خصائص منهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الاعتقاد:
امتازت مناهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الدين أصوله وفروعه بخصائص جعلتها أكثر موافقة للحق وإصابة له، نذكر في هذا الموقع، طرفا منها:
أولا: وحدة المصدر:
وهو أن السلف لا يتلقون أمور دينهم إلا عن مشكاة النبوة، لا عقل ولا ذوق ولا كشف، بل هذه إن صحت كانت معضدة لحجة السمع (الكتاب والسنة) فكيف بمن عارض بها دلائل الكتاب والسنة، وأكثرها جهالات وخيالات فاسدة. وبهذا نفهم كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر على عمر بن الخطاب رضي الله عنه النظر في صحيفة من التوراة، وهو الكتاب المنزل من السماء، وإن شابه التحريف فهو أفضل من كثير من الأقيسة العقلية، والخيالات الصوفية .:
روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن ثابت أنه قال: ))جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، قال: فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين)) .. وفي رواية ))... أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية.. . والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)) ....
فهذا موسى عليه السلام لو قدر وجوده بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ما جاز لأحد متابعته وترك ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم، بل ما جاز له – أي موسى – ترك متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فكيف تتلقى أمور الديانة – أصولها وفروعها – عن عقل أو ذوق أو وجد أو نحو ذلك؟
قال ابن عبد البر (رحمه الله): (ليس في الاعتقاد كله، في صفات الله وأسمائه، إلا ما جاء منصوصا في كتاب الله، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه) ..
ثانيا: منهج توقيفي:
فهو منهج يقوم على التسليم المطلق لنصوص الكتاب والسنة، لا يردون منها شيئا، ولا يعارضونها بشيء، لا بعقل، ولا ذوق، ولا منام، ولا غير ذلك، بل يقفون حيث تقف بهم النصوص، ولا يتجاوزونها إلى إعمال رأي أو قياس أو ذوق.. ملتزمين قوله تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 1]وقال الربيع بن خثيم رحمه الله: "يا عبد الله، ما علمك الله في كتابه من علم فأحمد الله، وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه، لا تتكلف، فإن الله يقول لنبيه: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] .وقال الأوزاعي رحمه الله: (كان مكحول والزهري يقولان: أمروا هذه الأحاديث كما جاءت ولا تناظروا فيها) .يعني أحاديث الصفات.
أما غير أهل السنة فقد أصلوا لأنفسهم قواعد، حاكموا إليها النصوص، فما وافق منها تلك القواعد قالوا به معضدين لا محتجين، وما خالف ردوه: إما بتضعيف – إن كان حديثا – أو تأويل، وإن أحسنوا المعاملة فوضوا العلم به وعزلوه عن سلطان الحكم والاحتجاج، حتى أحدثوا في دين الله تعالى من المقالات الشنيعة ما ضاهوا، أو سبقوا به اليهود والنصارى وعباد الأصنام.
قال يونس بن عبد الأعلى: (سمعت الشافعي، يوم ناظره حفص الفرد، قال لي: يا أبا موسى.. . لقد سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه) .وقال ابن عيينة: (سمعت من جابر الجعفي كلاما خشيت أن يقع علي وعليه البيت) ..
ثالثا: تجنب الجدل والخصومات في الدين:
وبناء على ما سبق كان للسلف موقف واضح وصريح من الجدل والخصومات في مسائل الاعتقاد، حتى عدوا الكلام والتمحل فيها من البدع، التي شددوا النكير على مقترفيها، وقصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع صبيغ بن عسل مشهورة معروفة:
وهي (أن صبيغا قدم المدينة وكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه، وقد أعد له عراجين النخل، فلما دخل عليه جلس، فقال له عمر رضي الله عنه: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله صبيغ، فقال عمر رضي الله عنه: وأنا عبد الله عمر، ثم أهوى إليه فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجه، فجعل الدم يسيل على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي) ..
وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: (الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه، وينهون عنه، نحو الكلام في رأي جهم والقدر، وكل ما أشبه ذلك، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في دين الله، وفي الله عز وجل، فالسكوت أحب إلي، لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في دين الله إلا فيما تحته عمل) .قال أبو عمر بن عبد البر (رحمه الله): (والذي قاله مالك رحمه الله عليه جماعة العلماء قديما وحديثا، من أهل الحديث، والفتوى، وإنما خالف ذلك أهل البدع: المعتزلة وسائر الفرق، وأما الجماعة فعلى ما قال مالك) .وذلك فيما لم تكن هناك ضرورة، كرد باطل أو خوف من ضلالة أن تعم، فالواجب بيان الحق ودفع الباطل على ما أشار إليه ابن عبد البر رحمه الله ..
رابعا: اتفاق السلف في مسائل العقيدة:
لقد كان من ثمرة صحة المنهج، وصدق قضاياه: أن يتفق أهل السنة على مسائل الاعتقاد مع اختلاف أعصارهم، وتباعد أمصارهم.
يقول الإمام الأصبهاني رحمه الله: (ومما يدل على أن أهل الحديث هم أهل الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار؛ وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يجرون على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى فيهم اختلافا، ولا تفرقا في شئ ما وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء عن قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟) .. .
الفصل الثاني: نتائج الالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الاعتقاد
النتيجة الأولى: تحقيق كمال الدين، وتمام النعمة، وقيام الحجة:
التزام هذا المنهج فيه اعتراف حقيقي بأن الله تعالى أكمل الدين، وأتم النعمة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وكشف الغمة، وأقام الحجة، وأوضح المحجة، وأن الصحابة رضوان الله عليهم الذين هم حواريو الرسول صلى الله عليه وسلم، وورثته في العلم والإيمان، وحفظة الله تعالى في عباده، أقاموا الدين علما وعملا، وبلغوه لفظا ومعنى. وهذا وإن كان واضحا في كل مسائل الديانة إلا أنه في مسائل الاعتقاد أشد وضوحا، وأعظم رسوخا، إذ (معرفة الاعتقاد أصل الدين، وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب، وذلك الرسول، وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقادا وقولا؟ !
ومن المحال – أيضا – أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة، وقال: (تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) . .. محال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين – وإن دقت – أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه في قلوبهم، في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته، غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام، ثم إذا كان قد وقع ذلك منه: فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب: زائدين فيه أو ناقصين عنه...) . .
النتيجة الثانية: بيان ثبوت العصمة للشارع:
الالتزام بهذا المنهج يفيد إثبات العصمة للشارع الحكيم، بحيث لا يجوز الاستدراك عليه، وذلك بعد أن تقرر بالأدلة والبراهين اليقينية أن ليس في الشرع ما يخالف مقتضيات العقول الصحيحة، كما أنه ليس في العقل الصحيح ما يخالف نصا صحيحا صريحا من نصوص الكتاب والسنة. بل كل ما يظن أنه يخالف الشرع من العقل فيمكن إثبات فساده بعقل صحيح صريح يبين أن تلك المخالفة مجرد ظن وتوهم.
وعليه، فيجب النظر إلى الشريعة بعين الكمال لا بعين النقصان واعتبارها اعتبارا كليا في العقائد والعبادات والمعاملات، وعدم الخروج عنها البتة؛ لأن الخروج عنها تيه وضلال ورمي في عماية كيف وقد ثبت كمالها وتمامها فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق، المنحرف عن جادة الصواب إلى بنيات الطرق، وهذا هو الذي أغفله المبتدعون فدخل عليهم بسببه الاستدراك على الشرع . .
النتيجة الثالثة: التصديق بجميع نصوص الكتاب والسنة:
الالتزام بهذا المنهج يفيد التصديق بجميع نصوص الكتاب والسنة، والاستدلال بها مجتمعة – ما لم يكن بين بعضها تناسخ – لأنها خرجت من مشكاة واحدة، وتكلم بها من وصف نفسه بكمال العلم وتمام الحكمة، ومن أصدق من الله قيلا، فلا يجوز ضرب بعضها ببعض؛ لأن ذلك يقتضي التكذيب ببعض الحق، إذ أنه من باب معارضة حق بحق، وهذا يقتضي التكذيب بأحدهما أو الاشتباه والحيرة، والواجب التصديق بهذا الحق وهو الحق؛ قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[الزمر: 32-33] فذم سبحانه من كذب أو كذب بحق، ولم يمدح إلا من صدق وصدق بالحق، فلو صدق الإنسان فيما يقوله، ولم يصدق بالحق الذي يقوله غيره لم يكن ممدوحا، حتى يكون ممن يجيء بالصدق ويصدق به، فأؤلئك هم المتقون" . .
