تعد العلوم الشرعية من أشرف العلوم وأنفعها ، وأكمل المعارف وأرفعها، وخير العلوم أجمعها؛لأنها تتعلق بالبحث فى كتاب الله ، بالتفسير والتأويل والتحليل والتعليل .
"فطوبى لعبد أنعم الله عليه بالاشتغال بأحد هذه العلوم ، فإنه يفوز باللذة العظمى،وينعم فى خير لا يبلى ، نهايته جنة المأوى" مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ " .[1]*
ولما كان علم أصول الفقه من هذه العلوم الشرعية ، وله من الشرف والنفع ، والفضل والرفعة ، ما لا يخفى على ذى لب ." فهو العلم الذى ازدوج فيه العقل والسمع ، واصطحب فيه الرأى والشرع ؛ فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول ، ولا هو مبنى على محض التقليد الذى لا يشهد له العقل بالتأييد السديد ". (أبو حامد الغزالى 1998: 1-3 )
وعلم أصول الفقه لا غنى عنه لكل من يدرس العلوم الشرعية ، سواء أكان فقيها أم محدثا أم مفسرا ، وهو الركيزة والدعامة لكل من يتصدى للإفتاء ، ويبذل الوسع فى الاجتهاد ؛ لأنه العلم الذى تستنبط منه الأحكام الشرعية بواسطة الأدلة التفصيلية .
تعريف أصول الفقه: يستلزم تعريف أصول الفقه باعتباره مركبا إضافيا تعريف جزئيه : أصول ، الفقه . فالأصول : جمع أصل ، وهو فى اللغة : ما يبتنى عليه غيره ، سواء أكان الابتناء حسيا أو عقليا ، وفى عرف العلماء واستعمالاتهم ، يراد بكلمة ( الأصل ) عدة معان ، منها : أ- الدليل : فيقال / أصل هذه المسالة الإجماع ، أى دليلها الإجماع . وبهذا المعنى قيل :أصول الفقه، أى أدلته ، لأن الفقه ينبنى على الأدلة ابتناء عقليا . ب- الراجح : مثل قولهم : الأصل فى الكلام الحقيقة ، أى الراجح فى الكلام حمله على الحقيقة ، لا المجاز . ومنه الكتاب أصل بالنسبة إلى القياس ، أى الراجح هو الكتاب . جـ- المستصحب : فيقال : الأصل براءة الذمة ، أى يستصحب خلو الذمة من الانشغال بشىء حتى يثبت خلافه. د- القاعدة:فيقال:إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل ، أى على خلاف القاعدة العامة.(الإسنوى 2001 : 7) أما ( الفقه ) ، فهو فى اللغة : العلم بالشيء والفهم له ، ولكن استعماله فى القرآن الكريم يرشد إلى أن المراد منه ليس مطلق العلم ، بل دقة الفهم ، ولطف الإدراك ، ومعرفة غرض المتكلم ، ومنه قوله تعالى:}قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ {(هود91)وقوله تعالى:} فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً {( النساء 78 ) . أما الفقه فى اصطلاح العلماء فهو : العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.(البيضاوى 2001: 22 )و(سيف الدين الأمدي 2001 : 7 ) و (الشوكانى 2001 : 3 ). ويعرفه (الفيروز آبادى 1405 هـ)بأنه:معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، والأحكام الشرعية وهي الواجب والمندوب، والمباح والمحظور، والمكروه؛ والصحيح والباطل.(أبو إسحاق الفيروز آبادى 1405هـ :2) أما الأحكام : جمع حكم ، وهو إثبات أمر لآخر ، إيجابا أو سلبا ، مثل قولنا : الشمس مشرقه أو غير مشرقه ، والماء ساخن أو غير ساخن . والمراد بالأحكام هنا : ما يثبت لأفعال المكلفين من وجوب ، أو ندب ، أو حرمه ، ....