكر تربوي متجدد

 

عدم التفريق بين الأدلة الشرعية من حيث الأخذ بها .


والمراد بهذه القاعدة أنه يستدل في الاعتقاد – ومنه مسائل الأسماء والصفات – بأدلة الشرع الأصيلة كلها، القرآن، والحديث بقسميه المتواتر والآحاد المتلقاة بالقبول. وعلى هذا كان الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان.
وأكثر الكلام هنا سيكون عن الأحاديث إذ أكثر المتكلمون من القول بأن أحاديث الآحاد تفيد الظن فلا يؤخذ بها في المسائل العلمية الاعتقادية وهذا القول قالوه لعدم مقدرتهم على صرف ظاهرها بأنواع التحريفات التي سموها تأويلات، فأصلوا هذه القاعدة ليتوصلوا بها إلى جحد كثير من المسائل التي تخالف أصولهم.
وهذه القاعدة – أي عدم التفريق بين الأدلة – تقوم على بيان ثلاثة أسس هي:
الأول: الأدلة من الكتاب والسنة على حجية السمع مطلقاً.
الثاني: بيان إفادة خبر الواحد المتلقى بالقبول العلم والعمل.
الثالث: بيان عدم مخالفة الأحاديث للقرآن في باب الأسماء والصفات.
أما الأساس الأول: الأدلة على حجية السمع بقسميه مطلقاً:
فالأدلة في هذا كثيرة يكفي ذكر آيتين من كتاب الله، فالآيتان إحداهما توجب الأخذ بالقرآن والسنة، والثانية تبين حفظهما. أما الآية الأولى فقول الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر: 7]، وهذا النص شمل كل ما جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هو في القرآن وبينه في سنته، سواء كان ذلك في الاعتقادات أو غيرها.
وأما الآية الثانية فقول الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ومعلوم أن هذا يشمل القرآن والحديث، وحتى على القول بأن الذكر في الآية هو القرآن فإنه يقال: قد أنزل الله تعالى كتابه – وهو الذكر – ليبينه رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44]، وأنواع البيان كثيرة كبيان مجمل، أو تخصيص عام، وكل ذلك جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة أولها وآخرها كما قال الله تعالى: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام: 19]، فصح بهذا أن السنة الصحيحة حجة مطلقاً في أي زمان.
الأساس الثاني: خبر الواحد إذا احتفت به القرائن يفيد العلم:
وأذكر هنا حديثين يفيدان قبوله، ثم أتبعه بأقوال أهل العلم خاصة في الصفات، أما الحديثان، فالأول: حديث بعث معاذ إلى اليمن – حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ))إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله)) . .
والثاني: عن أنس: ))أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام، قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: هذا أمين هذه الأمة)) . .
واكتفيت بهذين الحديثين لأنهما يبينان السنة العملية، ولا يقال إن هذين من أحاديث الآحاد فيكف يجعلان حجة في قبول خبر الآحاد؟ والجواب من وجهين:
الأول: إن مثل هذا يعد تواتراً معنوياً إذ بعث الرسول صلى الله عليه وسلم – أفراداً من أصحابه إلى عدة أماكن – كبعثه علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبا موسى، وأبا عبيدة وغيرهم – رضي الله عنهم.
الثاني: إن هذين الحديثين مخرجان في الصحيحين، وهما مما لم يتكلم فيه النقاد بالطعن، وما كان كذلك فقد اجتمعت الأمة على تلقيه بالقبول.
ووجه الاستدلال بذلك كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: (وهو - صلى الله عليه وسلم- لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان قادراً على أن يبعث إليهم فيشافههم، أو يبعث إليهم عدداً، فبعث واحداً يعرفونه بالصدق) . .
فصح مما تقدم من الحديثين أن خبر الواحد الصحيح المفيد للعلم حجة في العقيدة وعلى هذا كان الأئمة – رحمهم الله تعالى - . . أما الذين قالوا بأنه لا يفيد العلم واخترعوا هذه المقالة إنما كان قصدهم رد الأخبار التي لا توافق بدعهم، وفي هذا الصدد يقول الإمام أبو المظفر السمعاني الشافعي: (إن الخبر إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه الثقات والأئمة وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم، هذا عامة قول أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة، وإنما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال ولابد من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به شيء اخترعته القدرية والمعتزلة وكان قصدهم منه رد الأخبار...) 

