الموقع التربوي للدكتور وجيه المرسي أبولبن

فكر تربوي متجدد

نشأة التدريس المصغر

ظهر التدريس المصغر في أوائل الستينات من القرن العشرين، عندما كانت تطبيقات الاتجاه السلوكي في علم النفس مسيطرة على مناهج التعليم. وقد بدا تطبيقه في العلوم التطبيقية في جامعة ستانفورد(Stanford University) بواسطة داويت(Dwight Allen) وزملائه عام 1961م.

وهكذا يمكن القول بان التدريس المصغر كان مطبقا منذ نشأته في الستينات من القرن العشرين وحتى اليوم، في برامج أعداد المعلمين في أنحاء مختلفة من العالم, في ذلك الوقت كان يعتمد على التدريس المصغر، وقد كان هذا الأسلوب في بداية ظهوره مقصورًا على تدريب الطلاب المعلمين قبل تخرجهم، ثم طبق- فيما بعد- في برامج تطوير مهارات المعلمين أثناء الخدمة، بعد أن تبين أن له فوائد عديدة في تدريب المعلمين على مهارات جديدة، وتطوير مهاراتهم التدريسية السابقة.

ثم طبق في جامعة بركلي في كاليفورنيا  University of California (Berkeley). وقد عرف هذا النمط من التدريس آنذاك بنموذج العلم التطبيقي The Applied Science Model، ثم طبق بعد ذلك على نطاق واسع في تدريب المهندسين والعاملين في المصانع وبرامج تدريب الجيش الأمريكي.

وقد شاع استخدام هذا النمط من التدريس في برامج التربية العملية للمعلمين في التعليم العام في الجامعات الأمريكية منذ ذلك التاريخ. ثم استخدم في بعض الجامعات الأوربية، وبخاصة البريطانية منها، في بداية السبعينيات الميلادية، حيث استحدثت أنماط وأساليب جديدة، بل إن الجامعات البريطانية أقرت التدريس المصغر واعتمدته جزءاً أساسياً في عمليات إعداد المعلمين. ثم انتقل هذا النمط من التدريس إلى العالم العربي في منتصف السبعينيات الميلادية، وطبق في كثير من جامعاته وكلياته، ونقلت بعض الكتب والدراسات الأجنبية إلى اللغة العربية، ثم ألفت كتب أخرى باللغة العربية نفسها، كما نشرت بعض البحوث والدراسات وعقدت ندوات في مجال تدريب المعلمين، تناول بعضها جوانب من التدريس المصغر.  

 لقد قام هذا النموذج من التدريس المصغر على أساس من المفهوم السلوكي للتعلم من خلال تعديل السلوك، كما هو عند رائد التعليم المبرمج ف سكنر B. F. Skinner، الذي يؤكد على أهمية التغذية الراجعة Feedback والتعزيز الفوري Immediate Reinforcement في تعديل السلوك. وبناء على ذلك؛ فإن المتدرب يحتفظ بالسلوك الصحيح، عندما يلقى تعزيزاً إيجابياً من أستاذه أو من الحضور، ويبتعد عن السلوك الخطأ بناء على التعزيز السلبي، ويحسن من أدائه تدريجياً حتى يصل إلى الأداء المطلوب. ولكي يضمن المتدرب الاستفادة من التغذية الراجعة والتعزيز لتحسين أدائه؛ ينبغي أن تكون المهمة أو المهارة التي يتدرب عليها قصيرة قدر الإمكان. من هنا جاءت فكرة تقسيم الدرس إلى أجزاء، ثم تقسيم كل جزء إلى مهارات أو مهمات قصيرة، يمكن التدرب عليها مرات عديدة حتى يتم إتقانها.

غير أن هذا النموذج العلمي التطبيقي لم يكن مقبولاً بدرجة كافية لدى المهتمين بتعليم اللغات الأجنبية؛ لأن تعليم اللغة وتعلمها عملية معقدة ومتداخلة، ينبغي أن ينظر إليها بوصفها وحدة متكاملة، لا ينفصل بعضها عن البعض الآخر. بل يرى بعض الباحثين أن هذا النموذج، كما هو لدى جامعة ستانفورد، لم يطبق في برامج تعليم اللغات الأجنبية على نطاق واسع.

ولعل السبب في هذا شعور اللغويين التطبيقيين بأن تعليم اللغة يختلف عن تعليم مهارة منفصلة من مهارات العلوم الطبيعية أو التصميم الهندسي أو التصنيع أو التشغيل، أو السلوك العسكري الموجه توجيهاً آلياً في كثير من الحالات.

وبناء علـى ذلك؛ طبق اللغويون التطبيقيــون نموذجاً آخـر عـرف بالنموذج الانعكـــاسي التأملـي The Reflective Model، يقوم على فكرة أن التدريس المصغر ينبغي النظر إليه بوصفه سلوكاً مهنياً معرفياً يعكس كفاية المعلم، لا سلوكاً آلياً ناتجاً عن المحاولة والخطأ وتعديل السلوك جزئياً نتيجة التغذية الراجعة والتعزيز. وقد استفاد أصحاب هذا النموذج من آراء عالم النفس الروسي فيجوتسكي Vygotsky ونظراته السلوكية الجديدة حول التدريس بوجه عام والتدريس المصغر بوجه خاص، تلك النظرات التي تربط التدريس بكل من البيئة الاجتماعية والثقافة والمعرفة. يرى فيجوتسكي أن التدريس المصغر انعكاس طبيعي للتفاعل بين العوامل التاريخية والثقافية والمعرفية لبيئة التعلم.