إلخ. (سلام مدكور 2001 :8) ولا يشترط العلم بجميع الأحكام الشرعية لصحة إطلاق كلمة الفقه ، فالعلم بجملة منها يسمى فقها ، ويسمى صاحبها فقيها ما دامت عنده ملكة الاستنباط. ( محمد أبو زهرة 1958 :7) وقيدت الأحكام بكونها شرعية ، للدلالة على أنها منسوبة إلى الشرع ، أى مأخوذة منه رأسا أو بالواسطة ، فلا تدخل فى التعريف الأحكام العقلية كالعلم بأن الكل أكبر من الجزء ، وأن الواحدة نصف الاثنين ، وأن العالم حادث ، ولا الأحكام الحسية : أى الثابتة بطريق الحس، كعلمنا أن النار محرقه ، ولا الأحكام الثابتة بطريق التجربة : كالعلم بأن السم قاتل ، ولا الأحكام الوضعية :أى الثابتة بالوضع . ويشترط فى هذه الأحكام الشرعية أن تكون ( عملية ) أى متعلقة بأفعال المكلفين : كصلاتهم ، وبيوعهم ، وأشريتهم ، وجناياتهم ، أى ما كان منها من العبادات أو المعاملات ، فلا يدخل فيها ما يتعلق بالعقيدة ، وهى الأحكام الاعتقادية : كالإيمان بالله واليوم الآخر ، ولا ما يتعلق منها بالأخلاق وهى الأحكام الأخلاقية : كوجوب الصدق وحرمة الكذب . فهذه أو تلك لا تبحث فى علم الفقه ، وإنما تبحث فى علم التوحيد ، أو الكلام ، إن كانت أحكاما اعتقادية ، وفى علم الأخلاق ، أو التصوف ، إن كانت أحكاما أخلاقية . ويشترط فى هذه الأحكام الشرعية العملية أن تكون مكتسبة ، أى مستفادة من الأدلة التفصيلية بطريق النظر والاستدلال .ويترتب على هذا الشرط : أن علم الله بالأحكام ، أو علم الرسول بها ، أو علم المقلدين بها ، كل ذلك لا يعتبر فى الاصطلاح فقها ، ولا يسمى صاحبها فقيها ، فعلم الله لازم لذاته وهو يعلم الحكم والدليل ، وعلم الرسول مستفاد من الوحى لا مكتسب من الأدلة ، وعلم المقلد مأخوذ بطريق التقليد لا بطرق النظر والاجتهاد .والأدلة التفصيلية : هى الأدلة الجزئية التي يتعلق كل منها بمسألة خاصة وينص على حكم معين لها ، مثل : أ- قوله تعالى:}حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ{( النساء23)فهذا دليل تفصيلى،أى دليل جزئى يتعلق بمسائل خاصة:وهى نكاح الأمهات ، ويدل على حكم معين :هو حرمة نكاح الأمهات. ب- قوله تعالى: }وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً {(الإسراء 32) ، دليل جزئى يخص مسألة معينة : وهى الزنا ، ويدل على حكم خاص بها حرمة الزنا . جـ- وقوله تعالى:}وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{(الأنفال60)دليل جزئى يتعلق بمسألة معينة : هى إعداد القوة من قبل الجماعة،ويدل على حكم معين خاص بها : وهو وجوب إعداد القوة من قبل الجماعة لإرهاب العدو . د- قوله عليه الصلاة والسلام : " العمد قود " دليل جزئى يتعلق بمسالة خاصة : هى القتل العمد ، ويدل على حكمها : وهو وجود القصاص . هـ- الإجماع على أن ميراث الجدة السدس ، دليل جزئى يخص مسألة معينة هى ميراث الجدة ، ويدل على حكمها : وهو وجوب إعطاء الجدة السدس . فالأدلة التفصيلية :هى التي تدل على حكم كل مسألة،ومن ثم فهى موضوع بحث الفقيه ليتعرف على الأحكام التي جاءت بها ، مستعينا على ذلك بما قرره علم الأصول من قواعد للاستنباط ومناهج للاستدلال ، أما الأصولى فلا يبحث فى هذه الأدلة،وإنما يبحث فى الأدلة الإجمالية ، أى الكلية ، ليتعرف على ما فيها من أحكام كلية، ليضع القواعد التي يطبقها الفقيه على الأدلة الجزئية يصل إلى معرفة الحكم الشرعى.