المطلب السادس: الاستدلال بقياس الأولى دون غيره من أنواع القياس


إن الله تعالى لا مثيل له، بل له المثل الأعلى، ولذلك نهى أن يضرب له المثل فقال: فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النحل: 74]، فلا يجوز أن يمثل بغيره من الخلق، سواء كان ذلك بقياس تمثيل أو قياس شمول . . وإنما يستعمل في حقه سبحانه، قياس الأولى الدال عليه قول الله تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ [النحل: 60] أي الأكمل والأحسن والأطيب كما قال ابن جرير رحمه الله. فقياس الأولى راجع إلى الأمثال المضروبة في الكتاب والسنة.
ويستعمل قياس الأولى في الإثبات وفي التنزيه.
أما في الإثبات: فإنه يكون في أمرين كليين 

المطلب الأول: حكم استعمال الأقيسة في حق الرب سبحانه وتعالى


 وأما القسم الثاني ـ وهو دلائل هذه المسائل الأصولية ـ فإنه وإن كان يظن طوائف من المتكلمين المتفلسفة أن الشرع إنما يدل بطريق الخبر الصادق فدلالته موقوفة علي العلم بصدق المخبر ويجعلون ما يبني عليه صدق المخبر معقولات محضة ـ فقد غلطوا في ذلك غلطا عظيما بل ضلوا ضلالا مبينا في ظنهم أن دلالة الكتاب والسنة إنما هي بطريق الخبر المجرد بل الأمر ما عليه سلف الأمة أهل العلم والإيمان من أن الله سبحانه وتعالي بين من الأدلة العقلية التي يحتاج إليها في العلم بذلك ما لا يقدر أحد من هؤلاء قدره ونهاية ما يذكرونه جاء القرآن بخلاصته علي أحسن وجه وذلك كالأمثال المضروبة التي يذكرها الله في كتابه التي قال فيها: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ[الزمر: 27] فإن الأمثال المضروبة هي الأقيسة العقلية سواء كانت قياس شمول أو قياس تمثيل ويدخل في ذلك ما يسمونه براهين وهو القياس الشمولي المؤلف من المقدمات اليقينية وإن كان لفظ البرهان في اللغة أعم من ذلك كما سمي الله آيتي موسى برهانين: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ [القصص: 32] ومما يوضح هذا أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع ولا بقياس شمولي تستوي فيه أفراده فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء فلا يجوز أن يمثل بغيره ولا يجوز أن يدخل تحت قضية كلية تستوي أفرادها ولهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى اليقين بل تناقضت أدلتهم وغلب عليهم ـ بعد التناهي ـ الحيرة والاضطراب لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولي سواء كان تمثيلا أو شمولا كما قال تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ [النحل: 60] مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للممكن أو المحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه ـ وهو ما كان كمالا للموجود غير مستلزم للعدم ـ فالواجب القديم أولى به وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق المربوب المعلول المدبر فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره فهو أحق به منه وأن كل نقص وعيب في نفسه ـ وهو ما تضمن سلب هذا الكمال إذا وجب نفيه عن الرب تبارك وتعالى بطريق الأولى وأنه أحق بالأمور الوجودية من كل موجود وأما العدمية بالممكن المحدث بها أحق ونحو ذلك ومثل هذه الطرق هي التي كان يستعملها السلف والأئمة في مثل هذه المطالب كما استعمل نحوها الإمام أحمد ومن قبله وبعده من أئمة أهل الإسلام وبمثل ذلك جاء القرآن في تقرير أصول الدين في مسائل التوحيد والصفات والمعاد ونحو ذلك ومثال ذلك أنه سبحانه لما أخبر بالمعاد ـ والعلم به تابع للعلم بإمكانه فإن الممتنع لا يجوز أن يكون ـ بين سبحانه إمكانه أتم بيان ولم يسلك في ذلك ما يسلكه طوائف من أهل الكلام حيث يثبتون الإمكان الخارجي بمجرد الإمكان الذهني فيقولون: هذا ممكن لأنه لو قدر وجوده لم يلزم من تقدير وجوده محال فإن الشأن في هذه المقدمة فمن أين يعلم أنه لا يلزم من تقدير وجوده محال؟ فإن هذه قضية كلية سالبة فلا بد من العلم بعموم هذا النفي وما يحتج به بعضهم على أن هذا ممكن بأنا لا نعلم امتناعه كما نعلم امتناع الأمور الظاهر امتناعها مثل كون الجسم متحركا ساكنا فهذا كاحتجاج بعضهم علي أنها ليست بديهية بأن غيرها من البديهيات أجلى منها وهذه حجة ضعيفة لأن البديهي هو ما إذا تصور طرفاه جزم العقل به والمتصوران قد يكونان خفيين فالقضايا تتفاوت في الجلاء والخفاء لتفاوت تصورها كما تتفاوت لتفاوت الأذهان وذلك لا يقدح في كونها ضرورية ولا يوجب أن ما لم يظهر امتناعه يكون ممكنا بل قول هؤلاء أضعف لأن الشيء قد يكون ممتنعا لأمور خفية لازمة له فما لم يعلم انتفاء تلك اللوازم أو عدم لزومها لا يمكن الجزم بإمكانه والمحال هنا أعلم من المحال لذاته أو لغيره والإمكان الذهني حقيقته عدم العلم بالامتناع وعدم العلم بالامتناع لا يستلزم العلم بالإمكان الخارجي بل يبقى الشيء في الذهن غير معلوم الامتناع ولا معلوم الإمكان الخارجي وهذا هو الإمكان الذهني فإن الله سبحانه وتعالى لم يكتف في بيان إمكان المعاد بهذا إذ يمكن أن يكون الشيء ممتنعا ولو لغيره وإن لم يعلم الذهن امتناعه بخلاف الإمكان الخارجي فإنه إذا علم بطل أن يكون ممتنعا والإنسان يعلم الإمكان الخارجي: تارة بعلمه بوجود الشيء وتارة بعلمه بوجود نظيره وتارة تعلمه بوجود ما الشيء أولى بالوجود منه فإن وجود الشيء دليل علي أن ما هو دونه أولى بالإمكان منه ثم إنه إذا تبين كون الشيء ممكنا فلا بد من بيان قدرة الرب عليه وإلا فمجرد العلم بإمكانه لا يكفي في إمكان وقوعه إن لم يعلم قدرة الرب على ذلك .

