اى إصلاح حقيقى فى المجتمع ينبغى أن يشمل وضع النساء .. وضع المرأة العربية لم يكن أقل من الغربية التى استغلتها الرأسمالية وحولتها لسلعة
راشد الغنوشى يتحدث عن حلم الحرية والمرأة فى دولة الإسلام (3 – 3) .. لا يوجد مانع من تولى المرأة القضاء أو الرئاسة
راشد الغنوشي وغلاف كتابه المرأة بين القرآن وواقع المسلمين
سامح سامي
الحيرة التى تنتاب الواحد أثناء الكتابة فى أمور كهذه كبيرة.
خاصة إذا كنت محسوبا على التيار الليبرالى، ثم تحاول التعرض بموضوعية إلى مفكر إسلامى. وأنت تعرف أن الموضوعية فخ، والحياد وهم. لكن المهم فى المسألة أن تكون صادقا.
هل تعرف راشد الغنوشى رئيس ومؤسس حركة النهضة التونسية؟ نعم.
طيب.. هل قرأت له كتابا؟ لا.
إذن، ليس بوسع أحد، ولا يليق، أن يقترح على آخر ماذا عليه أن يقرأ. ولكن هذا لا يمنع فى أحيان كثيرة، وفقا لوظيفة الصحفى، أن يكتب عن كتب، لكى يقرأها قارئ ما، وهى فرصة يجدها هذا الصحفى، مجدية لكى يخرج كل ما يفكر فيه، أو بالأحرى ما يقلقه. وأقصد مسألة «الدولة الإسلامية».
(1)
فى دردشة مع المفكر د.محمد بدوى، طرحت عليه كل أسئلتى حول فكر الغنوشى. بدا على أسئلتى، أنها تستوضح منه هل الغنوشى فعلا مفكر مستنير أم هو فى «سلة واحدة» مع بقية الإسلاميين المتشددين، الذين يعرضون فكرا إسلاميا غير متطور، متخاصما مع كل شىء؟. لم يجب بدوى إلا بعد أن ألقى، كعادته، «فرشة» تاريخية عن الإسلام كدين ودولة، مفككا الجدل الدائر حول دخول الدين فى السياسة. وبوضوح قال بدوى إن الغنوشى مرحلة متطورة فيما يعرف بـ«علمنة الإسلام» مثل الذى نشهده فى تركيا. الخوف المسيطر الآن، بتعبير بدوى، هو تجربة باكستان الإسلامية، التى يحكم فيها الجيش فى الخلفية، وفى الأمام تظهر كأنها دولة إسلامية.
(2)
هناك كتاب مهم للدكتور مصطفى حجازى فى عنوان صادم «التخلف الاجتماعى»، ولكنه دال، يفتح الشهية للقراءة، ويهز كيانك وأنت تقرأه، قائلا: «ياه هذا الكلام ينطبق علىّ، وعلى من حولى»، وذلك فى شرحه لسيكولوجية «الإنسان المقهور».
وهو تحدث عن وضعية المرأة التى هى أفصح الأمثلة، بتعبيره، على وضعية القهر بكل أوجهها ودينامياتها ودفاعاتها فى المجتمع المتخلف. فى وضعيتها تتجمع كل تناقضات ذلك المجتمع. إنها أفصح معبر عن العجز والقصور، وعقد النقص والعار، وأبلغ دليل على اضطراب الذهن المتخلف من حيث طغيان العاطفية، وقصور التفكير الجدلى، واستحكام الخرافة.