(عبد الكريم زيدان 1996: 11) أما تعريف أصول الفقه اللقبى ، أى باعتباره لقبا على علم مخصوص : فهو العلم بالقواعد والأدلة الإجمالية ، التي يتوصل بها إلى استنباط الفقه . (ابن نجيم 2001 : 7 ) والقواعد : قضايا كلية ينطبق حكمها على الجزئيات التي تندرج تحتها ، فنعرف بها حكم هذه الجزئيات ، ومن أمثلة ذلك : قاعدة : " الأمر يفيد الوجوب " ، إلا إذا صرفته عن ذلك قرينة ، فهذه القاعدة ينطبق حكمها على جميع النصوص الجزئية التي تندرج تحت هذه القاعدة ، مثل قوله تعالى : } أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ { ( المائدة1) ، وقوله تعالى : }وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ { ( النور56)،فجميع صيغ الأمر المجردة تندرج تحت هذه القاعدة ، ويعرف بذلك وجوب ما تعلقت به صيغة الأمر:كوجوب الوفاء بالعقود ووجوب الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الرسول .ومثل قاعدة : " النهى يفيد التحريم ، إلا إذا وجدت قرينة تصرفه عن التحريم " ، فهذه القاعدة تنطبق على النصوص الناهية المجردة ، ويعرف بهذا الانطباق حرمة ما تعلقت به صيغ النهى ، مثل قوله تعالى : } وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى { ( الإسراء32) وقوله تعالى :}أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ{ ( النساء 29) ، فيكون حكم الزنا الحرمة ، وحكم أكل أموال الناس بالباطل الحرمة أيضا . وبهذه القواعد : يتوصل المجتهد إلى استنباط الفقه ، أى إلى استنباط الأحكام الشرعية العلمية من أدلتها التفصيلية ، فإذا أراد المجتهد مثلا أن يعرف حكم الصلاة ، قرأ قوله تعالى }َأَقِيمُوا الصَّلَاةَ { فيقول:}أَقِيمُوا { صيغة أمر مجردة ، وقاعدة الأمر للوجوب إلا لقرينه صارفه تنطبق عليها ، فينتج عن ذلك:أن القيام بالصلاة واجب .(عبد الكريم زيدان 1996: 12) أما الأدلة الإجمالية:فهى مصادر الأحكام الشرعية ، كالكتاب والسنة والإجماع والقياس ، والعلم بها يكون من حيث العلم بحجيتها ومنزلتها فى الاستدلال بها ، ووجوه دلالة النص حسب اختلاف أحوال هذه الدلالة ، ومعنى الإجماع وشروطه ، وأنواع القياس وعلته ، وطرق التعريف على هذه العلة ، وغير ذلك من الأبحاث المتعلقة بالقياس وبسائر الأدلة الإجمالية .فالأصولى : يبحث عن الأدلة الإجمالية ، ومن حيث دلالتها على الأحكام الشرعية من أدلتها الجزئية ، والفقيه : يبحث فى الأدلة الجزئية ، ليستنبط الأحكام الجزئية منها ، مستعينا بالقواعد الأصولية ، والإحاطة بالأدلة الإجمالية ومباحثها . نشأة علم أصول الفقه : وجد أصول الفقه منذ أن وجد الفقه، فما دام هناك فقه لزم حتما وجود أصول وضوابط وقواعد له، وهذه هى مقومات علم الأصول وحقيقته ، ولكن الفقه يسبق علم الأصول فى التدوين وإن قارنه فى الوجود ، بمعنى أن الفقه دون ، وهذبت مسائلة ، وأرسيت قواعده ، ونظمت أبوابه قبل تدوين قواعد أصول الفقه ، وتمييزها عن غيرها ، وهذا لا يعنى أنه لم ينشأ إلا منذ تدوينه ، وأنه لم يكن موجودا قبل ذلك ، أو أن الفقهاء ما كانوا يجرون فى استنباطهم للأحكام على قواعد معينه ، ومناهج ثابتة ، فالواقع أن قواعد هذا العلم ومناهجه كانت مستقرة فى نفوس المجتهدين ، وكانوا يسيرون فى ضوئها وإن لم يصرحوا بها ، فعبد الله بن مسعود الصحابى الفقيه عندما كان يقول : إن الحامل المتوفى عنها زوجها ، تنقضى عدتها بوضع حملها ، لقوله تعالى : } وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ { ( الطلاق : 4 ) ويستدل بأن سورة الطلاق التي فيها هذه الآية ، نزلت بعد سورة البقرة التي فيها قوله تعالى : } وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً { ( البقرة : 234 ) إنما كان يشير بهذا الاستدلال إلى قادة من قواعد الأصول ، وهى أن النص اللاحق ينسخ النص السابق ، وإن لم يصرح بذلك كما أن العادة أن الشيء يوجد ثم يدون ، فالتدوين كاشف عن وجوده لا منشئ له ، كما فى علم النحو والمنطق ، فما زالت العرب ترفع الفاعل، وتنصب المفعول فى كلامها،وتجرى على هذه القاعدة وغيرها من قواعد النحو قبل تدوين النحو . ( عبد الكريم زيدان 1996: 14) فأصول الفقه لازم الفقه منذ نشأته ، بل كان موجودا قبل نشأة الفقه، لأنه قوانين للاستنباط ، وموازين للآراء ، ولكن لم تظهر الحاجة إلى تدوينه أولا ، ففى زمن النبى( r )ما كانت هناك حاجة للكلام عن قواعد هذا العلم فضلا عن تدوينه ، لأن النبى r))كان هو مرجع الفتيا وبيان الأحكام ، فما كان هناك من داع للاجتهاد والفقه ، وحيث لا اجتهاد ، فلا مناهج للاستنباط ، ولا حاجة إلى قواعده . وبعد وفاة النبى الكريم ( r ) ظهرت وقائع وأحداث كان لابد من مواجهتها بالاجتهاد واستنباط أحكامها من الكتاب أو السنة ، إلا أن فقهاء الصحابة لم يشعروا بالحاجة إلى الكلام عن قواعده الاجتهاد ومسالك الاستدلال لمعرفتهم باللغة العربية ، وأساليبها ، ووجوه دلالة ألفاظها وعبارتها على معانيها ، ولإحاطتهم بأسرار التشريع وحكمة ، وعلمهم بأسباب نزول القرآن وورود السنة. وكان نهجهم فى الاستنباط : أنهم كانوا إذا وردت عليهم الواقعة التمسوا حكمها فى كتاب الله ، فإن لم يجدوا الحكم فيه رجعوا إلى السنة ، فإن لم يجدوه فى السنة اجتهدوا فى ضوء ما عرفوا من مقاصد الشريعة ، وما تومئ إليه نصوصها أو تشير ، ولم يجدوا عسرا فى الاجتهاد ولا حاجة لتدوين قواعده ، وقد ساعدهم على ذلك ما كان عندهم من ذوق فقهى اكتسبوه من طول صحبتهم للنبى( r )، وملازمتهم له ، وما امتازوا به من حدة الذهن ، وصفاء النفس ، وجودة الإدراك . وهكذا انقضى عصر الصحابة ولم تدون قواعد هذا العلم ، وكذلك فعل التابعون ، فقد ساروا على نهج الصحابة فى الاستنباط ، ولم يحسوا بالحاجة إلى تدوين أصول استخراج الأحكام من أدلتها ، لقرب عهدهم من عصر النبوة ، ولتفقههم على الصحابة وأخذهم العلم منهم .