وأسماء الله توقيفية فلا يسمى سبحانه إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يسمى باسم عن طريق القياس أو الاشتقاق من فعل ونحوه خلافاً للمعتزلة والكرَّامية فلا يجوز تسميته بناءً ولا ماكراً ولا مستهزئاً أخذاً من قوله تعالى: وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات:47] وقوله: وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ [آل عمران:54] وقوله:اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] ولا يجوز تسميته زارعاً، ولا ماهداً ولا فالقاً ولا منشئاً ولا قابلاً، ولا شديداً، ونحو ذلك آخذاً من قوله تعالى: أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:64] وقوله فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات:48] وقوله أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ [الواقعة:72] وقوله تعالى فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [الأنعام:95] وقوله وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:3] لأنها لم تستعمل في هذه النصوص إلا مضافة وفي أخبار على غير طريق التسمي لا مطلقة فلا يجوز استعمالها إلا على الصفة التي وردت عليها في النصوص الشرعية فيجب ألا يعبَّد في التسمية إلا لاسم من الأسماء التي سمى بها نفسه صريحاً في القرآن أو سماه بها رسوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه من الأحاديث كأسمائه التي في آخر سورة الحشر، والمذكورة أول سورة الحديد، المنشورة في سور أخرى من القرآن وصلى الله عليه وسلم .