النتيجة الرابعة: تعظيم نصوص الكتاب والسنة:
إن الالتزام بهذا المنهج يجعل المسلم في موقف المعظم لنصوص الكتاب والسنة؛ لأنه يعتقد أن كل ما تضمنته هو الحق والصواب، وفي خلافها الباطل والضلال.
أما المخالفون فقد سقطت من نفوسهم هيبة النصوص حتى استحلوا حرماتها، وعاثوا فيها تكذيبا أو تحريفا، وإن أحسنوا المعاملة أعرضوا عنها بقلوبهم وعقولهم ولم يستدلوا بشيء منها، فهم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [البقرة: 78].
النتيجة الخامسة: عصمة علوم أهل السنة:
أهل السنة معصومون فيما يأخذونه عن إجماع الصحابة والتابعين، لأن إجماعهم حجة، ولا تجتمع هذه الأمة على ضلالة، فكيف إذا أجمع السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم على مسألة، فإن خلافهم فيها لا يجوز؛ لأنه خلاف الإجماع، وخلاف القرون المفضلة.
أما أهل البدع والتفرق فلم يبالوا بهذا الأصل، حتى أعلنوا مخالفتهم لسلف الأمة وأئمتها، ونسبوهم إلى أعظم السفه والجهل.
النتيجة السادسة: السكوت عما سكت عنه السلف:
كل مسألة سكت عنها الصحابة والسلف الصالح وتكلم فيها الخلف – ولا سيما فيما يتعلق بمسائل الاعتقاد والإيمان – إلا كان السكوت عنها أولى وأليق، ولم يأت فيها الخلف إلا بباطل من القول وزورا. ولهذا قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في وصيته إلى عدي بن أرطأة (.. فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل، والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما يرضى به القوم لأنفسهم؛ فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ قد كفوا، ولهم كانوا على كشف الأمور أقوى – وبفضل – لو كان فيه أجرى، فلئن قلتم: أمر حدث بعدهم، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سنتهم، ورغب بنفسه عنهم، إنهم لهم السابقون، فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مقصر، وما فوقهم محسر، لقد قصر عنهم آخرون فضلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم) . .
النتيجة السابعة: النجاة المحضة موقوفة على متابعة مذهب أهل السنة:
إن النجاة المحضة وقف على من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا إنما يعرف عن طريق السنن المروية، والآثار الصحابية. وأولى الناس بمعرفة ذلك هم أهل السنة والجماعة؛ وذلك لاشتغالهم وعنايتهم بها، وانتسابهم إليها، بعكس أهل البدع من المتكلمة والمتصوفة الذين هم من أبعد الناس عن معرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مستغنين عن ذلك بالمحارات الفلسفية والخيالات الصوفية، ومنهم من يعترف بقلة بضاعته من الإرث النبوي، ومنهم من لو اطلعت على مصنفاته لا تكاد تقف على آية كريمة، أو حديث شريف، أو أثر عن صحابي شاهدين على أنفسهم بالجفاء.
ثم ها هي الفرق الكبار: المعتزلة والخوارج والشيعة كلهم يطعن في الصحابة رضوان الله عليهم طعنا صريحا . :
أما المعتزلة فقد طعن زعيمهم النظام في أكثر الصحابة وأسقط عدالة ابن مسعود، وطعن في فتاوى علي بن أبي طالب، وثلب عثمان بن عفان، وطعن في كل من أفتى من الصحابة بالاجتهاد، وقال: إن ذلك منهم إنما كان لأجل أمرين: إما لجهلهم بأن ذلك لا يحل لهم، وإما لأنهم أرادوا أن يكونوا زعماء وأرباب مذاهب تنسب إليهم. فنسب خيار الصحابة إلى الجهل أو النفاق.
ثم إنه أبطل إجماع الصحابة ولم يره حجة، وأجاز أن تجتمع الأمة على الضلالة . .
