ما بين عصر النهضة الأوربية ومنتصف القرن التاسع عشر، كان من الشائع أن يرسم كبار الفنانين أكثر من نسخة للوحة لقيت نجاحًا وتقديرًا يستدعي ذلك. وكثيرًا ما تثار شكوك حول أصليّة النسخ الأخرى إذا ما كانت بريشة الفنان نفسه أو أحد تلامذته، الأمر الذي يفقدها بعض أهميَّتها كمادة للدراسة ومراقبة «التحسين» كما فهمه هذا الفنان.
من اللوحات المنسوخة التي لا غبار على أنها كلها بريشة الأستاذ نفسه، نختار هنا نسختين من قارئة الأخبار الجميلة للفنان الإيطالي مايكل أنجلو ميريزي المعروف باسم كارافاجيو (1531-1610م). أدخل كارافاجيو على فن الرسم تطويرين أساسيَّين، كان يكفيه واحد منهما ليدخل التاريخ بصفته أحد عباقرة هذا الفن. فهو أولاً مؤسس المذهب الباروكي في الرسم القائم على حركة وخطوط تتميز بانحناءاتها والانحناءات المضادة وفق تركيب يتجمعَّ حول ضلع المستطيل، معتمداً في ذلك على لعبة الضوء والظل. فسبق بذلك الفلامنكي بيتر بول روبنز والفرنسي جورج دي لا تور. أما التطوير الثاني البارز، فهو اقترابه المثير للدهشة في ذلك العصر، من الواقع والحياة اليوميَّة التي استمد منها نماذج شخصيّات لوحاته حتى الدينيَّة منها.
يروي المؤرِّخ جيليو مانسيني أنه «عندما كانت توضع التماثيل الإغريقيَّة التي نحتها فيدياس وغليكون أمام كارافاجيو لدراستها، لم يكن يرد على ذلك إلا بإشارة من يده إلى الناس من حوله، ليقول إنَّ الطبيعة أعطته ما يكفي من النماذج لدراستها. ولتعزيز صوابيّة رأيه، استدعى غجريَّة من الشارع وقادها إلى إحدى الحانات ليرسمها في (قارئة الأخبار الجميلة)».
«قارئة الأخبار الجميلة» هي الترجمة شبه الحرفيَّة لاسم اللوحة، والمقصود بها بكل بساطة البصَّارة أو قارئة الكف. وكانت قراءة الكف من الخزعبلات الرائجة آنذاك في شوارع إيطاليا، يلجأ إليها الغجر للحصول على بعض المال، أو حتى لسرقة ضحاياهم السذَّج. أنجز كارافاجيو لوحته هذه سنة 1595م. وسنسمِّيها اصطلاحاً هنّا النسخة الأولى، وهي اللوحة المحفوظة اليوم في متحف الكابيتولين في روما.
نرى في هذه اللوحة غجريَّة تمسك بيد شاب نبيل تستطلع خطوط كفِّه. أمّا الشاب الذي أسند كفه الأخرى إلى مقبض سيفه، فيتطلَّع إلى وجه الغجريَّة مصغياً إلى ما تقوله له حول مستقبله، بينما تراقب هي قسمات وجهه وتداعب بأصابعها الخاتم الذي في يده استعدادًا لسرقته.
وما بين الموضوع الجديد المستمد من حياة الشارع، وجمال الأسلوب والألوان، لقيت هذه اللوحة تقديرًا كبيرًا جعلها تستقرُّ لاحقاً في حوزة الكاردينال ديل مونتي، الذي كان حاميًا ومضيفًا لكارفاجيو بعض الوقت.
وبسبب النجاح والتقدير اللذين لقيته هذه اللوحة، انصرف الفنان إلى نسخها (على الأرجح خلال إقامته عند الكاردينال ديل مونتي)، فظهرت نسخة أخرى نسمِّيها اصطلاحًا هنّا النسخة الثانية، وهي محفوظة اليوم في متحف اللوفر في باريس. إذ بعدما اشترت عائلة أليساندرو فيتريشي هذه النسخة الثانية، عادت وباعتها إلى أمراء عائلة دوريا بامفيلي الذين أهدوها إلى ملك فرنسا لويس الرابع سنة 1655م، حيث استقرَّت في المجموعة الوطنيَّة الفرنسيَّة. ويمكن للقارئ أن يجول بنظره على هاتين اللوحتين ويقارن بينهما ، ليندمج بخياله مع ذوق الفنان وما يراه هذا الفنَّان «تحسينًا، من دون أن يعني ذلك بالضرورة أن إحداهما أفضل من الأخرى.