إلا أنه بعد انقرض عصر التابعين اتسعت البلاد الإسلامية ، وجدت حوادث ووقائع كثيرة، واختلط العجم بالعرب على نحو لم يعد بسببه اللسان العربى على سلامته الأولى ، وكثر الاجتهاد والمجتهدون ، وتعددت طرقهم فى الاستنباط ، وأتسع النقاش والجدل ، وكثرت الاشتباهات والاحتمالات ، فكان من أجل ذلك كله أن أحسن الفقهاء بالحاجة إلى وضع قواعد وأصول وضوابط للاجتهاد ، ويرجع إليها المجتهدون عند الاختلاف ، وتكون موازين للفقه وللرأى الصواب . حتى إذا انتقلنا إلى عصر الأئمة المجتهدين فإننا نجد مناهج الاستنباط وقواعد استخراج الفروع الفقهية تتميز بشكل واضح ، فهذا الإمام أبو حنيفة – رضي الله عنة – يحدد منهجه في استنباط الأحكام فيقول : آخذ بكتاب الله إذا وجدته , فما لم أجدة فيه أحذت بسنة رسول الله صلى الله علية وسلم والآثار الصحاح عنة التي فشت في أيدي الثقات فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله علية وسلم أخذت بقول أصحابة من شئت وادع من شئت , ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم , فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم , والشعبي , والحسن بن سبرين وسعيد بن المسيب - وعد رجالا قد اجتهدوا. وكذلك نجد الإمام مالك بن أنس – رضي الله عنة – يسير على منهاج أصولي واضح , فيقرر أن أصول مذهبه هي : الكتاب والسنة والإجماع والقياس , وعمل أهل المدينة , وقول الصحابي والاستحسان , وسد الذرائع ،وهكذا كان لكل إمام أصولة ومناهجه التي يسير عليها , والمشهور عند جمهور العلماء أن أول من دون فيه كتابا مستقلا هو الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله تعالى عنة حيث ألف فيه رسالته المشهورة التى كتبها إلى الإمام الحافظ عبد الرحمن بن مهدى المتوفى سنة 198ه , وهو أحد أئمة الحديث في الحجاز بعد أن أرسل إلية أن يضع له كتابا فية نعانى القرآن ويجمع قبول الأخبار فيه . وحجة الإجماع , وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة . فوضع له كتاب" الرسالة " . ( محمد أبو زهرة 1958 :7) وقد تلقى العلماء ما وصل إلية الإمام الشافعي في تحرير أصوله بالدراسة والبحث . ولكنهم اختلفوا من بعدة على اتجاهين : - · الاتجاه نحو شرح أصول الشافعي مبينا ما أجمل منها ومحرجا عليها · أخذ ما قرره الشافعي ، مع مخالفته في بعض التفصيلات ، ولكن الذي كان واضحا أن دراسة " أصول الفقه " بعد الإمام الشافعي اتجهت نحو اتجاهين مختلفين : - 1- اتجاه نظري لا يتأثر بفروع الفقه , وإنما كان يهتم أصحاب هذا الاتجاه نحو تحرير المسائل وإقامة الأدلة عليها مجردة من الفروع الفقهية , شأنها في ذلك شأن علماء الكلام , ولذلك سميت طريقتهم بطريقة " المتكلمين " ولا يحسنها إلا من أحسن المنطق والبحث والمناظرة , وعلى ذلك جمهور الفقهاء . 2- اتجاه متأثر بالفروع الفقهية , ويتجه لخدمتها , وتمتاز هذه الطريقة بأنها تقرر القواعد الأصولية على مقتضى مل نقل من الفروع الفقهية , حتى إذا وجدوا قاعدة تتعارض مع بعض الفروع المقررة في المذهب عمدوا إلى تعديلها بما يتفق والفروع الفقهية , ولذا سميت هذه الطريقة بطريقة الفقهاء وعلى ذلك الحنفية .وقد وجدت طريقة ثالثة فى البحث ، تقوم على الجمع بين الطريقتين ، حيث تعنى بتقرير القواعد الأصولية المجردة التي يستند إليها الدليل ، لتكون موازين للاستنباط مع الالتفات إلى المنقول عن الأئمة من الفروع الفقهية.