كشفت مدرسة التفسير الأدبي عن بلاغة علوم القرآن وإعجازه وأوضحت معانيه ومراميه وأظهرت ما فيه من سنن الكون الأعظم. ووقفت بين القرآن وما أثبته العلم من نظريات صحيحة وجلت للناس أن القرآن هو كتاب الله الخالد الذي يستطيع أن يساير التطور الزمنيّ والبشريّ.
كما دافعت ما ورد من شبه على القرآن وفنّدت ما أثير حوله من شكوك وأوهام كل هذا بأسلوب شيّق جذّاب يستهوي القارئ ويستولي على قلبه ويحبب إليه النّظر في كتاب الله ويرغّبه في الوقوف عند معانيه وأسراره ولم تشوه التفسير بالإسرائيليّات والرّوايات الخرافيّة المكذوبة، ولم تتطرّق إلى الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
ومن نماذج التفسير الأدبي: سورة العاديات نموذجا: حيث تعد هذه السورة تطبيقًا عمليًا للتصوير الدقيق الذي أضفى جمالية على عدةِ مشاهدَ نبعت عن خيال يخاطب العقل ويشرح حقائق غامضة عن النفس التي لا تخلو من غموض وخفاء. اِبتدأت بمشهدِ الخيل العادية، ثم مشهدٍ في النفس من الكنود والجحود، يليه مشهدٌ لبعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور، واختُتِمت باستقرار ومصير ينتهي إليه كل شيء. حيث يجري سياق هذه السورة في لمساتٍ سريعة عنيفة مثيرة، ينتقل من إحداها إلى الأخرى قفزًا وركضًا ووثبًا، في خفة وسرعة وانطلاق، حتى ينتهي إلى آخر فقرة فيها فيستقر عندها اللفظ والظل والموضوع والإيقاع، كما يصل الراكض إلى نهاية المطاف. وتبدأ بمشهد الخيل العادية الضابحة، القادحة للشرر بحوافرها، المغيرة مع الصباح، المثيرة للنقع وهو الغبار، الداخلة في وسط العدو فجأة تأخذه على غرة، وتثير في صفوفه الذعر والفرار. يليه مشهد في النفس من الكنود والجحود والأثرة والشح الشديد، ثم يعقبه مشهد لبعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور. وفي الختام ينتهي النقع المثار، وينتهي الكنود والشح، وتنتهي البعثرة والجمع إلى نهايتها جميعا إلى الله. فتستقر هناك: (إنَّ ربَّهم بِهم يومئذٍ لخبير). إن السورة مشوار واحد لاهث صاخب ثائر، حتى ينتهي إلى هذا القرار معنى ولفظا وإيقاعا، على طريقة القرآن “(قطب، 1995 : 3957).
وهكذا يتضح أنّ جمال الأدب في القرآن الكريم يتجلى في طريقة اختيار الألفاظ وتركيبها، للتعبير عن المعاني قصد الإيضاح والتأثير، فهو ناشئ عن الخيال الرائع الذي يخاطب العقل ويناجي الفكر ويشرح الحقائق العلمية التي لا تخلو من غموض وخفاء. فالدِقَّة في التصوير من أظهر مزاياه, إذ يبدو فيه أثر القول والجمال, وقوته في سطوع بيانه وسلاسة عباراته حتى يسهل تقرير المعنى في الأفهام, وعندها يلبس التصوير ثوب المحسوس فيؤثر في عواطف القارئ والسامع ويقع في نفسه موقع الإقناع والتأثير والموعظة.
وقد دعا الخولي إلى اعتماد المنهج الأدبي في التفسير، ورأى أن أول ما ينبغي القيامُ به هو النظر إلى القرآن من حيث هو كتاب العربية الأكبر، وأثرها الأدبيّ الأعظم، كم حدد قواعد المنهج الأدبي في مادة التفسير من (دائرة المعارف الإسلامية) الجزء الخامس، مادة تفسير ص 365 -374 وأعيد نشره ضمن كتابه (مناهج تجديد.)، وهو يرى أن دراسة النص القرآني ينبغي أن تتناول ما يلي:
أ -التأمل في الظروف العامة التي أحاطت بالنص القرآني، أي الانفتاح على علوم القرآن (وكانت المرحلة متأثرة بالمنهج التاريخي (.
ب -تحليل النص بالنظر في مفرداته وتتبع أصولها ومعانيها في العصر الذي نزل فيه القرآن، مع القيام باستقراء لتلك المعاني، بمختلف استعمالاتها في القرآن.
ج -الدراسة الأسلوبية: أي الاستعانة بالصنعة النحوية بقصد بيان المعنى وتحديده والنظر في اتفاق القرارات المختلة للآيات.
د -النظرة البلاغية: والمراد بها تلك "النظرة الأدبية الفنية التي تتمثل الجمال القولي في الأسلوب القرآني، وتستبين معارف هذا الجمال، وتستجلي قسماته في ذوق بارع قد يستشف خصائص التراكيب العربية لمعرفة المزايا الخاصة بها بين آثار العربية".
ومما سبق يتأكد أن التفسير هو الدراسة الأدبية الصحيحة وأن المقصد الأول للتفسير مقصد أدبيٌّ محضٌ، صِرْفٌ، غيرُ متأثر بأي اعتبار وراء ذلك. وأن فهم مفردات القرآن وأساليبه يقومان أساساً على الدرس الأدبي الدقيق، المتذوق للأقصى ما يقدمه إيحاء التعبير في ضوء دلالتها السياقية، وما توحيه من ظلال وأبعاد في النفس والفكر.
ويضم منهج التفسير الأدبي صنفين من الدراسة: دراسة (ما حول القرآن) وتتصل بالبيئة المادية والمعنوية التي ظهر فيها القرآن وعاش، وفيها جُمع وفيها كُتب، وفيها قُرئ وحُفظ، وخاطب أهلها من خاطب، وإليهم ألقى رسالته لينهضوا بأدائها وإبلاغها الى شعوب الدنيا. ومن هنا لزمت المعرفة الكاملة لهذه البيئة العربية المادية والمعنوية، من ماض سحيق، وتاريخ معروف، ونظام أسرة وقبيلة وعقيدة، ودراسة (ما في القرآن)، وتتصل بالنظر في مفردات الآية في معناها اللفظي اللغوي، ثم معناها الاستعمالي في القرآن، ثم دراسة المركبات مستعيناً بالعلوم الأدبية المختلفة ( الخولي، 1996: 307).
ساحة النقاش