تعليم مجاني: البسطاء ورقصة الموت!
في خطوة وثابة يواصل ماهر مهران التجذر بتجربته الشعرية في رقعة المهمشين والبسطاء، يمتح من نبعهم، ويترجم لامالهم الزاوية، ويصرخ وزنا وايقاعا بعمق حناجرهم الصارخة في فضاء الفقروالفاقة، ولاجدال ان تجربته الجديدة التي عنونها ب (تعليم مجاني) هي خطوة متجددة في مشروعه الشعري وأرصدة ضافية يعمق بها هذا المشروع في تواشجاته مع المهمشين وتشابكاته المتعددة مع تيماتهم وقضاياهم.
وقع الديوان الجديد في نحو سبع وخمسين صفحة، وانتظم بين دفتيه نحو اربع عشرة قصيدة واصلت في تحليقها الشعري، برفيفه الممتد، والتغريد عن واقع الشق الطبقي الكالح الذي شطر المجتمع الي نخبة نهمة تهيمن علي كل شيء تقريبا، ورقعة جماهيرية غالبة حرمت من مساحة الضوء، وباشرت رقصة الموت مع أحلامها المجهضة!
وتألقت دلالات الديوان الجذرية في قصيدة الافتتاحLغربان طليقة) حيث تخلق المعني الشعري في جملته محوطا برفيف الرموز، وفي صدارتها رمز الغربان الذي جاء محيلا الي فكرة الظلم والفساد، يناظره في الرقعة المقابلة (ابراهيم) القابض علي فأسه أمارة علي الكفاح والعصامية ونظافة اليد :
( اتلم/ وبطّل نخورة وتقليب/ وسيب الغربان/ ترفرف في الخرايب/ حرّة طليقة/ دا ابراهيم/ عشان مسك فاسه/ وكسّر الاصنام/ وكشف لهم الحقيقة/ اتشال واتحط العتاوله/ وماهديوش/ غير لما رموه/ في قلب قلب الحريقة!!) ص 7
ويتعمق واقع الشق الطبقي في القصيدة التي تحمل عنوان الديوان (تعليم مجاني) حيث تتجسد بافتضاح فجيعة الانشطار الذي مزّق الاوطان الي طبقتين. وتتكثف في القصيدة ضفيرة من التقنيات الفنية التي تمتطي حالة شبيهة ب (المونولوج الداخلي) المطوّل :
(مش هايشغلوني في البورصة/ ولا هاكون/ مذيعة ربط...)
الي ان يقول في مناجاته الدامعة المسهبة :
(ما انا أصلي بيئة/ وتعليم مجاني/ وانا/ مش خريج مدارس لغات!!)
وثمة قصائد أفلتت في فضاء التجربة من حالة البساطة المحوكة شعرا أو ما أسماه (جوته) ب السهل الممتنع مثل قصيدة "ذلك" التي أنسنا فيها لونا من المعاظلة أو التعقيد التركيبي الذي نأي عن مساحة البساطة:
(ان كان ذلك كذلك/ يبقا كذالك في ذلك/ ماهو يا خلق ذلك/ هوّاللي وصّلنا لذلك)
مع تسليمنا بأن المعاظلة مقصودة والتعقيد متعمد لتدعيم قوائم الروح الساخر، وتتواصل الدلالة الاجتماعية الباذخة، بنصوع لافت في قصيدة "سكن للاغراب" وتتخذ ملمح صورة شعرية مفتاحية رائعة:
(مفيش رصيف/ تمشي عليه الملايكة/ مفيش حضن للفقرا/ ولا فيه سكن للاعراب) ص 14
ويتأكد في قصيدة "عبدالودود" الخيار الاستراتيجي الذي اثرته الذات الشاعرة أعني الخيار القريب مما يسمي الان في الاصطلاح النقدي ب قصيدة "الحالات اليومية" تلك القصيدة التي تغدو من أوجاع البسطاء، وتغترف من واقع الحياة اليومية ، بلحظيتها وعاديتها، حيث تتألق شخصية "عبد الودود" الذي أحس لذع الصقيع بعد أن ثقبوا أغطيته المتواضعة:
(عبدالودود/ لمّا صرخ م السقعة/ خرمواله اللحاف/ لمّا سند بضهره حيط البيت غّلوله قزازة الزيت) ص 17 ومع الضربات المتلاحقة انقاد عبدالودود لنوم عميق حيث رأي في غطيطه الفانتازي "قيراط أرض" في جملة ممتلكاته!
وبرغم أن قصيدة "ماهر مهران" حظيت بتكوين بنائي/ ايقاعي تخلّق عفوا بلا تعمّل فان هذا التعمل المتكلف أطل فيما أري في قصيدة "حرية" حيث اضطر الي خيار معجمي موحش غير مأنوس ممثلا في لفظة "مغلوق" بدل لفظة "مقفول" الاوفر ايناسا، وقد اضطره التيار الايقاعي الذي انتظمت به القافية الي هذه المفردة النافرة لتتناغم ايقاعيا مع مفردة "الحقوق" الماثلة في السطر الشعري اللاحق! فانقاد المعجم للايقاع بضروراته الغالبة، بدل ان يعانق الدلالة الشعرية بالروح العفوي الذي انسناه سابقا!
لقد مضت الذات الشاعرة تضرس بأسنانها فلسفتها الخاصة، وتلوك حكمتها الانسانية في "قصيدة كبرياء" حيث قنع الفقراء في تفسير رفاةالاثرياء الجدد وتسلطهم، بالذهاب الي ان أصل الجزيرة الكبيرة حصوة صغيرة، فما ينبغي للجزيرة أن تعامل الحصوة بعجرفة وتتطاوس عليها بدل وكبر، حيث ان الارومة واحدة والاصل مشترك!!
وصحيح ان الذات الشاعرة دعت الي اشعال النيران في شعب المسك كما أسمته في قصيدة "عود المسك" الا ان هذه الغضبة المضربة الناقمة لا يمكن تبريرها في سياقات التجربة الشعرية الا ب "فرط الحب"، الحب الذي يدفعنا أحيانا الي تعنيف من نحب بأقسي لغة يمكن استخدامها لنرده الي حال الصحو بديلا عن حال الغطيط أو الموت..
وتبقي التحية واجبة لماهر مهران الذي أضاف بديوانه الجديد (تعليم مجاني) خطوة جديرة بالاحتفاء في مشروعه الشعري الكبير، ذلك المشروع الذي يستدفيء دوما بأحلام البسطاء الطافرة ويستلهم نقاء حناجرهم وهو ينحت صوت قصيدته الفريد!!
المصدر: جريدة أخبار الأدب
نشرت فى 14 أغسطس 2012
بواسطة mahermohran
الشاعر : ماهر مهران
هنا صوتُ المهمشين والبسطاء والمقهورين ، وهنا شاعريةُ ُالدفاع عن حق الناس فى العيش بعدل وكرامة وحب وإنسانية ، هنا صوت لايشبه الآخرين من حيث التناول والمفردة وتركيبة الجمل الشاعرة ، هنا شاعرٌ اضطهده الجميع لحدة موقفه ، فهو مستقلٌ منذ بدأ الكتابة ، لم ترض عنه الحكومات ، ولم »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
26,210