لماذا أذكر كتاب مصطفى حجازى؟
لأنه مناسب، باعتباره كتابا علميا، فى تعرضنا لكتاب دينى «المرأة بين القرآن وواقع المسلمين» لراشد الغنوشى، الذى يشير أيضا إلى ما يقرره حجازى. لكن بأسلوب مختلف. ففى تعريفه لوضعية المرأة فى عصر الانحطاط، قال إنه «سلبية الإنسان وعجزه تجاه الطبيعة والمجتمع»، معتبرا أن هذا الانحطاط جعل المرأة تنظر إلى نفسها على أنها مجرد كائن ضعيف متقبل للإهانة والاحتقار والظلم. كما أن عصر الانحطاط قد ضيق على المرأة وعزلها عن هموم مجتمعها الثقافية والسياسية وحولها إلى مجرد آلة إنجاب. ويكمل أن التربية الأسرية كانت فى ذلك العصر آلة منتجة للاستبداد فى المسجد، والمدرسة، والمؤسسة الاقتصادية والسياسية، الأمر الذى يحتم علينا إذا أردنا أى نهضة اجتماعية لأمتنا أن نستبقها بثورة تربوية على مستوى الأسرة تُحرر المرأة من رواسب الانحطاط؛ «لأن كل تحول حقيقى فى صلب المجتمع ينبغى أن يمر بالأسرة وبالتالى بالعنصر الرئيسى فيها: «المرأة»
(3)
رغم حديث محمد بدوى المطمئن، إذا كان الواحد قد أُعجب بأفكار الغنوشى، ورؤيته لدولة الإسلام، فى الحلقتين الأولى والثانية من هذا العرض، إلا أن المستفز فى الكتّاب العرب مقارنتهم المستمرة أوضاعنا المعوجة فى العالم الإسلامى بالعالم الغربى. هذه المقارنة وقع فيها الغنوشى كثيرا، حين تحدث عن المرأة فى واقع المسلمين التى يراها لم تقل حالا عن وضع المرأة الغربية، ذلك أن الثورة التحررية التى تحققت فى الغرب لم تقم على منظومة قيم (يقصد مثل قيم الإسلام) تحمى المرأة من استغلال المؤسسات الرأسمالية لجسدها وتحويلها إلى مجرد مستهلك لمنتجات الزينة التى لا تعرف الاستقرار، وبالتالى «تكريس الفكرة القديمة: المرأة متاع أو المرأة جسد».
ويزيد الغنوشى من كلامه، الذى ربما يكون صحيحا، عن الغرب والعالم الإسلامى، ليوضح أن عصر الانحطاط ليس وحده هو السبب فى الحالة الإنسانية التى تعيشها المرأة فى العالم الإسلامى، بل إنه أمام ضعف المؤسسة الدينية التقليدية، وعجزها فى الغالب عن القيام بثورة تصحيحية من منطلق الإسلام الصحيح، حيث تدخل الاستعمار الفرنسى المتغلب فى تونس لتغيير الواقع المتردى القائم من خلال الاستحواذ على الأراضى الزراعية، والدفع بسكان الريف إلى الهجرة نحو المدن حيث يختلط الناس بعيدا عن علاقات النسب والقرابة والعشائرية، هادفا من وراء ذلك إلى تهديم و«كسر الطوق الخارجى الذى كان يحمى القيم الأخلاقية فى الريف، قيم الحياء والشرف.. والعمل على نشر قيمه الثقافية عن طريق المدارس ومؤسسات الإعلام، وخاصة تلك القيم المتعلقة بالعلاقات بين الجنسين».
(4)
يعرف أهمية أى الكتاب، بهوامشه ومراجعه. الهوامش تسلى وتحفز على القراءة ومراجعة كتب أخرى، والمراجع تعرفك مدى انفتاح أو انغلاق هذا الكاتب إضافة إلى أنه ربما تكون مؤشرا على مدى الثقل الفكرى والبحثى للكتاب. وأدهشتنى إشارة الغنوشى فى أحد هوامش الكتاب إلى الفيلسوف الألمانى العبقرى فريدريك نيتشه، فى مناقشته الأكثر تطورا فيما قرأت من كتب الإسلاميين، عن مسألة الخلق، خاصة خلق حواء من ضلع آدم وما يثار حولها (يرى المفكر الإيرانى اللامع الأستاذ على شريعتى أن القرآن أكد فى مسألة الخلق على وحدة المادة التى خلق منها النوع الإنسانى، نفيا للفكرة المقابلة التى تؤكد ــ كما فعل الفيلسوف الألمانى نيتشه ــ على اختلاف مادة الخلق الأولى، أما القرآن فيقول بأن الله خلق المرأة من طبيعة الرجل «آدم» أى أن الرجل والمرأة من طبيعة واحدة».
ولعل هذه النقطة، الخاصة بوجهة نظر الغنوشى فى خلق المرأة من طبيعة الرجل، تبين فكر الرجل عن وضعية المرأة فى العالم الإسلامى، ليأخذها منطلقا أنه «لا يوجد مانع من تولى المرأة القضاء أو الرئاسة». وما الذى يمكن أن يمنع الغنوشى، وهو أبرز المنظرين للإسلام السياسى، من التعبير عن مثل هذه الأفكار وتطبيقها، وهو الذى قاد حزب حركة النهضة إلى الفوز بالأغلبية فى الانتخابات البرلمانية والتحالف مع أحزاب علمانية لتكوين أول حكومة منتخبة فى تاريخ تونس، بعد ثورتها المجيدة.