وأيضا – كان زعيمهم واصل بن عطاء الغزال يشكك في عدالة علي وابنيه، وابن عباس، وطلحة، والزبير، وعائشة وكل من شهد حرب الجمل من الفريقين، فقال مقالته المشهورة: لو شهد عندي علي وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهما؛ لعلمي بأن أحدهما فاسق ولا أعرفه بعينه. ووافقه على ذلك صاحبه عمرو بن عبيد وزاد عليه بأن قطع بفسق كل من الفريقين.
وأما الخوارج فتكفيرهم لعلي وأكثر الصحابة رضي الله عنهم واستباحتهم لدمائهم وأموالهم مشهور معلوم، بل ساقوا الكفر إلى كل من أذنب من هذه الأمة.
أما الشيعة فشعارهم الطعن في سائر الصحابة – عدا آل البيت – وغلاتهم من السبئية والبيانية وغيرهم قد حكم علماء الإسلام عليهم بالردة والخروج من الدين بالكلية.
والإمامية منهم ادعت ردة أكثر الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
والأشاعرة ونحوهم من المتكلمين ممن يدعي في طريقة الخلف العلم والإحكام، وفي طريقة السلف السلامة دون العلم والإحكام، يلزمهم تجهيل السلف من الصحابة والتابعين وهو طعن فيهم من هذا الوجه. ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله – بعد أن حكى عنهم هذا الكلام -: (ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض) . .
فكيف يقال في هؤلاء جميعا إنهم موافقون للصحابة في علومهم وأعمالهم؟ !
النتيجة الثامنة: شرف الانتساب إلى السلف الصالح:
إن السلفية تطلق ويراد بها أحد معنيين:
أحدهما: الحقيقة التاريخية التي تختص بأهل القرون الثلاثة المفضلة؛ لحديث: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم..) . .
الثاني: الطريقة التي كان عليها أهل تلك القرون الفاضلة من التمسك بالكتاب والسنة وتقديمهما على ما سواهما، والعمل بها على مقتضى فهم الصحابة والسلف.
فالسلفية بالمعنى الثاني منهاج باق إلى يوم القيامة يصح الانتساب إليه متى التزمت شروطه وقواعده؛ لحديث: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) . .
وعليه، فكل أحد وإن تأخر زمانه عن عصر السلف، لكنه التزم منهاجهم في العلم والعمل فهو منهم، وسلفي معهم، فالمرء مع من أحب. قال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله لبعض أصحابه: (أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن مثلهم، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت) . .
النتيجة التاسعة: عدم صحة الإيمان المشروط:
الالتزام بهذا المنهج يقرر عدم صحة الإيمان كمن يقول: أنا لا أؤمن بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أعلم انتفاء المعارض العقلي، أو أنا لا أؤمن حتى تصدق خبره رؤيا منام، أو كشف، أو ذوق، أو حس (التجربة المعملية) أو نحو ذلك من الشرائط، فهذا إيمان لا يصح، وصاحبه فيه شبه من الذين: وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ [الأنعام: 124] والذين قالوا: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: 55].
فالواجب على الإنسان – إذا تبين له صدق الرسول – أن يؤمن بالله ورسالاته إيمانا مطلقا غير مشروط، ولا متعلق بشيء من خارج. ولهذا كان شعار أهل الإيمان، سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة: 285] وشعار أهل الكفر والطغيان: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [البقرة: 93].
النتيجة العاشرة: تكثير الصواب وتقليل الخطأ:
الاعتماد على الكتاب والسنة وإجماع الأمة في الاستدلال يقلل الخطأ ويكثر الصواب والتوفيق، وهذا الخطأ يكون بسبب نقص علم المستدل أو قصور فهمه، أو سوء قصده، وهذا قد يوجد في بعض أهل السنة (ففي بعضهم من التفريط في الحق، والتعدي على الخلق ما قد يكون بعضه خطأ مغفورا، وقد يكون منكرا من القول وزورا، وقد يكون من البدع والضلالات التي توجب غليظ العقوبات؛ فهذا لا ينكره إلا جاهل أو ظالم..) لكن – مع ذلك – هم بالنسبة إلى غيرهم - في ذلك – كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل، فكل شر يكون في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر، وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعلى وأعظم، وهكذا أهل الحديث والسنة بالنسبة إلى غيرهم من طوائف المسلمين . : يعرفون الحق ويرحمون الخلق، أما أهل البدع فيكذبون بالحق ويكفرون الخلق، فلا علم ولا رحمة.. . .