( عبد الكريم زيدان 1996: 18) أهداف تدريس علم أصول الفقه : كان الغرض من وضع أصول الفقه ، هو الوصول إلى الأحكام الشرعية ، بوضع القواعد والمناهج الموصلة إليها ، على وجه يسلم به المجتهد من الخطأ .فالفقه والأصول يتفقان على أن غرضهما التوصل إلى الأحكام الشرعية ، إلا أن الأصول تبين الوصول وطرق الاستنباط ، والفقه يستنبط الأحكام فعلا على ضوء المناهج التي رسمها على الأصول ، وبتطبيق القواعد التي قررها .ولا يقال : لم تعد هناك حاجة إلى هذا العلم بعد القول بسد باب الاجتهاد ، لأن الاجتهاد باق إلى يوم القيامة ، ولكن بشروطه ، ومن أفتى بسد باب الاجتهاد ، إنما قال ذلك اجتهادا عندما رأى جرأة الجهال على شرع الله، وتشريع الأحكام بالهوى . (عبد الكريم زيدان 1996: 12-13) ومن لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد ، فهو بحاجة أيضا إلى معرفة هذا العلم ، والوقوف على قواعده ، حتى يعرف مآخذ أقوال الأئمة ، وأساس مذاهبهم ، وقد يستطيع المقارنة والترجيح بين هذه الأقوال ، وتخريج الأحكام على ضوء مناهج الأئمة ، التي اتبعوها فى تقرير الأحكام واستنباطها . وكما أن المعنى بالأحكام الشرعية لا غنى له عن هذا العلم ، فإن المعنى بالقوانين الوضعية ، من محام أو قاض أو مدرس ، يحتاج هو الآخر إلى هذا العلم ، لأن القواعد والأصول التي قررها علم الأصول التي قررها علم الأصول ، مثل : القياس وأصول ، والقواعد الأصولية لتفسير النصوص ، وطرق دلالة الألفاظ والعبارات على معانيها ، ووجوه هذه الدلالة ، وقواعد الترجيح بين الأدلة ، كل ذلك وغيره تلزم الإحاطة به من قبل من يتصدى للقوانين الوضعية ، ويريد الوصول إلى تفسيرها ومعرفة ما انطوت عليه من أحكام ، ولهذا فقد اعتنت كليات الشريعة فى سائر الدول الإسلامية– قديما وحديثا – بتدريس هذا العلم لطلابها . (عبد الكريم زيدان 1996: 13) ولعلم الأصول أهدافا وفوائد ترجى من دراستها ومن أهمها : 1- تنمية القدرة على استنباط الأحكام الفقهية من أدلتها التفصيلية؛ ذلك لأن الشخص الذى لا يعلم هذه القواعد الأصولية يكون غير قادر على استنباط الأحكام من الأدلة . 2- التدرب على الموازنة بين أدلة الأئمة السابقين لتطمئن النفوس إلى ما قلدت فيه من الأحكام ؛ فهذا العلم يجعل المقلد الذى درسه على بينة مما فعله إمامه عند استنباطه الأحكام فإن المقلد متى وقف على طرق الأئمة وما ذهب إليه كل منهم بالنسبة لتلك القواعد الأصولية ، أطمأنت نفسه إلى مدرك إمامه بالنسبة للحكم الذى قلده فيه فيدعوه ذلك إلى طاعة والامتثال وتكون عنده القدرة التى تمكنه من الدفاع عن وجهة إمامه فيما استنبطه من الأحكام . ولذلك لو فرضنا وجود مجتهد ، منحه الله تعالى قوة الاجتهاد وحصل شروطه ، ومعداته وصان نفسه عن الأغراض وبعد بدينه عن الأهواء فإنه ينظر فى الأدلة ليستنبط أحكام الحوادث التى جدت وذلك بمعرفة تلك القواعد الأصولية المقررة . 3- تنمية القدرة على استنباط الأحكام الشرعية بواسطة القياس ، أو الاستحسان ، أو الاستصحاب ، أو المصالح المرسلة ، أو غيرها للوقائع التى لم يرد نص بحكمها استنباطاً صحيحا . (إبراهيم عبد القادر 2001 :25 -26)
ساحة النقاش