إكرام يوسف
كنا نقف على باب السفارة السودانية، مرددين:"شيماء عادل قولي بأمانة.. كيف العتمة في الزنزانة.. كيف السجن والسجانة".. هاتفين باسم الزميلة الصحفية المعتقلة في الخرطوم أثناء تغطيتها أحداث انتفاضة الشعب السوداني يوم "جمعة لحس الكوع".
وكانت والدة شيماء تضرب المثل للأم المصرية الصامدة المؤمنة بحق ابنتها في التعبير والحرية، رابطة الجأش شامخة الرأس رغم ضعف بدني بفعل إضرابها عن الطعام منذ أيام احتجاجا، على ما أسمته "تباطؤ وتواطؤ" أجهزة رسمية لم تبذل جهدا كافيا للإفراج عن ابنتها، بينما طالبتها بعدم تصعيد الأمر إعلاميا حتى لا تستفز المسئولين في السودان! وهو اعتراف بأن حقوق الناس في بلادنا ترتبط بالمزاج الشخصي للمسئولين، ويمكن أن يدفعهم مطالبة الشخص بحق له إلى العند وإنكار حقه!.
تتقدم فتاة في مثل عمر شيماء لتقود الهتاف "يا خارجية صحي النوم.. شيماء مخطوفة في الخرطوم".. ونردد وراءها، ولسان الحال يقول "وماذا عن المخطوفين في السجون العسكرية وآخرهم ثلاثة من شباب الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، يقول زملاؤهم أنهم كانوا في مسيرة للمطالبة بالإفراج عن المسجونين المدنيين بعد محاكمتهم عسكريا"!
تقبع شيماء منذ اسبوعين، في مكان ما في السودان الشقيق تحت رحمة أجهزة تواجه انتفاضة شعبها بقسوة وتعتقل العشرات يوميا من المحتجين ضد ظروف فساد واستبداد لا تختلف عما عانيناه ونعانيه في مختلف بلدان العرب. وظلت أمها لا تعرف شيئا عن ظروف اختطاف ابنتها، اللهم إلا أنه تم اختطافها من "سايبر" اثناء قيامها بإرسال تقريرها لجريدة الوطن التي تعمل بها. ورغم مناشدة المسئولين في البلدين لم نسمع جوابا شافيا عن السؤال الذي يردده زملاؤها هتافا أمام باب السفارة السودانية "واحد.. اتنين.. شماء راحت فين؟".
وكنت قد تساءلت في مقال سابق عن سبب تجاهل رئيس جمهوريتنا الإشارة إلى الثورة السودانية، أثناء خطابه في ميدان التحرير ، رغم إشارته إلى الثورة السورية وحقوق الشعب الفلسطيني. وهو الذي وصل إلى منصبه بفضل دماء ونضال شباب لا يختلف عن شباب السودان الثائر طلبا للحرية ورفضا للفساد والاستبداد. وكنت أظن ـ ومعي كثيرون ـ أن العلاقة بين رئيسنا الجديد ونظام البشير المتحالف مع الإسلاميين فيها من العشم ما يسمح له برفع سماعة الهاتف للمطالبة بعودة شيماء! .. يرتفع صوت زملاء شيماء "يارئيس الجمهورية.. شيماء صحفية مصرية..مخطوفة في سجون سودانية.. وانت رايح عالسعودية"..ويعلو صوت غاضب "آه لو كانت أمريكية، كانوا ادوها براءة فورية .. آه لو كانت م الإخوان، كان زمانه في السودان".
نقف أمام السفارة ، ونحن نتحاشى النظر في عيني والدة شيماء إحساسا منا بالذنب لعجزنا ـ حتى الآن ـ عن تلبية مطلبها بعودة ابنتها الأسيرة. وتنصهر قلوبنا في هتاف نردده وراء صديقة شيماء ورفيقة عملها "أيوة باقولها وحافضل أقول، إفرج عن شيماء يازول".
