قبيل ظهور (الانطباعية) في العقد الثامن من القرن التاسع عشر, كان لمعظم أساتذة هذه المدرسة إنجازات فنية جسّدت عبقرياتهم وقدراتهم على التعبير وفق الأصول الكلاسيكية, وصولاً إلى استيحاء أساتذة عصر النهضة. ومن بين هؤلاء نتوقف هنا أمام إدجار ديجاس (1834 - 1917م.
تعود هذه اللوحة إلى الفترة التي أعقبت دراسة ديجا لفن الرسم في باريس ورحلته إلى إيطاليا, التي استمرت ثلاث سنوات بدءًا من العام 1856م, وهي تمثل )عائلة بيلليلي), المؤلفة من عمة الرسام لورا وزوجها البارون الإيطالي وابنتيهما.
كان ديجاس قد أنجز بعض الرسوم التحضيرية لأقربائه هؤلاء عندما كان في إيطاليا, وبعيد عودته إلى باريس, راح يجمع هذه الرسوم في لوحة واحدة, أنجزها في العام 1862م. وللوهلة الأولى قد تبدو هذه اللوحة مجرد صورة شخصية لعائلة من البرجوازية العليا, تدل على ذلك المفروشات والملابس وموجودات الغرفة, ولكن يمكن للمشاهد أن يكتشف بسرعة ما هو أعمق من ذلك بكثير.
فاللوحة كبيرة بشكل غير مألوف بالنسبة للصور العائلية (202 × 253 سم), تبدو المرأة فيها واقفة بجمود بعيدًا عن زوجها الجالس إلى أقصى اليمين. وفيما نرى الزوج يتطلع صوب زوجته وبناته نرى نظرات الزوجة ساهية عنه, تعبيرًا عن العلاقات العائلية المضطربة في ذلك البيت. فقد كتبت لورا إلى إدجار بعد عودته إلى باريس تقول له: (لابد من أن تكون سعيدًا بعودتك إلى باريس, وابتعادك عن وجهي الحزين ووجه زوجي الكريه(
وفي اللوحة خطاب أعمق من ذلك. فالسيدة هنا ترتدي ثوبًا أسود حدادًا على أبيها (جدّ الرسّام) الذي توفي قبل فترة قصيرة. ونرى على الحائط صورة الجد المتوفى كما رسمه ديجا نفسه.
أما لورا التي تضع يدها على كتف ابنتها (حماية لها), فهي حامل, أي أن اللوحة تتضمن خطابًا واضحًا حول استمرار الحياة من الجد الراحل إلى المرأة الحية وصولاً إلى المولود المنتظر.
أما من الناحية الشكلية, فيبدو جليًا في هذه اللوحة إعجاب ديجا بالأساتذة الفلامنكيين من عصر النهضة. فالمرأة في هذه اللوحة تشبه إلى حد كبير تلك التي رسمها جان فان إيك في (زواج آل أرنولفيني), والإضاءة الداخلية الشاحبة حيث النور يدخل من نافذة, هي من سمات المدرسة الفلامنكية أيضًا.
وإضافة إلى الغنى اللوني الظاهر في هذه اللوحة وجمال البياض في ملابس الفتاتين وتناقضه مع المحيط الداكن, هناك تأثر واضح بأعمال أستاذ الكلاسيكية الفرنسي جان أوجست دومينيك إنجر, لجهة العناية بالتفاصيل الدقيقة وإتقان التعبير عن نوعيات المواد والأقمشة. والواقع أن ديجا درس لفترة عند فنان يدعى لويس لاموت, كان بدوره تلميذًا عند إنجر, كما تعرف ديجا نفسه على إنجر شخصيًا في وقت لاحق, وبقي متأثرًا به لأكثر من عقدين من الزمن.
وتشبه هذه اللوحة إلى حد كبير (صورة عائلة جاتو) التي رسمها إنجر, ولكنها تختلف عنها في جانب أساسي, إذ إن الشخصيات هنا تتجاهل الرسام وحضوره باستثناء الابنة الكبرى التي تتطلع إليه. فالرسام يبدو وكأنه يتطلع إلى هذه العائلة من خلف باب نصف مغلق, ليرى حالها على حقيقته, فلم ينتبه إلى وجوده أحد.
المصدر: عبود عطية/ مجلة العربي
نشرت فى 28 يوليو 2011
بواسطة khatwloun
عدد زيارات الموقع
58,256
ساحة النقاش