تتجسد عبقرية بيتر دي هوك في قدرته التي لا مثيل لها على رسم المناظر الداخلية المضاءة بضوء طبيعي من الخارج. وهناك نقاد كثيرون يرون أنه كان أقدر من زميله الهولندي أيضا فيرمير في هذا المجال. وإن بدا مزاج دي هوك اللوني قربيا جدا من مزاج رامبرانت. يرى النقاد أن اعتماد هذه التشكيلة اللونية بالنسبة إلى ضوء خارجي أصعب مما هو عليه الحال في الإنارة الداخلية التي اعتمدها رامبرانت بشكل عام.
ولد بيتر دي هوك في أمستردام سنة 1629م، وكان في الخامسة والعشرين من عمره عندما انتقل إلى دلفت حيث تعرَّف على اثنين من أساتذة فن الرسم في المدينة، هما نيكولاس مايس وفابريسيوس. وبعد أن اكتسب منهما بعض المهارات، انطلق في رسم لوحات تمثل مشاهد من الحياة اليومية للطبقة الوسطى، ومنها هذه اللوحة التي تعود إلى العام 1658م تقربيا.
في هذه اللوحة, ينجذب نظرنا فورا إلى المرأة التي تقف في الفناء الداخلي للمنزل، بسبب وجودها وسط بقعة من الضوء القوي. ومن ثم إلى امرأة في الداخل تنقي بعض الحبوب، وبجوارها تقف ابنتها الصغيرة. ومسار النظر هذا فوق قطر المستطيل، هو ما صنف أعمال هذا الفنان ضمن المدرسة الباروكية. ولكننا هنا أمام باروك صارم بعيد كل البعد عن «الدلع» وإغراق اللوحة بالخطوط المنحية التي ستغرق بدورها هذه المدرسة في العقود اللاحقة إلى مهاوي «الروكوكو».
فهذه اللوحة تكاد أن تكون احتفالا بالأشكال الهندسية الصارمة: خطوط مستقيمة أينما كان، وعدد هائل من المستطيلات والمثلثات المتقاطعة، ولكل منها ضوؤه الخاص بدقة فوتوغرافية.
وبخلاف الضوء القوي الذي كان عزيزا على الرسام فيرمير، نجد الضوء في هذه اللوحة واقعيا، كما هو حاله تماما في البلدان الشمالية. إنه ضوء شمس شاحبة حتى وقت الظهر. وما يتسلل منه إلى الداخل، بالكاد يكفي لتمييز الأشياء وخطوطها وسط الظلام.
ولو شاهد أحدهم هذه اللوحة عند بداية تخطيطها أو حتى قبيل إنجازها بساعات قليلة، لقال إنها غير متوازنة على الإطلاق بسبب حصر الضوء والتفاصيل في ثلثها الأيسر. ولكن إضافة تلك النقاط الصغيرة على الأم وابنتها في الداخل، وبشكل خاص على ياقات الملابس وأغطية الرأس، أعادت للوحة توازنها الكامل غير المنقوص.
في العام 1667م، عاد بيتر دي هوك إلى أمستردام حيث بقي، حتى وفاته سنة 1684م في مصحة للأمراض العقلية. وقد رسم في هذه السنوات صورا شخصية لأناس من الطبقات العليا. ولكن هذه اللوحات لم تصل أبدا إلى مستوى المشاهد الداخلية للبيوت التي رسمها في ديلفت، والتي تبقى ليس فقط أفضل أعماله على الإطلاق، بل أيضا من أفضل ما رسم في هذا المجال في هولندا طول القرن السابع عشر.
المصدر: عبود عطية، مجلة العربي، من مقال نشر بالمجلة بعنوان "بيتر دي هوك .. فناء بيت هولندي"
نشرت فى 30 مايو 2011
بواسطة khatwloun
عدد زيارات الموقع
58,301
ساحة النقاش