المطلب الثاني: حكم تعميم دلالة النص على الاسم والصفة والذات


دلالة النصوص نوعان حقيقة وإضافية فالحقيقة تابعة لقصد المتكلم وإرادته وهذه الدلالة لا تختلف والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه وجودة فكره وقريحته وصفاء ذهنه ومعرفته بالألفاظ ومراتبها وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباين السامعين في ذلك وقد كان أبو هريرة وعبد الله بن عمر أحفظ الصحابة للحديث وأكثرهم رواية له وكان الصديق وعمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أفقه منهما بل عبد الله بن عباس أيضا أفقه منهما ومن عبد الله بن عمر وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم - على عمر فهمه إتيان البيت الحرام عام الحديبية من إطلاق قوله إنك ستأتيه وتطوف به فإنه لا دلالة في هذا اللفظ في تعيين العام الذي يأتونه فيه وأنكر على عدي بن حاتم فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفس العقالين وأنكر على من فهم من قوله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردلة من كبر شمول لفظه لحسن الثوب وحسن النعل وأخبرهم أنه بطر الحق وغمط الناس وأنكر على من فهم من قوله من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه أنه كراهة الموت وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احتضر وبشر بالعذاب فإنه حينئذ يكره لقاء الله والله يكره لقاءه وأن المؤمن إذا احتضر وبشر بكرامة الله أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وأنكر على عائشة إذ فهمت من قوله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا معارضته لقوله صلى الله عليه وسلم من نوقش الحساب عذب وبين لها أن الحساب اليسير هو العرض أي حساب العرض لا حساب المناقشة وأنكر على من فهم من قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة وأنه لا يسلم أحد من عمل السوء وبين أن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهم والحزن والمرض والنصب وغير ذلك من مصائبها وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة وأنكر على من فهم من قوله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون أنه ظلم النفس بالمعاصي وبين أنه الشرك وذكر قول لقمان لابنه إن الشرك لظلم عظيم مع أن سياق اللفظ عند إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك فإن الله سبحانه لم يقل ولم يظلموا أنفسهم، بل قال: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [الأنعام:82] .

المطلب الثالث: حكم الاستدلال بالتشبيه نفيا وإثباتا


أن لفظ (التشبيه) و(التركيب) لفظ فيه إجمال وهؤلاء أنفسهم - هم وجماهير العقلاء - يعلمون أن ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك ونفي ذلك القدر المشترك ليس هو نفس التمثيل والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه وإنما التشبيه الذي قام الدليل على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى إذ هو سبحانه:لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ولا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولهذا اتفق جميع طوائف المسلمين وغيرهم على الرد على هؤلاء الملاحدة وبيان أنه ليس كل ما اتفق شيئان في شيء من الأشياء يجب أن يكون أحدهما مثلا للآخر ولا يجوز أن ينفي عن الخالق سبحانه كل ما يكون فيه موافقة لغيره في معنى ما فإنه يلزمه عدمه بالكلية كما فعله هؤلاء الملاحدة بل يلزم نفي وجوده ونفي عدمه وهو غاية التناقض والإلحاد والكفر والجهل .

