من غرائب تاريخ الفن أنه يرفع بعض أعلامه إلى مستويات عليا من الشهرة، في وقت من الأوقات، ليعود ويتناساهم لاحقاً، كما هو الحال مع الرسامة الإيطالية روزالبا كارييرا (1675-1757م)، التي لم يبق من شهرتها اليوم أكثر من جزء ضئيل من تلك التي تمتعت بها في عصرها، حين كانت أشهر رسامة في إيطاليا وفرنسا، حتى لقبت بـ«ملكة البندقية».
في البندقية، تهافت الأرستقراطيون والتجار على بيتها لترسم صورهم الشخصية، التي مكنتها من أن تكون، وهي في الثلاثين من عمرها، المرأة الأولى التي تدخل «أكاديمية سان لوقا» في روما. ولاحقاً أصبحت عضوة في أكاديمية بولوينا، وفي الأكاديمية الفرنسية من العام 1722م، تاريخ استقرارها في باريس.
طوَّرت روزالبا تقنية الرسم بالباستيل (الطبشور الملون) على الورق الملون، في زمن كانت هذه التقنية تحظى خلاله بتقدير كبير، ولم يكن ينظر إليها على أنها «ترف سطحي» كما هو حاصل اليوم. فكانت هذه الفنانة تضع اللون على الورق ومن ثم تمسحه بإبهامها لتترك منه الكثير في بعض المواضع، وأقل منه في مواضع أخرى، حيث يتسلل لون الورق من خلاله ليضفي على اللوحة ككل وحدة لونية وتجانساً أكبر مما تسمح به تقنية الزيت، فتبدو اللوحة وكأنها مرسومة بالغبار الملون، ووليدة حساسية فائقة تجاه أبسط التبدلات في الظلال والألوان والخطوط.
في العام 1715م، طلبت أسرة ميديتشي من الرسامة صورتها الشخصية لتعرضها إلى جانب صور كبار الأساتذة الإيطاليين. فكان أن رسمت صورتها التي نراها هنا، وهي تمسك بصورة شقيقتها جيوفانا.
تقنياً يمكننا أن نلحظ فوراً في هذه اللوحة واحدة من قمم التفوق في استخدام الباستيل، خاصة في القدرة عن التعبير عن ملمس الأقمشة المختلفة: الدانتيل الأبيض والساتان الأصفر والمخمل الأزرق.. وأيضاً التناغم الكبير والهادئ مابين الألوان الكثيرة جداً والتي يحتاج تعدادها إلى تدقيق، لأن التجانس المكتسب من الورق الأخضر يوحي بأنها رُسمت بثلاثة ألوان أو أربعة فقط.
ولكن في الصور الشخصية (وخاصة الذاتية) فإن المطلوب من الرسام هو تجاوز عرض المهارات التقنية ليقول لنا شيئاً عن نفسه وشخصية.
يقول معاصرو روزالبا إنها كانت سيدة جدية ومحافظة جداً وذات طباع مستقرة. وفي هذه اللوحة، نراها تتطلع بنظرات جدية إلى المشاهد، وعلى شفتيها طيف ابتسامة خفيفة جداً، تماماً كالابتسامة الهادئة على وجه شقيقتها في اللوحة الصغيرة داخل اللوحة.
لا توجد عناصر تزيينية ولا ديكور في الخلفية المقتصرة على اللون الأخضر الزيتي، وفي هذا ابتعاد عن التصوير المسرحي الذي كان رائجاً آنذاك، الحركة المسرحية الوحيدة هي في إمساك الرسامة بريشة الرسم أمام صورة شقيقتها، التي كانت تدير لها شئون منزلها لتتفرغ هي للعمل والرسم. وفي هذا اعتراف بفضل هذه الشقيقة على مسيرتها الفنية التي ما كانت لتكون كما هي لولاها. وبالتالي، فإن فرادة هذه اللوحة وتميزها عما كان مألوفاً آنذاك، هو في تحررها من القوالب الجاهزة والمتعارف عليها، ومن التمثيل المسرحي الرائج، لمصلحة حيز أكبر من الصدق ورقة التعبير عما هو ذاتي وحميم.

المصدر: عبود عطية/ مجلة العربي، من مقال نشر بالجريدة بعنوان" روزالبا كارييرا.. صورة ذاتية مع صورة شقيقتها"
  • Currently 21/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
7 تصويتات / 462 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

58,567