رسالة واشنطن:محمد المنشاوى
«نريد رئيسا منتخبا بحرية وعدالة وترضى عنه المؤسسة العسكرية».. كان هذا هو رد سفير أمريكى سابق خدم فى القاهرة، ردا على سؤال طرحته عليه «الشروق» حول توقعات الولايات المتحدة من الانتخابات الرئاسية المصرية المقررة فى يونيو المقبل.
«الشروق» رصدت تصاعد حالة من القلق فى واشنطن بشأن بوصلة مصر السياسية الخارجية بعد انتخاب رئيس جديد. فبدأ بأسوأ أزمة عصفت بقوة وثبات علاقات القاهرة بواشنطن، وهى قضية المنظمات الأمريكية العاملة فى مصر، ومرورا بتداعيات أزمة حصول والدة المرشح الرئاسى «المستبعد»، الشيخ حازم صلاح أبوإسماعيل؛ على الجنسية الأمريكية، وصولا إلى أزمة وقف تصدير الغاز المصرى لإسرائيل، «زادت المخاوف الأمريكية على مستقبل العلاقات الخاصة مع مصر؛ إذا ما نتج عن الانتخابات الرئاسية رئيس لا يقدر خصوصية هذه العلاقات»، بحسب السفير الأمريكى.
ويذهب بروس رايدل، من معهد بروكينجر، إلى أن «سنوات العلاقات الجيدة والمتينة بين دولتنا ومصر انتهت، ولابد من إعادة التفكير فى إستراتيجيتنا بعدما خرج المارد من القمقم». وفى هذا السياق، تركز وسائل الإعلام الأمريكية خاصة على ثلاثة مرشحين رئاسيين، هم الأمين العام السابق للجامعة العربية، عمرو موسى، والقيادى الإخوانى «المفصول»، عبدالمنعم أبوالفتوح، ورئيس حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية للإخوان المسلمين، محمد مرسى.
ويمثل «موسى بديلا مقبولا للإدارة الأمريكية، لاسيما للدوائر العسكرية والمخابراتية»، بحسب السفير الأمريكى السابق بالقاهرة. ومع موسى يجىء المرشحان الإسلاميان، أبوالفتوح، ومرسى، لكن ينظر إليهما ببعض القلق جراء خلفيتهما الإسلامية، وعدم إدراكهما لأهمية وخصوصية العلاقات مع واشنطن.
ولم يكن غريبا اهتمام الولايات المتحدة بملف مستقبل الرئاسة المصرية حتى من قبل تنحى الرئيس السابق حسنى مبارك؛ فالعلاقات الثنائية شديدة الأهمية لواشنطن؛ لذا من الطبيعى أن تعج العاصمة الأمريكية بالنقاشات حول مستقبل مصر. وبحكم هذه الأهمية لا يمكن لواشنطن أن تخاطر بالرهان على فريق أو شخص ضد آخر، ومن هنا نفهم أسباب الإحجام الأمريكى الرسمى عن دعم مرشح بعينه أو حتى الإشارة إليه من بعيد.
وباستثناء المصريين، لا يسبق أحد الإدارة الأمريكية فى القلق والفضول لمعرفة هوية واسم الرئيس المقبل، فالرئيس المصرى هو حجر الأساس للعلاقات بين القوة الأكبر فى عالم اليوم من ناحية، وبين القوة الأكبر فى الشرق الأوسط من ناحية أخرى. ويثبت التاريخ أن ميول ورؤية رئيس مصر هى ما يدفع العلاقات بين الدولتين للأمام أو يرجع بها للخلف.
ومنذ منذ بداية النظام الجمهورى فى مصر عقب نجاح حركة الضباط الأحرار عام 1952 وحتى عام 2011، حكم مصر فعليا ثلاثة رؤساء، فى حين شهد البيت الأبيض 12 رئيسا خلال نفس الفترة. وتتمسك الإدارات الأمريكية، سواء كانت جمهورية أو أمريكية، بمجموعة من المصالح الأمريكية فى تعاملها مع القاهرة، وذلك على النقيض من شخصنه الموضوع من الجانب الرئاسى المصرى.