فيما يجوز وما لا يجوز على الله من النفي والإثبات أنه لقائل أن يقول: لا بد في هذا الباب من ضابط يعرف به ما يجوز على الله مما لا يجوز في النفي والإثبات إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد وذلك أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه قيل له: إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه أو مشارك له في الاسم لزمك هذا في سائر ما تثبته وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجب له ما يجب له ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه كما في الأسماء والصفات المتواطئة ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسرا بمعنى من المعاني ثم إن كل من أثبت ذلك المعنى قالوا: إنه مشبه ومنازعوهم يقولون: ذلك المعنى ليس من التشبيه وقد يفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون: كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل فمن قال إن لله علما قديما أو قدرة قديمة كان عندهم مشبها ممثلا لأن القديم عند جمهورهم هو أخص وصف الإله فمن أثبت له صفة قديمة فقد أثبت لله مثلا قديما ويسمونه ممثلا بهذا الاعتبار ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا بل يقولون: أخص وصفه لا يتصف به غيره مثل كونه رب العالمين وأنه بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير وأنه إله واحد ونحو ذلك والصفة لا توصف شيء من ذلك ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات إنها قديمة بل يقول: الرب بصفاته قديم ومنهم من يقول: هو قديم وصفته قديمة ولا يقول: هو وصفاته قديمان ومنهم من يقول: هو وصفاته قديمان ولكن يقول: ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه فإن القدم ليس من خصائص الذات المجردة بل من خصائص الذات الموصوفة بصفات وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم فضلا عن أن تختص بالقدم وقد يقولون: الذات متصفة بالقدم والصفات متصفة بالقدم وليست الصفات إلها ولا ربا كما أن النبي محدث وصفاته محدثة وليست صفاته نبيا فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل: كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك ثم تقول لأولئك: هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيها فهذا المعنى لم ينفعه عقل ولا سمع وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية والقرآن قد نفى مسمى المثل والكفء والند ونحو ذلك ولكن يقولون الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفؤه ولا نده فلا يدخل في النص وأما العقل: فلم ينف مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة وكذلك أيضا يقولون: إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز والأجسام متماثلة فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلا لسائر الأجسام وهذا هو التشبيه وكذلك يقول: هذا كثير من الصفاتية الذين يثبتون الصفات وينفون علوه على العرش وقام الأفعال الاختيارية به ونحو ذلك ويقولون: الصفات قد تقوم بما ليس بجسم وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسما فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسما وحينئذ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه فلهذا تجد هؤلاء يسمون من أثبت العلو ونحوه مشبها ولا يسمون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبها كما يقول صاحب الإرشاد وأمثاله وكذلك يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو لكن هؤلاء يجعلون العلو صفة خبرية كما هو أول قولي القاضي أبي يعلى فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه وقد يقولون: إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم كما يقولونه في سائر الصفات والعاقل إذ تأمل وجد الأمر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق وأصل كلا م هؤلاء كلهم على إثبات الصفات مستلزم للتجسيم والأجسام متماثلة والمثبتون يجيبون عن هذا تارة بمنع المقدمة الأولى وتارة بمنع المقدمة الثانية وتارة بمنع كل من المقدمين وتارة بالاستفصال ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل سواء فسروا الجسم بما يشار إليه أو بالقائم بنفسه أو بالموجود أو بالمركب من الهيولي والصورة ونحو ذلك فإما يبنى على صحة ذلك وعلى إثبات الجوهر الفرد وعلى أنه متماثل وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك والمقصود: هنا أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيما بناء على تماثل الأجسام والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم كإطلاق الرافضة النصب على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بناء على أن من أحبهما فقد بغض عليا رضي الله عنه ومن أبغضه فهو ناصبي وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى ولهذا يقول هؤلاء: إن الشيئين لا يشبهان من وجه ويختلفان من وجه وأكثر العقلاء على خلاف ذلك وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفي ذلك وبينا فساد قول من يقول بتماثلها وأيضا فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتماد باطل وذلك أنه إذا أثبت تماثل الأجسام عما لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم وإذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم وثبت امتناع الجسم: كان هذا وحده كافيا في نفي ذلك لا يحتاج نفي ذلك إلى نفي مسمى التشبيه لكن نفي التجسيم يكون مبنيا على نفي