على الرغم من المآخذ الكثيرة التي أخذت على النقد التفكيكي، فقد وجد باحثون في مقولاته الأساسية ما يشجعهم على المضي بعيداً نحو فهم آخر لدور القارئ في تحليل النص الأدبي، واللجوء إلى التأويل بحثاً عن المعنى، وقد شاع بفضل ذلك المفهوم نوع جديد من دراسة النص الأدبي لا يعتمد الاهتمام بالمؤلف أو النص وإنما يوجه اهتمامه كله نحو استجابة القارئ.
وهناك إشكالية في اعتبار هذا المنهج مما بعد البنيوية، لأنه في الواقع نشأ موازياً لها، وليس منبثقاً عنها، وتوخى في الدرجة الأولى تغطية الجوانب التي أهملتها البنيوية، وليضع العملية الأدبية في دائرة التواصل الإنساني بالنظر إلى طبيعتها، وينقل مركز الثقل من استراتيجية التحليل من جانب المبدع-النص، إلى جانب النص-المتلقي.ويُعد مقال "التغير في نموذج الثقافة الأدبية" للناقد الألماني ياوس، والذي كتبه في نهاية الستينات المنطلق الحقيقي لهذا المنهج.
واختلفت لهجات النقاد في مناقشة مفهوم التلقي، وتأثر ذلك ببعض العوامل التي منها الانفصام الواضح بين الحياة السياسية والاجتماعية من جانب والإنتاج الأدبي من جانب آخر، حيث تحررت عملية الإنتاج الأدبي وتلقيه من تبعات أي سياق اجتماعي يربط الأديب بالقارئ، ولهذا كثر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الأدب القائم على مخاطبة مشاعر القارئ بعيداً عن التأثير بأي توجيه يلقيه على كاهله العرف السائد أو الذوق الأخلاقي، وسرعان ما تغيرت لهجة الناقد الذي لم يعد معنياً بالدفاع عن تأثير الأدب بقدر عنايته المنصبة على الاستجابة العاطفية للغة الشعر والدراسة التحليلية لجماليات التلقي.
وتقوم جماليات التلقي عندهم على ما يلي:
· القارئ هو المستهدف في أي نص أدبي، ولا قيمة لذلك النص إلا في أثناء قراءته؛ لأن القراءة بتحقيق التفاعل بين القارئ ومادة النص المكتوب تبعث الحياة في حروفه وكلماته الميتة.
· النص الأدبي بطبيعته المجازية نص مفتوح، يسمح بتعدد القراءات، وهذا التعدد هو الذي يخصب النص ويغنيه، وفي هذه المسألة تلتقي نظرية التلقي مع التفكيكة.
· عدم ضرورة قراءة النص في إطاره التاريخي، فللقارئ مرجعياته التي تمكنه من تشكيل المعنى الأدبي للنص، وفي هذا الصدد يقول إيزر، أحد أقطاب نظرية التلقي "يتشكل العمل الأدبي من خلال القراءة، وجوهره ومعناه ليسا وليدي النص بقدر ما هما وليدي التفاعل الداخلي بين أجزائه وتصورات القارئ" ومعنى هذا أن الأثر الأدبي يحتوي رموزاً ودلالات وإيحاءات تستطيع أن تثير لدى القارئ ما يمكن أن يعد نشاطاً إبداعياً، يوازي النشاط الذي أثاره في نفس كاتبه.
· استخدام مصطلح أفق الانتظار أو التوقع Horizon of Attention ، أي استحالة فصل النص المقروء عن تاريخ تلقيه والأفق الأدبي الذي ظهر فيه أول أمره؛ فالنص وسيط بين أفق القارئ والأفق الذي يمثله، وعن طريق التداخل بين هذين الأفقين تنمو لدى مستقبل النص القدرة على توقع بعض الدلالات والمعاني، ولكن هذا التوقع لا يستتبع بالضرورة تطابق المعاني التي تم التوصل إليها مع تلك التي تحدث عنها القدماء، وهذا ما يسمى كسر حاجز التوقع، الذي هو في نظر جماليات التلقي شيء ينم عن أن القراءة المنتجة تضيف للنص شيئاً جديداً.
· لا وجود لقراءة محايدة، لذا لابد من توفر الحد الأدنى من الموضوعية لدى القارئ الجيد ليتمكن من إعادة بناء السياق المناسب للنص، والأثر الأدبي نفسه هو الذي يبرمج عملية التلقي.
· رفض أي معيار أيديولوجي سابق لأن الإيمان ببعض المعايير الأيديولوجية يؤثر في تفاعل النص والقارئ، وربما يعوق هذا التفاعل عندما تتحول هاتيك المعايير إلى موضوع ينشده القارئ في النص، بينما القراءة الجيدة هي التي تقوم على التوفيق بين ما لدى القارئ من معارف أو خبرة وبين نسيج النص الداخلي.
· عدم تساوي القراء في نظرتهم إلى النص، بل هم ثلاثة أصناف هي:
– القارئ العادي، وهو الذي لا يقدم أي إضافة للنص، وهذا قارئ سلبي.
– القارئ العارف أو المهتم، وهو الذي يستطيع بما أوتي من خبرة إعادة إنتاج النص الأدبي في نفسه.
- القارئ الناقد، وهو الذي لا يستطيع إنتاج النص في نفسه فقط، بل على الورق أيضاً، أي أنه قادر على صياغة النص من جديد في قراءة تؤثر بدورها في قارئ آخر من النوع الأول أو الثاني، وهذه القراءة تُسمى القراءة المنتجة.
القراءة المنتجة ضرب من المراوغة والتجسس على الكلمات، وهي بحث عن المضمر واقتحام للمجهول، وفي هذا تلتقي نظرية التلقي بنظرية التفكك لقاء حميماً.
وقد تمتع هذا المنهج النقدي بحضور مكثف إلى أن برز منهج نقدي آخر يدعو إلى الإفادة من علوم الإنسان ومن مشاعر القارئ فيما يعرف بالتحليل النصي،أو منهج التناص. ولعل من أسباب ذلك التالي:
· إن هذا المنهج لا يزود الناقد بأي مقاييس أو معايير يستند إليها في تقويم النص الأدبي، أو الحكم على عملية التلقي بالنجاح أو الإخفاق، مما يهدد بتحويل القراءة المنتجة إلى قراءة انطباعية.
· إن النقد التطبيقي الذي كتبه رواد مدرسة التلقي، ونشر في بعض المجلات نقد لم يؤثر كثيراً في النقد الحديث، ولم يمثل علامة فارقة فيه.
ساحة النقاش