رفض عبدالناصر
بعد سيطرة القوات المسلحة المصرية على مراكز القوة فى مصر صبيحة 23 يوليو 1952، توجه مندوب خاص عن مجلس قيادة الثورة إلى السفير الأمريكى فى القاهرة، وأبلغه رسالة مضمونها أن «النظام القديم فى مصر قد سقط، وأن نظاما ثوريا جديدا قد قام لتحقيق الأمانى الوطنية للشعب المصرى».
بعدها، حاولت واشنطن عن طريق وزير خارجيتها، جون فوستر دالاس، أن تجذب مصر إلى صفها فى حربها الباردة مع الاتحاد السوفييتى، إلا أن مناقشات دالاس مع الرئيس الراحل، جمال عبدالناصر، حول الأحلاف العسكرية أظهرت هوة بين أفكار القاهرة وتصورات واشنطن. ثم وقفت مصر فى صف الاتحاد السوفييتى، ونشأت علاقات خاصة بين الدولتين كان محورها العلاقات العسكرية والتسليح السوفييتى للجيش المصرى.
وخلال عام 1956، ورغم الخلاف حول تمويل بناء السد العالى، ساندت واشنطن موقف مصر فى مواجهة العدوان الثلاثى على أراضيها من جانب بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. وأسهم الموقف الأمريكى مع الموقف السوفييتى فى إنهاء هذا العدوان.
ثم ظهرت فى بداية ستينيات القرن الماضى فرصة لعلاقات جيدة بين القاهرة وواشنطن مهد لها تواصل جيد بين عبدالناصر ونظيره الأمريكى الجديد آنذاك، جون كينيدى. إلا أن العلاقات الثنائية انهارت تماما، ووصلت لحد قطع العلاقات الدبلوماسية، بعد المساندة الأمريكية لإسرائيل فى عدوانها على مصر فى يونيو 1967.
مفاجأة السادات
بعدها، أظهر الرئيس الراحل، أنور السادات، اهتماما خاصا بالعلاقات مع واشنطن، حتى من قبل عودة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين عام 1974. ففى صيف عام 1972، فاجأ السادات العالم بطرد الآلاف من الخبراء السوفييت من مصر. وكان رد الفعل الأمريكى دليلا كافيا للتعرف على ما تمثله مصر من أهمية للإستراتيجية الأمريكية، إذ قال وزير الخارجية الأمريكى الشهير، هنرى كيسنجر: «لو اتصل الرئيس السادات بواشنطن تليفونيا، قبل طرد الخبراء السوفييت، وطلب أى شىء، لحصل عليه، لكنه قدم هذا العمل الجليل لنا مجانا».
أما الرئيس الأمريكى، ريتشارد نيكسون، فسارع بتوجيه رسالة عاجلة لنظيره السوفييتى، ليونيد بريجينيف، قال فيها إنه لم يعلم مسبقا بما أقدم عليه السادات، مشددا على أنه لا دور لبلاده فى هذه الخطوة المفاجئة، ولن تتخذ أى خطوات بناء على هذه التطورات المهمة.
وبعد حرب أكتوبر 1973 زاد إيمان السادات بأن مفاتيح حل صراع الشرق الأوسط وسبيل عودة أراضى مصر المحتلة فى سيناء لا يمكن لها إلا أن تمر عبر بوابة واشنطن، معتقدا أن الولايات المتحدة تملك 99% من أوراق حل صراع العرب مع إسرائيل. ومن هذا المنطلق بدأت مفاوضات السلام مع إسرائيل، وصولا لتوقيع معاهدة السلام 1979. كما شهدت العلاقات المصرية ــ الأمريكية فصلا جديدا بتعاون غير مسبوق تجاه مقاومة الغزو السوفييتى لأفغانستان، والعداء للثورة الإسلامية فى إيران، والتضييق على ليبيا فى عهد الزعيم الليبى آنذاك معمر القذافى.
تعاون مبارك
ثم شهدت العلاقات المصرية ــ الأمريكية تطورا كبيرا خلال العقود الثلاثة لحكم الرئيس السابق، حسنى مبارك، من خلال التعاون فى كافة المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية. ووصل التعاون العسكرى لدرجة لم يتخيلها أحد مع الغزو العراقى للكويت عام 1990، ومشاركة آلاف الجنود المصريين فى صف الولايات المتحدة ضد الجيش العراقى؛ ما دفع إدارة الرئيس جورج بوش الأب إلى إلغاء ديون مصر العسكرية.