هذا التشبيه بأن يقال: لو ثبت له كذا وكذا لكان جسما ثم يقال: والأجسام متماثلة فيجب اشتراكها فيما يجب ويجوز ويمتنع وهذا ممتنع عليه لكن حينئذ يكون من سلك هذا المسلك معتمدا في نفي التشبيه على نفي التجسيم فيكون أصل نفيه نفي الجسم وهذا مسلك آخر سنتكلم عليه إن شاء الله وإنما المقصود هنا: أن مجرد الاعتماد في نفي ما ينفي على مجرد نفي التشبيه لا يفيد إذ ما من شيئين إلا يشتبهان من وجه بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب ونحو ذلك مما هو سبحانه مقدس عنه فإن هذه طريقة صحيحة وكذلك إذا أثبت له صفات الكمال ونفي مماثلة غيره له فيها فإن نفي المماثلة فيما هو مستحق له وهذا حقيقة التوحيد: وهو أن لا يشركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات ما وصف به نفسه من الصفات ونفي مماثلته بشيء من المخلوقات فإن قيل: هب الأمر كذلك ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعا كما إذا قيل: إنه موجود حي عليم سميع بصير وقد سمى بعض المخلوقات حيا سميعا عليما بصيرا فإذا قيل: يلزم أنه يجوز عليه ما يجوز على ذلك من جهة كونه موجودا حيا عليما سميعا بصيرا قيل: لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعا على الرب تعالى فإن ذلك لا يقتضي حدوثا ولا مكانا ولا نقصا ولا شيئا مما ينافي صفات الربوبية وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو الموجود أو الحياة أو الحي أو العلم أو العليم أو السمع أو البصر أو السميع أو البصير أو القدرة أو القدير والقدير المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث ولا فيما يخص بالواجب القديم فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال كالوجود والحياة والعلم والقدر ولم يكن في ذلك شيء مما يدل على خصائص المخلوقين كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق لم يكن في إثبات هذا محذور أصلا بل إثبات هذا من لوازم الوجود فكل موجودين لا بد بينهما من مثل هذا ومن نفي هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود ولهذا لما اطلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطلة وكان جهم ينكر أن يسمى الله شيئا وربما قالت الجهمية هو شيء لا كالأشياء فإن نفي القدر المشترك مطلقا لزم التعطيل العام والمعاني التي يوقف بها الرب تعالى كالحياة والعلم والقدر بل الوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك: يجب لوازمها فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم وخصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلا بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوقات من وجود وحياة وعلم ونحو ذلك والله سبحانه منزه عن خصائص المخلوقين وملزومات خصائصهم وهذا الموضع من فهمه فهما جيدا وتدبره: زالت عنه عامة الشبهات وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام وقد بسط هذا في مواضع كثيرة وبين فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معينا مقيدا وإن معنى اشتراك الموجودات في أمر هو تشابهها من ذلك الوجه وإن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا لأن الموجودات في الخارج لا يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس متناقضا في هذا المقام فتارة يظن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات حذرا من ملزومات التشبيه وتارة يتفطن انه لا بد من إثبات هذا على تقدير فيجب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة ولكثرة الاشتباه في هذا المقام وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته أو زائد على ماهيته؟ وهل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي أو التواطؤ أو التشكيك؟ كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال ونفيها وفي أن المعدوم هل هو شيء أو لا؟ وفي وجود الموجودات هل هو زائد على ماهيتها أم لا؟ وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين ويحكي عن الناس مقالات ما قالوها وتارة يبقى في الشك والتحير وقد بسطنا من الكلام في هذه المقامات وما وقع من اشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة مالا تتسع له هذه الجمل المختصرة وبينا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودين في الخارج بخلاف الماهية التي الذهن فإنهما مغيرة للموجود في الخارج وأن لفظ الذات والشيء والماهية والحقيقة ونحو ذلك فهذه الألفاظ كلها متواطئة فإذا قيل: إنها مشككة لتفاضل معانيها فالمشكك نوع من المتواطئ العام الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك سواء كان المعنى متفاضلا في موارده أو متماثلا وبينما أن المعدوم شيء أيضا في العلم والذهن لا في الخارج فلا فرق بين الثبوت والوجود لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة ولكن هو العلم التابع للعالم القائم به وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف: لها وجود في الأذهان وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة وصفاتها القائمة بها المعينة فتتشابه بذلك وتختلف به وأما هذه الجملة المختصرة فإن المقصود بها التنبيه على جمل جامعة من فهمها علم قدر نفعها وانفتح له باب الهدى وإمكان إغلاق باب إضلال ثم بسطها وشرحها له مقام آخر إذ لكل مقام مقال والمقصود: هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة فيما ينفي عن الرب وينزه عنه - كما يفعله كثير من المصنفين - خطأ لمن تدبر ذلك وهذا من طرق النفي الباطلة .

