(1)
مَا مِنْ شَكٍّ في أنّ أي تجربة/كتابة إبداعية ـ في ظل حياة كاتبها ـ تتخذ درْباً مِن ثلاثة:إمَّا أن تمضي في درْب (مَحَلَّكْ سِرْ) دون أن يرتفع مؤشرها أو ينخفض مُحافِظة على ما هي عليه ما كتبَ صاحبها..وهي بهذا تُفضِّل أنْ تبقى مُحَنَّطَةً على حالتها التي وُلدتْ عليها خوْفاً مِن أنْ تفْقد ـ عبْر التجريب والطموح إلى النَّصِّ الأفضل أو المجازفة اللا محسوبة ـ بعض عناصرها..وإما أنْ تسير في درب المُنْحنى/الرسم البياني التصاعدي/التنازلي الذي يعلو حيناً وينحدر إلى الأسفل أحايين أخرى..وإما أن تسير في درب (السُّلَّم) صاعدةً ـ في كل حالاتها ـ إلى الأعلى.والتجربة التي تختار هذا الدرب هي التي تُحقق بُغْيتها وتحفر على جدار الزمن الإبداعي مكانتها ومكانها اللذين يخصّانها.وتجربة الشاعر ماهر مهران ـ حسبما أرى ـ تتخذ الدرب الثالث مَسْلكاً لها..ويتأكد مِنْ هذا مَنْ يقرأ دواوينه التي صدرتْ قبل هذا الديوان وهي ـ حسب صدورها ـ :هفهفات النخيل ـ عزيزة ـ أغاني أشجار السنط ـ الخدامة ـ أوجاع متوحشة.
(2)
في ديوانه (تعليم مجاني) والصادر حديثاً عن دار (الناشر) للنشر والتوزيع يواصل ماهر مهران ـ بلا أدنى مجانية ـ غوْصَه في أعماق حياة الفقراء/الكادحين/المطحونين بين أسنان الرحى والذين كرَّس ـ منذ ديوانه الأول هفهفات النخيل ـ قلمه الشِّعري من أجل أن يساعدهم في الطفو على سطح المجتمع مُسلِّطاً الضوء عليهم ـ فلعلَّ وعسى أن ينتبه إليهم أحد ذات يوم ـ مُتخذاً من شخصه خادماً في محرابهم وجاعلاً قصيدته جاريةً تُمارس طقوسَ حياتها تحت أقدامهم.
ثم نأتي إلى (تعليم مجاني) والذي نلمح فيه جيداً ذلك النضج الذي كاد أن يصل إلى درجة الاكتمال على مستوى الأفكار وعلى مستوى الصياغة والتناول الشِّعرييْن لولا بعض الهنات/المآخذ القليلة التي كان يمكن مع قليل من الدأب تحاشيها.كما يؤكد ماهر مهران من خلال (تعليمه المجاني) هذا أنه مازال يحافظ على قاموسه الخاص به دون أن يلجأ إلى أن يستعير مفردات من قواميس أخرى..على الرغم من أننا أصبحنا في زمن (شِعري) تتشابه فيه القصائد بل والدواوين إلى حد التطابق..هذا رغم اختلافي معه في استخدامه لبعض المفردات التي لا يمكن فهمها واستيعابها بالنسبة لكثيرين دون وجود شرح لها في هوامش الصفحات.أما ما يخص تقنيات الكتابة فهو يمتطي ظهر القصيدة القصيرة والتي تلعب المفارقة فيها دور البطل..مُحافظاً على آلية الوزن والموسيقى مُهتماً بتقفية الأشطر الشِّعرية مُتخذاً إياها جِسْراً يصل بينه وبين المتلقي.
(3)
ورغم حالة الاستسلام البيِّن التي تُرَحِّبُ بالمتلقي في أولى قصائد الديوان (غربان طليقة):
إتلم
وبطل نخوره
وتقليب
وسيب الغربان
ترفرف في الخرايب حرة طليقة.
أو كما في قصيدة خيط العنكبوت:
ضعيف أنا زي العشش
والبيوت.
إلا أن ثمة تمرد ما يُسْقطه الشاعر على الواقع ويناهض ـ مع أبطاله ـ ما فيه من مُعوِّقات تحاول من ناحيتها أن تدوس بأقدامها على أكتاف بل روءس الكادحين وكأنهم لا مكان لهم فوق تراب هذه البسيطة أو ـ بمعنىً آخر ـ وكأنهم نَبْتٌ شيطاني أو قُلْ لقطاء:
وما له يا سيدي:
قطع أشجار البرتقان
.......