النتيجة الحادية عشرة: الاستغناء بالكتاب والسنة عما سواهما:
الالتزام بهذا المنهج يفيد الاستغناء بالكتاب والسنة عن النظر في الكتب المتقدمة: كالتوارة والإنجيل والزبور، لما أصابها من التحريف والتبديل، والزيادة والنقصان، فالقرآن الكريم كتاب مستقل بنفسه، ناسخ لما قبله، لم يحوج الله تعالى أهله إلى كتاب آخر – كما هو حال أهل الزبور والإنجيل مع التوراة – والقرآن قد اشتمل على جميع ما في الكتب الأخرى من المحاسن، وعلى زيادات كثيرة لا توجد فيها، مع ضمان الحفظ ونزاهة النص عن التحريف، ولهذا كان مصدقا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنا عليه، يقرر ما فيه من الحق، ويبطل ما حرف منه وينسخ ما نسخه الله تعالى . . ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينظر في صحيفة من التوراة غضب وقال:))أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية.. والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)) . .
النتيجة الثانية عشرة: طريقة السلف: أسلم وأعلم وأحكم:
إن الذين يقولون: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وهي التأويل الذي هو صرف النصوص إلى معنى قد تحتمله اللغة، لكن في غير هذا السياق المعين، والتأويل عندهم مظنون بالاتفاق . فلا أحد منهم يقطع بالمعنى الذي صرفوا اللفظ إليه، لم يحصلوا شيئا، بل تركوا النصوص وفيها الحق واليقين، ولجأوا إلى احتمالات وتجويزات مزقتهم كل ممزق، مع حيرة وضياع:
قال الشوكاني رحمه الله . : (فهم – أي أهل الكلام – متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم، فكان غاية ما ظفروا به من هذه الأعلمية لطريق الخلف أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز، وقالوا: هنيئا للعامة، فتدبر هذه الأعلمية التي حاصلها أن يهنئ من ظفر بها للجاهل الجهل البسيط، ويتمنى أنه في عدادهم، وممن يدين بدينهم، ويمشي على طريقهم، فإن هذا ينادي بأعلى صوت، ويدل بأوضح دلالة على أن هذه الأعلمية التي طلبوها: الجهل خير منها بكثير، فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه: أن الجهل خير منه، وينتهي عند البلوغ إلى غايته، والوصول إلى نهايته أن يكون جاهلا به، عاطلا عنه، ففي هذا عبرة للمعتدين وآية بينة للناظرين..).
النتيجة الثالثة عشرة: اجتماع محاسن الفرق الأخرى لأهل السنة خالصة من كل كدر:
الالتزام بهذا المنهج يجمع لأهل السنة ما عند الفرق الأخرى من الحق، مع نبذ أباطيلهم؛ لأن ما عند الفرق المخالفة للحق شبه، والشبهة ما أشبهت الحق من وجه، ولهذا تشتبه على الناس، فأهل السنة يأخذون بالوجه الحق، ويدعون الوجه الباطل، وسبب هذا التوفيق هو استدلالهم بجميع النصوص، من غير توهم تعارض بينها، أو بينها وبين العقل الصحيح الصريح، أما أهل الفرق الأخرى فقد ضربوا النصوص بعضها ببعض، أو عارضوها بآرائهم وأقيستهم الفاسدة، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وأهل السنة آمنوا بالكتاب كله، وأقاموه علما وعملا.
النتيجة الرابعة عشرة: مخالفة مسالك الأمم الضالة:
الالتزام بهذا المنهج يفيد مجانبة مسالك الأمم الضالة من اليهود والنصارى وغيرهم، وقد أمرنا بمخالفة طرائقهم، وتجنب سننهم، ومنها أنهم ردوا على الرسل ما أخبروا به، واعترضوا عليهم بالاعتراضات الباطلة، كما قالت اليهود لموسى عليه السلام: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: 55]. وقال الذين كفروا:: وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ [الأنعام: 124].