وخلال حكم مبارك حرصت واشنطن على الحفاظ على ثلاثة أهداف كبرى لتعاونها مع القاهرة، وهى: التقدم فى عملية السلام بالشرق الأوسط، الحفاظ على الاستقرار الإقليمى، والتصدى للإرهاب الدولى. وارتبط ذلك باستمرار التزام مصر بعدم عودة العلاقات لطبيعتها مع إيران، مقابل تطور كبير فى العلاقات المصرية ــ الإسرائيلية.
أما العلاقات العسكرية بين الدولتين فبدأت عام 1976، وما لبثت أن تطورت حتى احتلت مصر المرتبة الثانية، بعد إسرائيل، فى قائمة الدول التى تتلقى معونات عسكرية أمريكية، بقيمة 1.3 مليار دولار سنويا. وارتباطا بهذه العلاقات بدأت عام 1994 مناورات عسكرية أمريكية ــ مصرية مشتركة باسم «النجم الساطع»، والتى تجرى كل عامين داخل الأراضى المصرية، وتشارك فيها قوات عسكرية من الجانبين، إضافة لعدة دول أخرى حليفة.
الرئيس الجديد
يرى ستيفن كوك، من مجلس العلاقات الخارجية بواشنطن، أنه لم «يكن هناك مفر من التراجع فى العلاقات المصرية ــ الأمريكية عقب سقوط الرئيس مبارك، وعلينا الاعتراف أن تبنى مبارك سياسات تحالف مع واشنطن سيكون لها نتيجة وخيمة على مستقبل العلاقات بين الدولتين». وهو ما أكده السفير الأمريكى السابق فى القاهرة بقوله إن «واشنطن تدرك أن التراجع فى العلاقات هو أمر لا مفر منه! إلا أن السؤال المهم يتعلق بحجم وطبيعة هذا التراجع».
ولا يخفى الكثيرون فى واشنطن قبولهم باستمرار حكم المجلس العسكرى، وعدم تسليمه السلطة لرئيس قوى منتخب، للحفاظ على العلاقات الخاصة التى جمعت البلدين لعقود طويلة خاصة فى المجالات الأمنية والعسكرية.
ويرى جيمس فيليبس، من مؤسسة هريتيج المحافظة، أن «ما تأمله إدارة أوباما من مصر بعد الإطاحة بالرئيس مبارك هو التحول لديمقراطية حقيقية، إلا أن ملامح المرحلة الانتقالية تفيد بوصول العلاقات بين البلدين لأدنى مستوياتها منذ 1979». وقالت مصادر حكومية أمريكية لـ«الشروق» إن واشنطن غير راضية عن مستوى التعاون الأمنى من جانب السلطات المصرية، لا سيما فيما يتعلق بالتعاون فى مكافحة الإرهاب الدولى منذ سقوط نظام مبارك.
زيارة طهران
سياسة مصر تجاه إسرائيل بعد ثورة 25 يناير 2011 باتت مصدر قلق لصناع القرار السياسى فى واشنطن وتل أبيب، بعدما فقدتا حليفا استراتيجيا مهما فى المنطقة برحيل مبارك. وتدرك حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو أن سياسة الحكومة المصرية الجديدة لن تسير فى نفس الاتجاه الذى كانت عليه خلال عهد مبارك، رغم أن القيادة التى تولت الحكم إثر تنحى مبارك أكدت أنه من غير الوارد بالنسبة إليها إعادة النظر فى معاهدة السلام الموقّعة بين مصر وإسرائيل.
ويرى فيليبس ضرورة أن تضغط واشنطن على أى رئيس مصرى قادم ليلتزم بالتعهدات السابقة للحكومة المصرية وعلى رأسها معاهدة السلام مع إسرائيل وبمكافحة الإرهاب». وبشدة، يقلق واشنطن الخطاب الدعائى للعديد من مرشحى الرئاسة ممن يعلون النبرة القومية المصرية عن طريق الهجوم على الولايات المتحدة وإسرائيل معا، إلا أن ما يقلقها أكثر هى نوايا مرشحى الرئاسة فى تطبيع العلاقات ليس مع تل أبيب كما تأمل واشنطن، بل مع إيران التى تعادى كلا من واشنطن وتل أبيب.