ازرع الخوف في قلب الكون
طيِّر القمري من على شجر اللمون
افتري واطغى واظلم
وسيبني أنا ع الرماد أرسم
وابقا شوف مين اللي ها ينتصر فينا.
كذلك نضع أيادينا على حالةٍ من (القرف) الذي تُعاني منه ذات الشاعر نتيجةً لما حَوْلها من مُعطيات حياتية ومجتمعية ولهذا فقد تعدد استخدام لفظة (قرف) في أكثر من موضع في الديوان :
ماشيين في رمله
والرمال متحركه
زي القرف
والجوع والفقر
والبهدله.
و:ناموسة دايرة ف برطمان
والبرطمان مغلوق
لو تحاول تطلع براسها لفوق
هاتكسر راسها الحقوق
لو تحاول ترفص برجليها
ها يعصرها قرف
في بطن البرطمان ملزوق.
أما في قصيدته عبد الودود فيُصوِّر حالة ذلك الفقير فقراً مُدقِعاً وبالرغم من ذلك فالآخرون لا يتركونه وشأنه بل يُزيدون فقره شدةً وبأساً مما يصنعونه حياله:
عبد الودود
لما صرخ م السقعة
خرموله اللحاف!!!
لما سند بـ ضهره حيط البيت
غلوله قزازة الزيت
لما ورمت رجيه
من الجري ورا كِسْرة
داينوه بالجزمة!!
إذن هل ثمة بؤس يحياه إنسان ما أكثر من هذا بؤساً؟!
إن هؤلاء الآخرين يعملون جاهدين على أن ينسحق عبد الودود أسفل أقدامهم ومعاولهم:
لما
حاول يبص لفوق
اتعصر.
وعبد الودود هنا ما هو إلا مثال صارخ لكثيرين يعيشون حياة لا تختلف مفرداتها عن حياته قط.كذلك تُجسِّد حالة الانسحاق ـ في أشد أشكالها ضراوةً ـ قصيدة أخرى عنونها الشاعر بـ (عود مسك):
الشعب ده
عود مسك
أصيل وتمنه فيه
وعشان تصدق إنه مسك
أرجوك
قوم إعمل زي اللي ما تتسمَّى
ويالله ولع فيه!!
وتُكمل قصيدة (تحت خط الفقر) هذه الحالة:
عايش بازحف
تحت خط الفقر
وماشي أتدحلب
عايش كما الطحلب
عيالي في قلبي
إخواتي في حجري...
وعلى الرغم من هذا إلا أنه لا يرضى للفقراء أن يطمعوا فيما لدى الأغنياء..إنه لا يدعو إلى حقد طبقي..هو فقط يأمل أن ينال الفقراء حقهم في الحياة ونصيبهم فيها كما أخذ سواهم حقوقهم دون أن يجور أحد على الآخر:
دنيا
ومبنية ع الأضداد
فـ ليه إخوانا الغلابه
عايزين يقلِّعوا الأغنيا الحرير
ويلبِّسوهم
زيهم كستور؟!
وتعبيراً عن حالة الخداع أو الانخداع التي ندور في فلكها دون أن يفكر أحد في الخروج منها يقول:
ياللي ماسك الورده
وبمناخيرك الخشب
نازل فيها حكحيك
مناخيرك ملاها الغبار
والورده طلعت بلاستيك!!
(4)
ثم يُخرج الشاعر نفسه من دائرة الهم المحلي المعاش الذي يخضع تحت نَيِّره الكثيرون من أبناء الوطن ليدخل إلى قلب دائرة الهم القومي والذي يتمثل في القضية الفلسطينية ويعبر عن ذلك في قصيدته (شهادة ميلاد) وبالرغم من أن أسطر هذه القصيدة لا تتعدى الاثنا عشرة شطراً إلا أنه يلخص فيها الأمر برمته:
مستوطنة ع تقول للمخيم
أخدت أرضك
وشردتك
وبنيت صروح
يفرش عليها الإله
وينام!!!
رد المخيم وقال
ما تفرحيش قوي
وحاولي تفتكري
إن اللي مالوش شهادة ميلاد
يبقا ابن حرام!!!
وهو هنا يشير إلى الكيان الصهيوني اللقيط الذي فرض وجوده ـ في ظل نوم أقوام شتى ـ فوق أرض لا هي كانت له ولن تكون.ويواصل مشيراً إلى ما أصاب مدينة غزة مؤخراً من دمار وقتل وتشريد لأهلها:
إيه اللي حصل يا أمه؟
ع يقولوا يا ولدي:دمروا غزة!!
وأنت قاعد لي هنا
إيدك على خدك
ومش داري بالحاصل.