فالتدريس المصغر – في ضوء هذه النظرة - ليس سلوكاً آلياً ولا عملية إبداعية في جميع الأحوال والظروف، وإنما يعتمد على البيئة التي تلقى فيها المعلم ثقافته والأسلوب الذي نشأ عليه وتلقى فيه تدريبه.

 ومنذ نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن العشرين، بدأ التدريس المصغر يظهر من جديد، لكن بصورة غير الصورة السلوكية التقليدية التي كان عليها في الستينيات والسبعينيات. فقد بدأ اللغويون التطبيقيون يطبقونه من خلال الاتجاه المعرفيThe Cognitive Approach؛ انطلاقاً من المقولة التي ترى أن تغيير سلوك الفرد يتطلب التأثير على تفكيره واتجاهه نحو هذا السلوك أولاً، ثم توجيهه إلى السلوك المطلوب ثانياً. وبناء على ذلك؛ فإن التدريس المصغر يمكن أن يكون وسيلة لتغيير الاتجاه نحو أساليب التعلم والتعليم، وبالتالي بناء اتجاه معين نحو أساليب التدريس.  

 وأياً كان الأمر، فقد طبق التدريس المصغر، منذ نشأته في الستينيات من القرن العشرين حتى الآن، في برامج تعليم اللغات الأجنبية في أنحاء مختلفة من العالم، وبخاصة في أمريكا وبريطانيا، كما أنه لا يزال مطبقاً في اليابان بشكل واسع. بيد أن أوج انتشاره في الدول الغربية كان في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين؛ حيث أشارت إحدى الدراسات التي أجريت في نهاية الثمانينيات إلى أن ما يربو على ثمانين بالمائة من برامج تدريب معلمي اللغات الأجنبية في الغرب في ذلك الوقت كان يعتمد على التدريس المصغر. وكان التدريس المصغر في بداية الأمر مقصوراً على تدريب الطلاب المعلمين قبل تخرجهم، أي قبل العمل في التدريس Pre-service Training، ثم طبق في برامج تطوير مهارات المعلمين الذين هم على رأس العمل In-service Training، بعد أن تبين أن له فوائد في التدريب على مهارات جديدة، وتطوير المهارات السابقة.   

وقد انتُقِدت بعضُ برامج التدريس المصغر لاعتمادها على التدريب الآلي الذي يعد تطبيقاً للاتجاه السلوكي التقليدي في علم النفس عندما كان مهيمناً على برامج التعليم في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. ولا شك في أن التعليم بوجه عام، وتدريب المعلمين بوجه خاص، تدريباً آلياً وفقاً للنظرة السلوكية التقليدية فقط، منهج غير مقبول؛ لأن التعلم والتعليم سلوك وإبداع في آن واحد. ولعل ارتباط التدريس المصغر أثناء نشأته بالاتجاهات السلوكية التقليدية كان سبباً في النفور منه لدى بعض التربويين ومعلمي اللغات الأجنبية. وقد انتقد التدريس المصغر أيضاً لكونه عملية مصنوعة في كثير من الحالات، وبخاصة عندما يكون الحضور من زملاء المعلم المتدرب.

وعلى الرغم من ذلك، فإن النماذج المطورة التي تلت المراحل الأولى جيدة جداً وصالحة للتطبيق، وبخاصة في برامج تعليم اللغات الأجنبية، في ضوء الاتجاه المعرفي الذي ساهم أيضاً في التقليل من الخطوات والمراحل الآلية غير الضرورية، والمرتبطة بالنظرة السلوكية التقليدية نحو التعلم. ولا شك في أن معلمي اللغة العربية للناطقين بغيرها، في ضوء الظروف التي أشرنا إليها في موضع سابق، في حاجة إلى التدريس المصغر وتطوير نماذج منه تتفق مع الاتجاهات الحديثة في تعليم اللغات الأجنبية.  

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 2283 مشاهدة
نشرت فى 14 ديسمبر 2021 بواسطة maiwagieh

ساحة النقاش

الأستاذ الدكتور / وجيه المرسي أبولبن، أستاذ بجامعة الأزهر جمهورية مصر العربية. وجامعة طيبة بالمدينة المنورة

maiwagieh
الاسم: وجيه الـمـرسى إبراهيـــم أبولـبن البريد الالكتروني: [email protected] المؤهلات العلمية:  ليسانس آداب قسم اللغة العربية. كلية الآداب جامعة طنطا عام 1991م.  دبلوم خاص في التربية مناهج وطرق تدريس اللغة العربية والتربية الدينية الإسلامية. كلية التربية جامعة طنطا عام 1993م.  ماجستير في التربية مناهج وطرق تدريس اللغة العربية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,675,758