عسكرى الدرك

محمد الشوادفي

بعبارته الشهيرة "ها مين هناك" ارتبط عسكري الدرك بذاكرة المصريين، ورغم اختفائه عن الساحة المصرية منذ قيام ثورة 23 يوليو، إلا أن السينما المصرية لعبت دورًا كبيرة في الحفاظ على شخصية عسكري الدرك بسبب تعدد تجسيدها، حتى كاد لا يخلو فيلم سينمائي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي من شخصية عسكري الدرك.


ومع أن شخصية عسكري الدرك كانت تظهر بشكل ملحوظ في أفلام الكوميديا، خصوصا أفلام مخرج الكوميديا الراحل فطين عبد الوهاب، والممثل الراحل إسماعيل يس، ورفيقه في معظم أعماله رياض القصبجي، لتضفي البهجة على المشاهد المصري والعربي، إلا أنها كانت تجسيدًا واقعيًا لظاهرة "العسكري"، الذي يجوب شوارع القاهرة على دراجة أو مترجلًا، حاملًا عصاه وصفارته لحفظ الأمن والممتلكات ومنع السرقات، ومطاردة اللصوص والمجرمين، وتبعث الطمأنينة داخل المواطنين أن هناك من يحميهم ويسهر على حفظ أمنهم.


وعقب اندلاع ثورة 25 يناير وما أعقبها من هروب عدد كبير من المجرمين واللصوص وتجار المخدرات من السجون، وانكسار الشرطة وتراخيها في كثير من الأحيان عن أداء الدور المنوط بها في حفظ الأمن، وشيوع السرقات، خاصة سرقة البنوك وشراكات الصرافة، ومحال الذهب، والسيارات والسطو المسلح جهارًا نهارًا، وجرائم الاغتصاب، والتحرش والاختطاف، في ظاهرة لم تعهدها مصر من قبل، خرجت الدعوات لتطالب بعودة عسكري الدرك مرة أخرى إلى الشوارع لمواجهة الانفلات الأمني والحد من السرقات.



واليوم جاء إعلان وزير الداخلية اللواء أحمد جمال الدين رسميًا عن عودة عسكري الدرك، تجسيدًا لمطالب الشارع المصري، وخبراء الأمن، ولكن بشكل متطور يتواكب مع متطلبات العصر الحديث على هيئة نقاط شرطة صغيرة موزعة فى نطاق المربعات السكنية، يتم تجهيزها بأحدث أجهزة الاتصالات والانتقال، وبما يحقق الانتقال السريع إلى مكان الوقائع والبلاغات.


وعكس ماهو شائع من أن أصل كلمة درك يعود إلى اللغة التركية، وأنها انتشرت في الوطن العربي إبان حكم العثمانيين، إلا أن كلمة "درك" عربية الأصل، وتعنى قوات الشرطة، ووفقًا للمعجم الوسيط معنى كلمة "الدرك"هو "اللحاق"، وقد وردت في معجم لسان العرب بالقول "أدرك الشيء أي بلغه"، أما معجم (المنجد) فقد أعطى تعريفًا للكلمة يتفق مع ما يألفه الناس، وفسّر طبيعة عملها، حيث وردت كلمة الدرك بأنها "قوة عسكرية يعهد إليها بحفظ الأمن والنظام"، وفي معجم الصحاح في اللغة يقال: "تدارك القوم أي تلاحقوا ولحق آخرهم بأوله".


ويعود ارتباط الكلمة بالعثمانيين نظرًا لأنهم أدخلوا قوة الدرك لحفظ الأمن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومن وقتها ارتبط اسم عسكري الدرك بتعريف رجل الشرطة في كثير من الأقطار العربية، حتى بعد انتهاء الخلافة العثمانية واستقلال الدول العربية عن المستعمر الأجنبي، كما هو شائع فى الأردن والجزائر، والمغرب وتونس.


ويجمع المؤرخون على أن أول من أرسى قواعد عمل قوات الدرك كهيئة عسكرية مكلفة بحفظ الأمن بين السكان المدنيين إلى فرنسا عندما أنشأت قوات مماثلة تحت مسمى"جندرمة" في القرن الثاني عشر الميلادي، وقد انتقل هذه التنظيم إلى العديد من الدول الأخرى التي كانت لها صلة بفرنسا، أو البلدان التي كانت في وقت من الأوقات تخضع لسيطرتها مباشرة مثل المستعمرات، والأقطار الواقعة تحت الانتداب الفرنسي آنذاك.


محمد الجوادي المؤرخ والمفكر السياسي قال لـ"بوابة الأهرام" إن قوات الدرك في مصر كانت أحد أنواع كثيرة من القوى البشرية العاملة في الشرطة وكانت مؤهلة لوظائف محددة تنتهى عندها ولاتتخطاها، ولاتوجد بها درجات "ترقيات" بمعنى أن عسكري الدرك يؤدى وظيفة محددة له مدى العمر، ويستمر في رتبته حتى انتهاء خدمته، مؤكدًا أن هذا النظام أخذته مصر عن النظام الإنجليزي، مثلها في ذلك مثل وظيفة "كونستابل" المرور وخفير النظام، ومعاون الإدارة الذى كان يعمل على حل القضايا بين المتخاصمين في أقسام الشرطة قبل وصولها للمحاكم وكان من خريجي كلية الحقوق.



وأوضح الجوادي أن ثورة يوليو بفكرها الشمولى عندما جاءت قامت بإلغاء وظيفة عسكري الدرك وكونستابل المرور والخفير النظامي- وهو يختلف عن مهنة الخفير الحالي المعمول بها فى الأرياف- وقصرت الأمر على وظيفتين فقط إما عسكري وإما ضابط شرطة، وظل الوضع هكذا حتى أواخر الستينيات عندما أدرك النظام فشل التجربة فقام بإنشاء معهد أمناء الشرطة ليضيف مسمى وظيفى آخر إلى جهاز الشرطة.


وأوضح الجوادي أن تجربة أمناء الشرطة فاشلة أيضًا، لأن اختيار أمناء الشرطة آنذاك كان يتم بعد مرحلة الثانوية العامة، فكان الأمين يكمل دراسته بعد التخرج من معهد أمناء الشرطة في كلية الحقوق ويطالب بعدها إما بالعمل كضابط، أو محام، ورحب الجوادي بعودة عسكرى الدرك، حيث يرى فيها كسرًا للنظام الشمولى الذى عاشته مصر بعد ثورة يوليو، وطالب بعودة الوظائف الأخرى التى تم إلغائها مثل كونستابل المرور، ومعاون الإدارة للعمل على حل مشاكل الأمن والمرور التى نعيشها حاليًا.


وشدد الجوادي على ضرورة الإعداد الجيد لعودة عمل عسكري الدرك، وأن الأمر يحتاج إلى لجنة من المفكرين وأساتذة الجامعات وخبراء الأمن لوضع أطر علمية تحدد طبيعة عمل الجهاز الجديد وتحدد صلاحياته، وتكليفاته وحدود وظيفته، وطرق الثواب والعقاب حتى لا يكون مجرد جهاز تمت إضافته إلى وزارة الداخلية دون أن يفيد المجتمع في شىء.

 

المصدر: بوابة الاهرام
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 116 مشاهدة
نشرت فى 29 أغسطس 2012 بواسطة kalamtha2er

عدد زيارات الموقع

420,785

تسجيل الدخول

ابحث