وكل من أوقف الإيمان بالنصوص على موافقة عقله أو قياسه أو ذوقه أو كشفه أو منامه أو حسه ففيه شبه من شبه اليهود والنصارى والذين كفروا، وقد أمرنا بمخالفتهم. ولهذا لا تكاد تجد شبهة أو مقالة منحرفة في الفرق المخالفة لأهل السنة، إلا وفي اليهود والنصارى نظيرها.
النتيجة الخامسة عشرة: ما تلزمه المخالفة من الكفر، وما يلتزمه المخالف من الدعوى إلى بدعته:
مخالفة هذا المنهج تؤدي إلى كثير من الكفريات كنفي الصفات، والقول بخلق القرآن، والتكذيب بالقدر، ونفي حكمة الرب تعالى ومشيئته واختياره، والحلول والاتحاد، وتفضيل الأولياء على الأنبياء، والتكذيب بأخبار المعاد وحشر الأجساد، والطعن في الصحابة وحملة الدين، وغير ذلك من الأمور الكفرية، وقد كان لكل فرقة من الفرق المخالف لأهل السنة نصيب من هذه الأمور وغيرها.
قال أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله: (وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك، وكثير منهم إلى الإلحاد؛ تشم روائح الإلحاد من فلتات كلام المتكلمين...) . .
كما أنه يغلب على مخالف هذا المنهج أن يكون داعيا إلى بدعته؛ لأنه يتدين بذلك، أي يعتقده دينا وشرعة، وأن ما عليه غيره بدعة وضلالة، وعلى هذا يفهم قول من قال: المبتدع لا توبة له . ؛ لأنه يعتقد أن ما عليه هو الحق، وما دونه الباطل، بخلاف العاصي فإنه مقر بمخالفته ومعصيته، فهذا يرجى رجوعه وتوبته، بخلاف ذلك المبتدع.
النتيجة السادسة عشرة: اليقين والثبات لأهل السنة، وفي مقابله الاضطراب والتنقل لأهل البدع:
الالتزام بهذا المنهج يفيد الرجل يقينا وثباتا، ومخالفته تفيده اضطرابا وتنقلا:
قال ابن تيمية رحمه الله: (إنك تجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالا من قول إلى قول، وجزما بالقول في موضع، وجزما بنقيضه، وتكفير قائله في موضع آخر، وهذا دليل عدم اليقين، فإن الإيمان كما قال فيه قيصر لما سأل أبا سفيان عمن أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم: هل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له، بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا. قال: وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب، لا يسخطه أحد. ولهذا قال بعض السلف – عمر بن عبد العزيز أو غيره -: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل . .
أما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم، ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبرا على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين، كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف الأمة من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة.. ومن صبر من أهل الأهواء على قوله، فذاك لما فيه من الحق، إذ لابد في كل بدعة – عليها طائفة كبيرة – من الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويوافق عليه أهل السنة والحديث: ما يوجب قبولها، إذ الباطل المحض لا يقبل بحال.
وبالجملة: فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة..) . .
النتيجة السابعة عشرة: الشك والحيرة والضياع مصير المخالف:
مخالفة هذا المنهج أورثت المخالفين شكا وحيرة وضياعا:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد بلغني بإسناد متصل عن بعض رؤوسهم وهو الحونجي صاحب (كشف الأسرار في المنطق)، وهو عند كثير منهم غاية في هذا الفن. أنه قال عند الموت: أموت وما علمت شيئا إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب. ثم قال: الافتقار وصف عدمي. أموت وما علمت شيئا) . .
وقال رحمه الله: (حدثني من قرأ على ابن واصل الحموي أنه قال: أبيت بالليل، وأستلقي على ظهري، وأضع الملحفة على وجهي وأبيت أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء وبالعكس، وأصبح وما ترجح عندي شيء) . .
وقال آخر (بت البارحة أفكر إلى الصباح في دليل على التوحيد سالم عن المعارض فما وجدته) . .
وهذا الفخر الرازي يقول . :
(نهاية إقدام العقول عقال |
وأكثر سعي العالمين ضلال |
|
|||
|
|
|
|||
|
|
|
|||
|
وسيرت طرفي بين تلك المعالم |
||||
|
|
||||
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي المتشيع يصف حاله وحال إخوانه من المتكلمين . :
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
قال ابن تيمية: (ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: 8 - 9] يعلم الذكي منهم والعاقل: أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة، وأن حجته ليست ببينة، وإنما هي كما قيل فيها:
|
|
ويعلم العليم البصير أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي رضي الله عنه حيث قال: (حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام). . .
ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر – والحيرة مسئولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم – رحمتهم وترفقت بهم؛ أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهوما وما أعطوا علوما، وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون[الأحقاف: 26]. ومن كان عليما بهذه الأمور: تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه، وذموا أهله وعابوهم، وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعدا) . .
ولهذا من أدركته رحمة الله تعالى منهم خرج عن ذلك ورجع إلى طريقة السلف وأوصى بذلك:
روى الخطيب البغدادي بسنده إلى أحمد بن سنان أنه قال: (كان الوليد الكرابيسي خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحدا أعلم بالكلام مني؟ قالوا: لا. قال: فتتهمونني؟ قالوا: لا. قال: فإني أوصيكم أتقبلون؟ قالوا: نعم. قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم) . قال أبو بكر بن الأشعث: (كان أعرف الناس بالكلام بعد حفص الفرد الكرابيسي) . . وقد سئل الإمام أحمد عنه وما أظهر: فكلح وجهه ثم قال: (إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها، تركوا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأقبلوا على هذه الكتب) . .
وقال أبو المعالي الجويني: (لقد جلت أهل الإسلام جولة وعلومهم، وركبت البحر الأعظم، وغصت في الذي نهوا عنه، كل ذلك في طلب الحق وهربا من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، فالويل لابن الجويني) . وكان يقول لأصحابه: (يا أصحابنا لا تنشغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ في ما بلغ ما تشاغلت به). .
النتيجة الثامنة عشرة: أهل السنة أعمق علما وأسد عقلا:
لما كان أهل السنة ملتزمين المنهج الصحيح كان كلامهم في مسائل الكون صحيحا متفقا، لا يتكلمون فيها إلا بعلم (عقلي أو سمعي)، وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه: قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17) سورة محمد وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا [النساء: 66- 68] . .
وقال ابن القيم رحمه الله في شرح آية: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النــور: 35] قال رحمه الله: (النور على النور: نور الفطرة الصحيحة والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب؛ فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورا على نور، ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع ما فيه بالأثر، ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به، فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الحق، لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة بل يتصادفان ويتوافقان) . .
أما غير أهل السنة من المتكلمين والمتصوفة وغيرهم فكلامهم في مسائل الكون خبط من غير علم:
يقول عبد القادر البغدادي – وهو يذكر ما أجمع عليه أهل السنة وهم – عنده – الأشاعرة -: (وأجمعوا على وقوف الأرض وسكونها وأن حركتها إنما تكون بعارض يعرض لها من زلزلة ونحوها.. وأجمعوا على أن الأرض متناهية الأطراف من الجهات كلها، وكذلك السماء متناهية الأقطار من الجهات الست . ) وزعم أنه يرد بذلك على الفلاسفة والدهرية.
فهذا الذي قاله لا يدل عليه عقل ولا نقل فضلا عن الإجماع، بل هو - في زماننا هذا – أشبه بالأساطير. ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: (والخطأ فيما تقوله الفلاسفة في الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع أعظم من خطأ المتكلمين، وأما فيما يقولونه في العلوم الطبيعية فقد يكون صواب المتفلسفة أكثر من صواب من رد عليهم من أهل الكلام، فإن أكثر أهل الكلام في هذه الأمور بلا علم، ولا عقل، ولا شرع) . .
النتيجة التاسعة عشرة: اعتقاد منع التعارض بين النقل والعقل يفيد في عمران الحياة، وازدهار الحضارات؛ فتنعم البشرية بهدي الله وشرعه، ولأهل السنة اليد الطولى والقدح المعلى في تقدم المعارف العقلية، والعلوم التطبيقية، إذ ليس هناك ما يحجزهم دونها، كما حدث في الدولة المسيحية في عصور الظلام، حين انقدح عندهم التعارض بين نصوص الإنجيل ومعطيات العقل، حتى تعرض المشتغلون بالعلوم التطبيقية والمعارف العقلية إلى أشد أنواع التنكيل من قبل الكنيسة حتى كان الانعتاق من سلطانها، وبداية ظهور الاتجاه العلماني.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحد وأسد عقلا، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال، وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم (بذلك) . متمتعين..) . .