فنسخة متحف اللوفر أصغر بشكل ملحوظ من نسخة الكابيتولين. وحتى وجه الشاب فيها يبدو أصغر سنًا بنحو سنتين من اللوحة الأولى. ومن المرجَّح أن ذلك جاء تعزيزاً للسذاجة التي يجب أن تميز ضحيّة الغجريَّة اللصَّة المخادعة. والابتسامة على وجه الغجريَّة أصبحت في النسخة الثانية مائلة أكثر إلى الترقُّب والحذر والتأمل بعمق استعداداً لسرقة الخاتم.
إلى ذلك يمكننا أن نلاحظ بعض المتغيِّرات الجماليَّة مثل اختفاء الساتان الذي يبطِّن سترة الشاب، لتحلَّ محلَّه مساحة ً سوداء تعزِّز لعبة الضوء والظلّ. الأمر نفسه ينطبق على الريشة البيضاء في القبَّعة التي انتصبت لتزيد من حدة هذه اللعبة اللونيَّة. فضلاً عن لعبة الضوء وعلى الجدارالذي اتخذ شكل خطوطٍ متوازيةٍ مع الخط الأحمر في ثوب الغجريَّة ومع قطر المستطيل، تعزيزًا للباروك الذي بدأ يتبلور أكثر فأكثر في مزاج هذا الفنَّان وفي لوحاته. باختصار، إنها لعبة جميلة أن يقارن المشاهد كل تفصيلٍ في اللوحة الأولى، ويرى كيف تغيَّر في اللوحة الثانية، ويحاول أن يتكهَّن بما خطر على بال الفنان عندما قرَّر هذا التغيير.عندما اشترى أليساندرو فيتريشي النسخة الثانية، فسَّر تعلقه بها بالقول إنها أوضح مثال لمبدأ «الوفاء للحقيقة» الذي كان يبشِّر به كارافاجيو.
وكون هذه الحقيقة مستمدَّة من حياة الناس في الشوارع وليس من عالم الأساطير والآداب تفسِّره سيرة كارفاجيو الشخصيَّة المحزنة.
فباستثناء إقامته فترة محدودة في حماية الكاردينال ديل مونتي أمضى هذا الفنَّان شطرًا كبيرًا من حياته فارّا من وجه العدالة، ومصاحبًا حثالة القوم. إذ اتُّهم بالتسبب بشجارات عدة، ومن ثمَّ بالقتل. فهرب من روما إلى نابولي سنة 1606م، ومن نابولي في العام التالي إلى مالطا، حيث انضمَّ إلى منظمة فرسان مالطا، ولكنه تشاجر وجرح أحد فرسان المنظَّمة فسجن ثم طرد. فعاد إلى نابولي حيث خاض مبارزة وحشيَّة اعتقد الناس بعدها أنه ميت. ولكنه نجا وسافر إلى بورت داركول، حيث أخطأت شرطة المرفأ واعتقدته مجرمًا آخر، فاعتقلته وسجنته. وعندما أطلقت سراحه بعد بضعة أيَّام، كانت السفينة التي أقلَّته قد غادرت المرفأ، فاعتقد أنها أخذت معها أمتعته، وأصابته موجة غضب عارمة أعقبتها حمَّى الملاريا، فمات بعد بضعة أيَّام على رصيف المرفأ. وبعد وفاته تبيَّن أن أمتعة الرجل كانت محفوظة في مبنى الجمارك.
المصدر: عبود عطية، مجلة العربي، من مقال نشر بالمجلة بعنوان " كارافاجيو، قارئة الأخبار الجميلة"
نشرت فى 30 مايو 2011
بواسطة khatwloun
عدد زيارات الموقع
58,254
ساحة النقاش