(5)
إنه ليس فى الإسلام ما يبرر إقصاء نصف المجتمع الإسلامى عن دائرة المشاركة والفعل فى الشئون العامة. بهذا الوضوح يعلن الغنوشى خلاصة رأيه حول وضعية المرأة فى العالم الإسلامى، وتجده يؤكد أن ذلك الإقصاء من الظلم للإسلام ولأمته قبل أن يكون ظلما للمرأة ذاتها؛ لأنه بقدر ما تنمو مشاركة المرأة فى الحياة العامة بقدر ما يزداد وعيها بالعالم وقدرتها على السيطرة عليه، وأنه لا سبيل إلى ذلك من غير إزالة العوائق والارتقاء بوعيها بالإسلام والعالم، والثقة فى قدراتها حتى تكون مساهمتها فعالة فى صناعة جيل يخرج عن خويصة نفسه لينخرط فى العموم العامة للأمة والإنسانية.
نحن إذن ــ بتعبير الغنوشى ــ مع حق المرأة الذى قد يرفع أحيانا إلى مستوى الواجب فى مشاركتها فى الحياة السياسية على أساس المساواة الكاملة غير المنقوصة فى إطار احترام أخلاقيات الإسلام، فإنما التفاضل بالكفاءة والخلق والجهد لا بالجنس أو اللون.. وتأمل فى هذه الآية العظيمة «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير». فما أحوج صحوتنا ونهضتنا إلى زعامات نسائية على كل صعيد، من نوع عائشة، وخديجة، وأم سلمة، وفاطمة، وأسماء، وأم عمارة، وزينب الغزالى، والدكتورة سعاد الفاتح.. فأين بناتنا؟
ولولا إضافته لعبارة «فى إطار احترام أخلاقيات الإسلام»، لقلت لماذا نحسب الغنوشى ضمن التيار الإسلامى، ولا نحسبه على التيار العلمانى. وهذا يدل، على ما دفعنا به أن الغنوشى مفكر إسلامى مستنير متطور عن نظرائه المصريين.
إقصاء نصف المجتمع
إنه ليس فى الإسلام ما يبرر إقصاء نصف المجتمع الإسلامى عن دائرة المشاركة والفعل فى الشئون العامة. بهذا الوضوح يعلن الغنوشى خلاصة رأيه حول وضعية المرأة فى العالم الإسلامى، وتجده يؤكد أن ذلك الإقصاء من الظلم للإسلام ولأمته قبل أن يكون ظلما للمرأة ذاتها؛ لأنه بقدر ما تنمو مشاركة المرأة فى الحياة العامة بقدر ما يزداد وعيها بالعالم وقدرتها على السيطرة عليه، وأنه لا سبيل إلى ذلك من غير إزالة العوائق والارتقاء بوعيها بالإسلام والعالم، والثقة فى قدراتها حتى تكون مساهمتها فعالة فى صناعة جيل يخرج عن خويصة نفسه لينخرط فى العموم العامة للأمة والإنسانية.
حق المرأة فى الولاية
والنتيجة أنه ليس هناك فى الإسلام ما يقطع بمنع المرأة من الولايات العامة قضاء أو إمارة. حتى على فرض ذهابنا مع الجمهور إلى منعها من الولاية العامة «رئاسة الدولة» فبأى مستمسك يستمسك غاصبو حقها المشاركة فى إدارة الشئون العامة فى كل المستويات؟ ليس لهم من مستمسك غير التقليد، وليتهم قلدوا الآباء فى عصورهم الذهبية، عصور تحرر العقل وانطلاق الأمة، إذن لكانوا أهدى سبيلا، ولقرأوا عند شيخ المفسرين بن جرير الطبرى والإمام أبى حنيفة وفقيهنا الثائر الأندلسى بن حزم، أنهم قد أجازوا للمرأة لا مجرد المشاركة فى الانتخاب أو الانتماء إلى الأحزاب أو القيام ببعض وظائف الدولة كالكتابة والوزارة، بل لقد أجازوا لها تولى القضاء وهو من الولايات العامة التى تقاس شروط الإمامة عليها.