النتيجة العشرون: إن الالتزام بهذا المنهج يوحد بين صفوف المسلمين، ويجمع كلمتهم؛ على تنوع اهتماماتهم العلمية والعملية، وتفاضل مقاديرهم في العلم والإيمان، ولا يعني هذا الاتفاق في جميع تفاصيل المسائل ودقائقها، ولكن الاتفاق في الطريق والمنهج الموصل إلى الحق، فإن وجد اختلاف بعد ذلك لم يفسد للود قضية، بل يندفع بالتناصح والتشاور، وتذوب حدته في بحر الألفة والمودة:
قال أبو القاسم الأصبهاني رحمه الله: . (السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطرق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدع أخذوا الدين من المعقولات والآراء فأورثهم الافتراق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات المتقنين قلما تختلف، وإن (اختلفت) . في لفظ أو كلمة فذلك الاختلاف لا يضر الدين، ولا يقدح فيه، وأما ذكر دلائل العقل . فقلما تتفق، بل عقل كل واحد يرى صاحبه غير ما يرى الآخر. .
الفصل الثالث: حكم من خالف منهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الاعتقاد
لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق – أسوة باليهود والنصارى – إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأن جميعها في النار، خلا واحدة هي الناجية، وهي الجماعة، وهي الفرقة المنصورة . ، وأن سبب نجاتها هو التزامها بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أمور الديانة: علما وعملا.
وقد أفتى أهل العلم بأن الفرقة الناجية والطائفة المنصورة هم أصحاب الحديث، حتى قال الإمام أحمد رحمه الله: (إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم) . . وروي نحوه عن يزيد بن هارون، وأحمد بن سنان، وعلي بن المديني، والإمام البخاري رحمهم الله) . .
وأهل الحديث والسنة: هم الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها، وهم – أيضا – أعظم الناس اتباعا لها: تصديقا وعملا وحبا، وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها، الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة؛ فلا ينصبون مقالة – عن رأي أو ذوق – ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يجعلون ما بعث به من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه.
وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأحكام، ومسائل المعاد وحشر الأجساد وغير ذلك، يردونه إلى الله ورسوله، فما كان من معانيها موافقا للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان منها مخالفا للكتاب والسنة أبطلوه، ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس؛ فإن اتباع الظن جهل، واتباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم . .
وعليه، فما عدا طائفة أهل الحديث هم أهل أهواء وبدع وتفرق، محكوم على جملتهم بمخالفة الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق:
قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: (أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام: أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع - في جميع الأمصار - في طبقات العلماء، وإنما العلماء: أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم) . .
وقال هارون الرشيد رحمه الله: (طلبت أربعة فوجدتها في أربعة: طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته عند الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث) . .
وقال رجل للحسن بن زياد اللؤلؤي في زفر بن هذيل: (أكان ينظر في الكلام؟ فقال: سبحان الله! ما أحمقك! ما أدركت مشيختنا: زفر، وأبا يوسف، وأبا حنيفة، ومن جالسنا وأخذنا عنهم يهمهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم) . .
وقال الإمام مالك رحمه الله: (لا تجوز الإجارات في شيء من كتب الأهواء والبدع والتنجيم، وذكر كتبا، ثم قال: وكتب أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب الكلام من المعتزلة وغيرهم، وتفسخ الإجارة في ذلك) . .
وقال ابن خويز منداد – من أئمة المالكية-: (أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع: أشعريا كان، أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبدا، ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليه استتيب منها) . .
وقال يونس بن عبد الأعلى: (سمعت الشافعي – يوم ناظره حفص الفرد – قال لي: يا أبا موسى لأن يلقى الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك، خير من أن يلقاه بشيء من الكلام، لقد سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه) . .
وأيضا – قال الشافعي رحمه الله: (حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل؛ فينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام) . .
وقال الإمام أحمد رحمه الله: (إنه لا يفلح صاحب كلام أبدا، ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل) . .
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: (.. فلم يسع مسلما يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أن يأبى عما وجد فيهما، فإن فعل ذلك بعد قيام الحجة ع
ساحة النقاش