يا لها من حالة انكسار وذل بل وعجز يحياها العالم العربي الذي لم يجد شيئاً يُقدمه لغزة في محنتها التي كانت إلا وضع يده على خده في تأكيدٍ للحالة المُهينة التي آل حاله إليها.وبصيغة أخرى تأتي قصيدته ورث التي استفاد الشاعر فيها من المقولة القديمة التي نصها:ما حكَّ جلدك إلا ظفرك..مُلقياً بها في ملعب أولئك الذين ينتظرون ممن هم سواهم أن يحلوا لهم مشكلاتهم أو يتوقعون من السماء أن تقف في صفهم دون سواهم بالرغم من أزياء الخمول القاتل التي يرتدونها مُكتفيين بالدعاء والتضرع رافعين أياديهم شطر السماء:
سبت لنا إيه يا أبا؟
قيراط
ودكر النخل
الدكر شفط السماد
والحديد والعباد
وخلى نهارنا كحل
رد أبويا وقالي:
الشيلة شيلتك وشيلها
أنا ما ليش دخل!!
وعلى الرغم من وضوح سطوة الهم المحلي والهم القومي على السواء إلا أن الشاعر لا ينسى أن يلفت الانتباه إلى الرجعية التي يحاول أهلوها أن يعيدونا إلى الوراء مُتذرعين بالدين رغم أنه يدعو إلى التحضر والحرية غير أن فهمهم الخاطئ لنصوص الدين جعل منهم جنوداً للاعتداء على الآخرين وسلب حرياتهم ومحاولة القضاء على كل ما هو ليس مُتوافقاً مع فكرهم الأرعن سواء في الشكل/الزي أو في المضمون/الاعتقاد:
إزاي قوة البني آدم
تبقا حروف
وإزاي هيبة الأمم
تكون في الزور
وفي الكلام
ها ترجعي تاني
تحشينا جوه الكهوف
.........
نحاول يا حبيبتي نتنور
فـ نلقاكي تاني
مربية دقنك
لابسة الجلابية البيضا
مطلطلة السبحة
وساحبانا لورا.
(5)
نهاية..أود الإشارة إلى مسألة الأخطاء الطباعية والتي تُؤثر سلْباً بالطبع على عملية التلقي والتي يمكن تلافيها بقليل من التركيز من قِبَل من يقوم بعملية التصحيح..لكن يبدو أنها مشكلة مزمنة..العجيب أن الخطأ الطباعي قد لَحِقَ باسم الشاعر نفسه في صفحة التعريف به في آخر صفحات الديوان فتحوَّل اسمه من (ماهر) إلى (ما هو)..ولا تعليق.
ــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: ــــــــــــــنقلاً عن جريدة أخبارالأدب المصرية *الكتاب:تعليم مجاني. *المؤلف:ماهر مهران. *الناشر:الناشر للنشر والتوزيع.
mahermohran

ماهر مهران

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 107 مشاهدة
نشرت فى 11 أغسطس 2012 بواسطة mahermohran

الشاعر : ماهر مهران

mahermohran
هنا صوتُ المهمشين والبسطاء والمقهورين ، وهنا شاعريةُ ُالدفاع عن حق الناس فى العيش بعدل وكرامة وحب وإنسانية ، هنا صوت لايشبه الآخرين من حيث التناول والمفردة وتركيبة الجمل الشاعرة ، هنا شاعرٌ اضطهده الجميع لحدة موقفه ، فهو مستقلٌ منذ بدأ الكتابة ، لم ترض عنه الحكومات ، ولم »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

26,205

نبذه صغيرة

شاعر من شعراء العامية المصرية التي يتميز بحسه المرهف وكلماته الجميلة التي تناقش واقعنا العربي والمصري والانساني  الذي نعيش فيه فهو كثيراً ما كتب وتطلع للتغيرات التي سوف تحدث وسوف يحدثها هذا الشعب المصري العظيم وبجانب شعره  بالعامية  المصرية كتب روايات تغوص في الواقع المصري وتكشف الغامض والمهمل والمهمش في صعيد مصر كما انه كتب العديد من المسلسلات الدرامية  .