<!--EndFragment-->

"Simpl�!84dA����o-ascii-font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-font-family:"Times New Roman";mso-hansi-font-family:"Times New Roman"; color:#004C00'>إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3] وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي وقد ذم الله تعالى اليهود على تحريفهم، وبين أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان فقال: أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] وقال تعالى:مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [النساء:46] الآية وأما العقل: فلأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين فوجب قبوله على ظاهره وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة.

والمراد بالظاهر: الظاهر الشرعي، وذلك بإثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة على حقيقة الإثبات وتنزيه الخالق عن مشابهة الخلق له في تلك الصفات . مع قطع الطمع عن إدراك الكيفية – ... – وبهذا يعلم أن معاني نصوص الصفات مفهومة، وأن إدراك كيفية الصفات شيء ممتنع. فما يتبادر إلى الذهن من المعاني الشرعية هو المراد بالظاهر.
وأما ترك التحريف، فالمراد به عدم التسلط على نصوص الصفات بصرف معانيها المتبادرة بأصل الوضع أو السياق إلى معاني أخرى غير متبادرة، وهذا الذي يسميه أهله تأويلاً،. ...
المسألة الأولى دواعي حمل النصوص على ظاهرها
وهذه الدواعي هي أدلة كلية تبين أن حمل نصوص الصفات على ظاهرها متعين، وهو أمر لا خفاء فيه ولا غموض، ويمكن حصرها... في أربعة أدلة:
الدليل الأول: وصف القرآن بالبيان والهدى:
إذا كان السامع متمكناً من الفهم، وكان خطاب المتكلم بيناً واضحاً، فهم المخاطب مراد المتكلم بكلامه. وقد وصف الله تعالى كتابه بأنه تبيان لكل شيء فقال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] وقال: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 64]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4]، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44].
فاتضح من هذه النصوص – وغيرها كثير – أن كتاب الله تعالى فيه بيان الحق للناس، وأنه قد أنزل بلسان عربي مبين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم – مبين للناس هذا الكتاب بلسان قومه، فهذا يفيد أن نصوص الصفات مما بينه الله تعالى للناس، وهي كثيرة جداً وتتناول كل الصفات مثل العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والحياة والإرادة والاستواء واليدين والوجه والغضب والرضا، ولا يوجد مع هذا دليل واحد يفيد أن هذه النصوص مراد بها خلاف ظاهرها. فإخلاء المتكلم كلامه من قرينة تفيد أن ظاهره غير مراد ينافي بيانه وإرشاده، مع ملاحظة الأمور الآتية:
الأمر الأول: إن الله تعالى أعلم بما ينزل . .
الأمر الثاني: إنه لو كان الظاهر غير مراد لجاء البيان بذلك – إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع، ووقت الحاجة هو وقت الخطاب، وعلى فرض جواز تأخره إلى ما بعد ذلك فلا يجوز تأخيره بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه على كثرة النصوص الواردة بذكر الصفات لم يأت نص واحد يصرفها عن ظاهرها. فعلم بهذه الأمور مجتمعة أن خطاب الشرع في صفات رب العالمين يجب حمله على ظاهره إذ المخاطب أعلم بما ينزل وكلامه هدى وبيان وقد أخلاه عما يصرفه عن ظاهره.
الدليل الثاني: وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم – المبين للكتاب – كما قال الله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] وهو الهادي إلى صراط مستقيم كما قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] قد اشتملت سنته على ذكر الصفات لله تعالى، إما تصريحاً بالقول وإما إقراراً، وكل من القول والإقرار إما أن يكون قد ورد مثله في القرآن أو لم يرد، وكل من ذلك إما صفات فعلية أو ذاتية.
فمثال قوله صلى الله عليه وسلم في الصفات وهي مذكورة في القرآن: صفة اليدين، وصفة الاستواء، فالأولى صفة ذاتية، والثانية فعلية ...
ومثال قوله صلى الله عليه وسلم في صفات لم يأت ذكرها في القرآن: الضحك والأصابع. ومثال إقراره صلى الله عليه وسلم – لبعض الصفات، وهي مذكورة في القرآن: الاستواء، كما هو في حديث الجارية، لما سألها أين الله؟ قالت في السماء، فقال لسيدها ))أعتقها فإنها مؤمنة)) . ومثال إقراره صلى الله عليه وسلم لبعض الصفات، ولم يأت ذكرها في القرآن: الأصابع، كحديث الحبر اليهودي،... وقد يفسر الرسول صلى الله عليه وسلم – صفة قد لا يفهم من نص القرآن أنها صفة لله تعالى كصفة الساق.
الدليل الثالث: فهم الصحابة لها أن ظاهرها مراد.....
الدليل الرابع: إجماع الأئمة على أن ظاهرها مراد.
قال الوليد بن مسلم: (سألت الأوزاعي ومالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية وغير ذلك، فقالوا: أمضها بلا كيف) . وفي رواية أنه سألهم (... عن الأحاديث التي فيها الصفات فكلهم قال: أمروها كما جاءت بلا تفسير) . . وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (هذه الأحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض وهي عندنا حق لا نشك فيه...) وقال الإمام أحمد: (ولا تفسر هذه الأحاديث إلا مثل ما جاءت ولا نردها...) . وقال الإمام أبو عمر بن عبد البر (ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى أتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله عز وجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم. ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. والاستواء معلوم في اللغة مفهوم، وهو العلو والارتفاع على شيء.. إلخ) اهـ . .
وأقوال الأئمة كثيرة في هذا الباب يصعب حصرها، وفيما ذكر الكفاية وبالله التوفيق.
فهذا الذي تقدم يدل دلالة قاطعة على أن ما جاء في نصوص الصفات حق على ظاهره المراد شرعاً، فيجب إثباتها بلا تمثيل، وتنزيه الله عن مشابهة خلقه فيها بلا تعطيل، ذلك أن ذكرها في القرآن بلا قرينة تصرفها عن ظاهرها ثم تأكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في سنته قولاً وإقراراً بذكرها كما وردت في القرآن، بل يذكر صفات أخرى لم ترد فيه وهو الذي قال الله فيه: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3-4] يدل دلالة قاطعة أن نصوص الصفات يجب إجراؤها على ظاهرها، إذ المأمور ببيان الدين لم يصرف عن ظاهرها – وهذا أمر بين..