وقد تسببت قضية وقف تصدير الغاز المصرى إلى إسرائيل فى زيادة القلق الأمريكى على مستقبل العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، وما يتبعه من توتر مصرى ــ أمريكى. ويظهر بوضوح الآن لدوائر صنع القرار فى واشنطن أن الحقيقة التى يعلمها الجميع، هى أن العلاقات بين مصر وإسرائيل عامة لا تحظى بدعم شعبى، ولكن الجديد هو احتمال انتخاب رئيس يترجم هذه الحقيقة إلى سياسات ومواقف عدائية تجاه تل أبيب.
وترى مجلة «تايم» الأمريكية أن معاهدة السلام لا تزيد عن كونها إجراء دبلوماسيا باردا، وإنهاء رسميا للعداء بين القاهرة وتل أبيب، مضيفة أن صفقة الغاز، التى أبرمت بعدها بنحو ربع قرن، ينظر إليها فى مصر على أنها من نتاج نظام فاسد؛ لذا من المستبعد أن تستمر العلاقات على ما كانت عليه بعد انتخاب رئيس جديد.
خطيئة الفقى
ما ذهب إليه قبل فترة الدكتور مصطفى الفقى من تعظيم للدور الأمريكى، لدرجة منح واشنطن حق الفيتو وضرورة مباركة البيت الأبيض للرئيس المصرى القادم! يعكس بوضوح سوء تقدير نسبة كبيرة من النخبة المصرية للقوة الأمريكية.
وهذه المبالغة فى التقدير تتعلق بثلاث نقاط مهمة، الأولى هو عدم معرفة بطبيعة عملية صنع السياسة الأمريكية، وحقيقة ما يمكن لواشنطن القيام به والتأثير عليه فى السياسات الداخلية المصرية، وأخيرتها، وهى أكثرها خطورة، هو عدم الثقة فى قدرة الشعب المصرى على اختيار حكامه الجدد بحرية واستقلالية.
ومن المعروف أن العلاقات المصرية ــ الأمريكية متشعبة، وتحكمها مصالح وحسابات متعددة؛ ولذا لا تميل واشنطن إلى شخصنة علاقاتها المهمة والإستراتيجية مع مصر، أو اختزالها فى الرهان على فريق أو شخص ضد آخر.
فالبراجماتية هى محور اهتمام واشنطن بمستقبل الحكم فى مصر، وهذا جلى فى إجابات مسئولين ودبلوماسيين أمريكيين عندما أتوجه إليهم بتساؤل حول تصورهم لمستقبل الحكم فى مصر، إذ تخلص المناقشات دوما إلى أن واشنطن «لم ولن تتدخل فى اختيار الرئيس المصرى القادم، ولن تُساعد أو تُرجح كفة مرشح أو فريق على حساب آخر، وهى لا تستطيع ذلك إن أرادت!»
فى النهاية
إن اهتمام الدوائر الأمريكية المختلفة بمصر له ما يبرره، فهى أكبر دولة شرق أوسطية سكانا بملايينها الثمانين، وهى صاحبة أكبر جيش، وثانى أكبر اقتصاد، إضافة إلى دورها الثقافى الرائد، وكونها مصدر الفكر السياسى القومى العربى، والسنى الإسلامى فى المنطقة. ولذا فإن متابعة ما يحدث بها وبمستقبلها شىء مهم لواشنطن وللعالم الغربى كله.
وترى ميشيل دان، من المعهد الأطلنطى، أن «هناك ضرورة لتناول العلاقات المصرية ــ الأمريكية من منطلق جديد، فمصر تلعب دورا محوريا فى السياسة الخارجية الأمريكية، وعلينا ألا نتجاهل المصالح الأمنية التى سيطرت على علاقاتنا فى الماضى، دون أن تتأثر المصالح الاقتصادية والسياسية التى تلعب دورا أساسيا فى مصالح الأمن القومى الأمريكى».
على الرئيس المصرى القادم أن يحدد بوضوح، وللمرة الأولى، أهدافا واضحة من العلاقات التى ستجمع القاهرة بواشنطن بعد انتخابه. وسواء أصبحت تلك العلاقات خاصة أو عادية أو أقل من العادية، فلابد أن تبتعد عن العاطفة، وان تُسخر فقط لخدمة مصالح الدولة المصرية الباقية.