ولو تحرروا من تقليد آباء عصور الجمود وامتدت أبصارهم إلى أبعد من ذلك إلى عصر التشريع، عصر النبى صلى الله عليه وسلم وخلفائه عليهم الصلاة والسلام، ومقاصد الشريعة الغراء من بسط العدل بين الناس والمساواة أخص معانيه، لألفوا المرأة لا تشارك بالرأى فحسب فى الشئون العامة، بل وتشارك أيضا بالسيف، وتدخل فى ساعة الأزمات بالرأى السديد والحل المنقذ، كما تدخلت أم سلمة رضى الله عنها فى صلح الحديبية لما أغضب الأصحاب نبيهم صلى الله عليه وسلم فلم يطيعوه فدخل عليها مهموما، فأشارت عليه بالحل الذى أنقذ الموقف، فى أحرج موقف عرفته العلاقة بين القائد وصحبه. فهل اعترض النبى صلى الله عليه وسلم على تدخلها بحجة أن هذه سياسة وأن السياسة والحكم خارجان عن دائرة أعمال المرأة كما ذكر شيخنا المودودى عفا الله عنه بعد أربعة عشر قرنا؟ وهل كان رئيس مجلس الشورى عبدالرحمن بن عوف وهو ينفذ وصية عمر بن الخطاب فى إفراز أحد المرشحين الستة للخلافة، فما ترك أحدا فى المدينة إلا استشاره حتى إنه كان يدخل إلى خدور النساء لأخذ رأيهن فى المرشح الأفضل؟ هل كان غائبا عنه كتاب الله وسنة نبيه بما فى ذلك الآية القوامة وحديث بنت كسرى؟! أم لأنه كان مستحضرا كل ذلك لم يهمل رأى النساء فى الشأن العظيم، كيف لا والشئون العامة تنعكس نتائجها على الرجال والنساء على حد سواء، فبأى مسوغ تُقصى المرأة عن شأنها وهى إنسان مكلف كامل التكليف؟!
وإن مما يعزى النفس أن معظم رجال السياسة الشرعية فى هذا العصر لم يذهبوا بدافع التقليد للآباء ــ أو رد الفعل على الغرب ــ إلى ما ذهب إلى شيخنا المودودى، بل قد أقروا أن الأصل فى الحقوق العامة المساواة بين الرجال والنساء، عدا مواطن قليلة تقتضيها ضرورة التكوين أو ضرورات المجتمع.
ونكتفى هنا بنقل هذه الفقرات اللامعة للشيخ الأزهرى عبدالله دراز رحمه الله: «إن القرآن يقرر مشاركة الرجل والمرأة فى كيان الدولة والمجتمع سواء بسواء ــ عدا بعض استثناءات قليلة متصلة بخصوصيتها الجنسية ــ ويجعل لها الحق مثله فى النشاط الاجتماعى والسياسى بمختلف أشكاله وأنواعه.. ومن جملة ذلك الحياة النيابية وغير النيابية مما يتصل بتمثيل طبقات الشعب ووضع النظم والقوانين والإشراف على الشئون العامة، والجهود والدعوات والتنظيمات الوطنية والكفاحية والاجتماعية والإصلاحية».
و«القول بأن المرأة المسلمة جاهلة غافلة، وأنه لا ينبغى شغلها فى غير بيتها وأمومتها ليس بشىء، فالسواد الأعظم للرجال فى البلاد العربية والإسلامية هم أيضا جاهلون وغافلون، ولم يقل أحد إنهم يجب أن يُحرموا بسبب ذلك من حقوقهم السياسية والاجتماعية.. وليس كل امرأة مرشحة لمباشرة العمل والنشاط فى المجال السياسى والاجتماعى، وإنما يترشح لذلك أفراد كما هو شأن الرجال، مما لا يتحتم أن يكون معناه أو مؤداه انصراف النساء عن النساء عن بيوتهن وأمومتهن». ونقول هذا من قبيل المساجلة وبقطع النظر عن الدلائل القرآنية التى تمنح المرأة الحقوق السياسية والاجتماعية والمدنية أسوة بالرجل، التى ينبغى أن تكون هى القول الفصل فى صدد ما نحن بسبيل تقريره تأسيسا على مبدأ شمول عموميات الخطاب القرآنى للجنسين على حد سواء.