 

المطلب الثالث: القاعدة الثالثة ظاهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار ومجهولة لنا باعتبار آخر.


فباعتبار المعنى هي معلومة، وباعتبار الكيفية التي هي عليها مجهولة وقد دل على ذلك: السمع والعقل أما السمع: فمنه قوله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29] وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكـُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3] وقوله جـل ذكرهوَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[النحل:44] والتدبر لا يكون إلا فيما يمكن الوصول إلى فهمه، ليتذكر الإنسان بما فهمه منه وكون القرآن عربياً ليعقله من يفهم العربية يدل على أن معناه معلوم وإلا لما كان فرق بين أن يكون باللغة العربية أو غيرها وبيان النبي صلى الله عليه وسلم القرآن للناس شامل لبيان لفظه وبيان معناه وأما العقل: فلأن من المحال أن ينزل الله تعالى كتاباً أو يتكلم رسوله صلى الله عليه وسلم بكلام يقصد بهذا الكتاب وهذا الكلام أن يكون هداية للخلق، ويبقى في أعظم الأمور وأشدها ضرورة مجهول المعنى، بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم منها شيء؛ لأن ذلك من السفه الذي تأباه حكمة الله تعالى، وقد قال الله تعالى عن كتابه: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1] هذه دلالة السمع والعقل على علمنا بمعاني نصوص الصفات ... وبهذا علم بطلان مذهب المفوضة الذين يفوضون علم معاني نصوص الصفات، ويدَّعون أن هذا مذهب السلف والسلف بريئون من هذا المذهب، وقد تواترت الأقوال عنهم بإثبات المعاني لهذه النصوص إجمالاً أحياناً وتفصيلاً أحياناً، وتفويضهم الكيفية إلى علم الله – عز وجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه المعروف بـ (العقل والنقل 1.116) المطبوع على هامش (منهاج السنة): وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله – إلى أن قال.... -: وحينئذٍ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه، قال: ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدىً وبياناً للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته لا يعلم أحد معناه فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بيَّن للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به، فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء؛ لأننا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون فضلاً عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد أهـ كلام الشيخ وهو كلام سديد من ذي رأي رشيد، وما عليه مزيد – رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات النعيم .

الدرر السنية

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 93 مشاهدة
نشرت فى 2 فبراير 2012 بواسطة maiwagieh

ساحة النقاش

الأستاذ الدكتور / وجيه المرسي أبولبن، أستاذ بجامعة الأزهر جمهورية مصر العربية. وجامعة طيبة بالمدينة المنورة

maiwagieh
الاسم: وجيه الـمـرسى إبراهيـــم أبولـبن البريد الالكتروني: [email protected] المؤهلات العلمية:  ليسانس آداب قسم اللغة العربية. كلية الآداب جامعة طنطا عام 1991م.  دبلوم خاص في التربية مناهج وطرق تدريس اللغة العربية والتربية الدينية الإسلامية. كلية التربية جامعة طنطا عام 1993م.  ماجستير في التربية مناهج وطرق تدريس اللغة العربية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,660,518