د.كاميليا عبد الفتاح
عند ارتفاع درجة الحرارة في الظهيرة ؛ حيثُ تتوقف القدرة على أي شئٍ ، إلّا قدرتي أنا وصديقاتي على اللعبِ في صحنِ البيت الواسع - بجوارالسّلم المؤدّي إلى السطح - حيثُ أقسمَ أبي بأغلظ الأيمان أنه سيضربُني علقة ساخنة لو خرجتُ من البيت أثناء نومه ... لكن ماذا أفعل وعويلُ دفوفِ ( الزَّار ) في البيتِ المقابل يغويني ويناديني ...لقد لعبت لعبة ( السيجة ) و ( الحجلة ) وأنا شاردة مجذوبة كالدراويش حتى إنني أخطأتُ في لعبة ( حبة ملح عند الجارة ) وخرجتُ من الدائرة التي شكّلتها صديقاتي بأيديهن المتشابكة ...ماذا أفعل وأبي يستغفر ُ الله حين يسمعُ دفوف الزار صائحا في غضب : جهل وشعوذة ؟ مالي وأبي ..مالي وهذه الكلمات التي لا أفهمها ؟! شئٌ آخر يناديني من قلب هذا ( الزّار ) شئ لن يفهمه أبي لأنّي أنا أيضا لا أفهمه ولكن أشعر به ...! أسرعتُ إلى غرفة نومهما وهمستُ في أذن أمّي التي فتحتْ عينيها في ذعر على فحيح صوتي : أنا رايحة أشوف عفريت الزار ... والنّبي ماتقولي لبابا ... ، ثم أسرعتُ قبل أن تلحق بي ...
دخلتُ مسرعةً حين وجدتُ الباب مفتوحا ، ووجدتُ رجلا يجلس على العتبة الداخلية شبيهًا بالعفريت الذي تخيّلتُ أنه يصدرُ الصفير من فم تمثالي ممنون - في البر الغربي - كان نوبيًّا عملاقا سمين الوجه له لثةٌ حمراء بارزة وعينان جاحظتان . ويبدو أنه ظنّ أنني ابنةُ إحدى النساء اللّائي في الزّار ؛ فتركني أدخلُ ، إلى حيثُ رأيتُ دائرة من النساء تتقدّمهنّ ( الشيخة الكُدية ) - كما كانت تلقّب - ومعها بناتُها يحملن كثيرا من المباخر التي يتصاعدُ منها ما لم - ولن - أشمّ مثيله في حياتي ... بخورٌ لا يشبه بخور " تيتة أم سليم " - النوبية - التي كانت تُبخّر به ( الزِّير ) و( القلل ) الفخارية الحمراء - قبل ملئها بالماء المخلوط بماء الورد -.بخور " تيتة أم سليم " كان يضحك حين يشتعل ، أمّا بخور ( الزار ) فهو بخور يبكي بحُرقة ، ويعترفُ ويبوح ويتذكّر شيئًا ترك في قلبي جرحا قاسيا ، وجعلني - كلما تذكرته - أطوف بشيوخ العطارة أتشمم أحقاق المسك والعنبر والعود ، حتى إذا سألني العطار عن مطلبي قلت : إذا رأيتني أبكي فاعلمْ أنني وجدتُه ...
أمَّا مشهدُ النساء العالقات في جلباب الكُدية فهو إلهامي الذي لا ينفد : عيونهن تحدّقُ في السقف تبتهلُ لأفقٍ لا أراه ... عيونهن عيونُ ماءٍ سخيةٌ بالحزن ... يتمايلن على إيقاع الدفوف -الفصيحة الشكوى - يتمايلن بشعور مُدلّاةٍ مُشعثة ... يبكين ويتطوحن متأوّهاتٍ
من غناء الكُدية المهيب الذي أوقف شعر رأسي رغم لهجتها النوبية التي لم أتبين منها إلَّا جملة واحدة هي قولها : " يا غااالي يا ... آاااه ياغااايب يا ..." ، كان شدو هذه الجملةيعقبُه اندفاع كثيرٍ من النسوة إلى خمش أوجههنّ وخبط صدورهنّ وتمزيق شعورهنّ ....النساء يتساندن على الكُدية ) التي تتساندُ بدورها على دُفّها وبخورها ... عويلُ النساء قبض قلبي وملأ عيني دموعًا ؛ فتساءلتُ في نفسي - وأنا ابنةُ ستّ سنواتٍ آنئذٍ - كيف استطاعَ غائبٌ واحد أن يُبكي كل هؤلاء النسوة ؟ كيف استطاع غائبٌ واحدٌ أن يجعل عيونهنّ الواسعةَ الحانية تفيضُ بكل هذا الحزن ...هذا البكاء ..هذا الابتهال ...؟ ثم لاماذا لا يأتي هذا الغائب مادام غاليا ؟ ولماذا يظل غاليا مادام غائبًا لا يسمع ... لايرقّ ... لا يستجيب ؟ !!!
تسارعَ إيقاعُ الدفوف والكُدية تنوحُ : ياغااالي يا ... يا اااغايب يا ..." بينما النساءُ يتساقطن على الأرض ، والبخور العجيبُ يتصاعدُ ويطقطقُ وكأنّ ماردا سيخرجُ منه .... لم أشعر بنفسي إلَّا وأنا ألهثُ في صحن البيت حيثُ أمي تروحُ وتجئ تطقطقُ أصابعها في قلق خوفًا من أن يصحو أبي ويكتشف خروجي من البيت .. وما إن رأتني حتى أمسكتني من كتفي بقسوة شديدة ...وحين رأتني أرتعدُ باكية خبطت على صدرها وسألت بهلع : يا مصيبتي ! مين عمل فيكي كده ؟ أشرتُ إلى حيثُ الزّار ؛ فجثت عند قدمي تتوسّل : عشان خاطر ماما احكيلي إيه اللي حصل هناك ؟ قلت وأنا اشهق باكيةً :
كانوا بيعيّطوا ياماما وبيصرخوا ياغاالي يا ... ياااغاااايب يا ...
احتضنتي أمي ودخلت في نوبة بكاء حادّة ....وللآن لا أعلم : هل كان بكاؤها فرحةً لعدم تعرّضي لما تصوّرته بخيالها ؟ أم بكت لتذكّرها أنها يتيمة الأم - وكان هذا الأمر يُبكيها خاصة حين يُغضبها أبي - هل ذكَّرتها مفردة الغياب بأخي أنور الذي مات وهو ( بدر منوّر ) بعد أن بلغ عامًا وقال " ماما " وضحك ؟ هل بكت حزنًا على أخيها " كمال " الذي فاق أباها حنانا ، وربّاها في بيته مع أبنائه في القاهرة ، ثم فارقته بزواجها من أبي ... ؟! أم أن مفردةُ الغياب مفتتحُ وجعِ النّساء اللَّائي لا يملكن في هذه الحياة سوى عيونهنّ الواسعة السخية بالحزن والماء ... الماء الذي روّى أشجار الأرض ... الأرض التي خانتْ ذاكرتُها عيونَ النساء ...النّساء اللّائي لا يفترن من الغناء المُفجّع : يا غاااالي يا ... ياغاااايب يا ....
* من فصول سيرتي الذاتية ..
ساحة النقاش