ويطن السؤال في الذهن حتى يكاد ينفجر؛ لماذا يكتم الطغاة صوت الإعلام الحر، ويطلقون العنان لحملة المباخر، حتى يعميهم دخانها عن رؤية الحقيقة اليقينية "الطغاة إلى زوال والشعوب هي الباقية"؟
ينضم إلينا أشقاء من جارة الوادي، من أرى علاقتنا بهم "أخوة في الرضاع" لايمكن أن تنفصم، ألم نرضع معا من نفس النيل؟ يهتف أحدهم "الشعب يدين تجار الدين" فنجيبه مدفوعين بالهم الواحد..ثم يواصل ونحن نردد وراءه "خيبة.. قسموا السودان.. خيبة.. باعوا الأوطان.. خيبة.. اغتصبوا النسوان.. خيبة.. قتلوا الأطفال.. خيبة...".
ثم يتقدم آخر خاطبا "ربما كان أسر شيماء عادل فرصة من أجل تسليط الضوء عما يحدث في السودان من كتم للأفواه وتأميم الحريات وضرب الشباب والفتيات الذين خرجوا يطالبون بالحرية.. هل تعلمون أن في السودان لا يوجد سوى كيان نقابي واحد، يضم الأطباء والصحفيين والمهندسين وغيرهم من المدنيين، اسمه اتحاد النقابات العمالية؟ لا يسمحون بقيام نقابات مهنية مستقلة. إن من اعتقلوا شيماء يعتقلون يوميا العشرات من بنات وأبناء السودان لمنعهم من التعبير عن الرأي".
تذكرت عندما كنت أعمل قبل في بلد شقيق، ومعنا زميل سوداني، حورب في رزقه وفصل من عمله في إطار ما سمي وقتها بالتطهير، فاضطر إلى السفر للفرار من بلاده سعيا وراء لقمة العيش.. وأتيحت لي فرصة لزيارة الخرطوم، فسألته "تحب أجيبلك إيه معايا من السودان؟" غربت عيناه وقال بنظرة ساهمة "حفنة من تراب الوطن"! أوجعتني عبارته، لعلمي أنه لا يستطيع العودة وإلا تعرض لما لا يحمد عقباه بسبب مواقفه المعارضة.. قلت له "والله لأحقق أمنيتك". وما أن وصلت الخرطوم، حتى طلبت من السائق أن يأتيني ببعض من تراب الخرطوم. ولم يخذلني الرجل فأحضر لي كمية من التراب الأسمر تكفي زراعة عدة أصص من الزهور، حتى أنني قلت له ضاحكة "أخشى أن يوقفونني في المطار بتهمة تجريف أرض الخرطوم"..وكانت مكافأتي ابتسامة سعادة حقيقية ارتسمت على وجه أسمر طيب، وأنا أهديه تراب بلاده قائلة "تستطيع أن تزرع فيها ما تشاء من النبات حتى لا تفارقك رائحة الخرطوم".
وأتذكر قول أينشتين "الغباء أن تصنع نفس الشيء أكثر من مرة بنفس الأسلوب ثم تنتظر نتيجة مختلفة".. وكنت كتبت أكثر من مرة عن مرض أسميته "متلازمة الغباء المصاحب للكرسي"، حيث يشهد الطغاة نظراءهم يتساقطون الواحد بعد الآخر، ولكن كل منهم يعتقد أنه أذكى اخوته، ووحده الذي حسب حسابات كل شيء جيدا، وأمَّن نفسه ضد النهاية المحتومة. في حين أنه لم يفعل سوى ما يفعله أمثاله بالضبط: إطلاق يد النخبة الحاكمة في نهب ثروات البلاد، وإفقار الشعب، و قمع الحريات، وإخراس أصوات المعارضة وإطلاق يد الأجهزة الأمنية في ترويع المعارضين، وكبت حرية التعبير، وإطلاق آلة الإعلام المأجور تمجيدا له ونهشا في معارضيه... هي نفس الأساليب ونفس الممارسات مع تغيير الأشخاص وأسماء البلدان الواقعة تحت نير الفساد والاستبداد.. وتعمي متلازمة الغباء المصاحب للكرسي أعين المستبدين عن رؤية الهوة التي تزداد اتساعا تحت كرسي الحكم، فلا ينتبه إلا بعد فوات الأوان.
إفرج عن شيماء يازول.. عاش كفاح وادي النيل!