مرد قوات الأمن الـمركزى .. علامة حـاسمة فى نظام (مبارك)
مبارك وزمانه من المنصة إلي الميدان (الحلقة التاسعة) .. منحنى على النهر!
محمد حسنين هيكل
وفى أجواء الاستعداد لـ «رئاسة ثالثة لمبارك» آثرت أن أتابع من مسافة أكثر بُعدا قدر ما أستطيع، دون انعزال كامل عن الحوادث أقطع به أى صلة مع الشأن الجارى.
وكان ظاهرا لى أن الحيرة ليست حيرتى فقط، ولكنها حيرة كثيرين، وربما حيرة التاريخ ذاته فى شأن رجل يتصور بعض الناس أنهم يعرفونه جيدا، ثم يتبين أنهم لا يعرفون شيئا!
●●●
فى ذلك الوقت بدا أن مجرى الحوادث فى ظاهره لا يكفى لرؤية ما يدور تحت السطح، فعلى الظاهر بدا أن الرتابة والركود والتردى هى السمات الغالبة على القرار فى مصر.
لكنه فى نفس الوقت تبدَّى أن العمق المصرى يموج بتفاعلات تتسارع حركتها، وتتصارع عواملها، حيث لا يراها أحد، ولكن آثارها ما تلبث أن تطفو على السطح.
وبشكل ما سرى اعتقاد أن هناك درجة من خيبة التوقعات الداخلى تنتشر، وأن محاولة لتعويضها تجرى بالظهور الخارجى، وتجاوزت الأمور حتى ساد الظن أن «الخارج الدولى» يجرى استعماله ساترا للقصور الداخلى، وناقشت الموضوع صراحة، ومرة أخرى مع «أسامة الباز»، وكان رأيه: «أن مجال العمل فى الداخل محصور، وأنه ربما استطاع العمل الخارجى أن يضيف شيئا» ــ وسألنى أسامة: «ألم يكن ذلك يحدث فى عهد الرئيس «عبدالناصر«؟!» ــ وقلت «إن العمل الخارجى فى وقت «عبدالناصر» كان فى خدمة الداخل، وأشرت كنموذج إلى معركة بناء «السد العالى«، بما مؤداه ــ دون داعٍ إلى كثرة التفاصيل ــ أن الاهتمام بالسياسة الخارجية فى ذلك الزمن كان مطلبه النهائى داخليا».
مُضافا إلى ذلك «أنه أى الجزء الرئيسى من ذلك الجهد كان بهدف استكمال تحرير العالم العربى، خصوصا فى الخليج واليمن، ثم تأكيد استقلال أفريقيا بالتركير على دول حوض النيل وجواره، وأخيرا إقامة جبهة عريضة من دول العالم الثالث مطلبها الدفاع عن الحرية والعدل فى مجتمع الدول».
وأما الآن فإن النشاط الخارجى يبدو أمامى ــ كذلك قلت لـ «أسامة الباز» ــ موجَّه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حتى أصبحت زيارتها حجا سنويا منتظما إلى واشنطن، موعده الربيع مع كل رئيس أمريكى!!
مبارك وزوجته مع الرئيس الأمريكي ريجان وزوجته
وكانت المواكب المسافرة إلى واشنطن تتوقف للاستراحة فى باريس ولندن، ثم تستأنف السفر تعبر المحيط إلى الشاطئ الأمريكى.
وقلت لـ «أسامة» يومها: «إن عددا من ساسة أوروبا لم تعد تريحهم هذه الزيارات لعواصمهم، ورجوته أن ينقل إلى الرئيس «مبارك» أننى سمعت الرئيس الفرنسى «ميتران» يعبر عن شعوره بهذا الموضوع متحرجا بقوله «إن باريس أهم من أن تكون محطة على الطريق إلى واشنطن».
بمعنى أن «ميتران» يريد أن يشعر أن زيارة الرئيس المصرى لفرنسا هى زيارة لفرنسا، وليس محطة استراحة على الممر إلى أمريكا!!
ثم إن الرئيس «ميتران» وذلك ما سمعته منه ــ يريد أن يرى لهذه اللقاءات جدول أعمال مفيدا للبلدين، بحيث يجرى الترتيب له قبل أى لقاء بدراسات خبراء ومناقشات وزراء خارجية.
ولم أقل لأسامة الباز ما سمعته من «ميتران» عن شكواه من أن معظم لقاءاته مع «مبارك»، لم تكن جلسات سياسية وإنما مجرد مناسبات اجتماعية تُحكى فيها الحكايات، وتطول الروايات، ومعظمها مما يدخل فى باب «النميمة» عن ساسة عرب آخرين يحكيها الرئيس «مبارك» من باب التندر والسخرية.
●●●
كان ذلك التوجُّه إلى الخارج أصلا بلا جدوى، إذا لم يكن مقصده النهائى هو الداخل، بدءا منه وعودة إليه، وهدفه النهائى البناء فوق الأساس وخدمته وطنيا أو قوميا، أما التركيز على هذه القوى الكبرى التى يسافر إليها رئيس الدولة، وخلفه وفود جرارة، ثم تكون حصيلتها فيضا من الصور يسيل على صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون فجهد عقيم، لا نتيجة له ولا مردود، وإنما هو نوع من توظيف غير الموجود فى طلب غير الممكن، لأن هذه القوى الكبرى تتعامل مع غيرها بحسابات «القدرة»، ولا يحركها غير منطق المنفعة والربح، وأما حين يكون المطلوب ــ وهو ظاهر أمام الجميع تغطية قصور الداخل بظل الخارج ــ فإن المحصلة صفر وبالتناقص أيضا، بصرف النظر عن حجم الوفود، وكثرة الصور، وتكاليف السفر!!
●●●
وفجأة فى أجواء فترة الرئاسة الثالثة وقعت فى مصر واقعة، فقد انفجر تمرد الأمن المركزى يوم 25 فبراير سنة 1986، وانفلت الأمن، وانكشف الساتر عن المستور، واضطر الرئيس «مبارك» إلى الاستعانة بالقوات المسلحة لاستعادة زمام السلطة.
وصحيح أن استعادة السلطة تحققت فى ظرف أسابيع، لكن النتائج والتداعيات التى ترتبت على واقعة تمرد الأمن المركزى أحدثت شرخا أكبر من مجرد تمرد قوات نظامية على سلطة الدولة، كما أنها ــ فى آثارها ــ أبعد من أن تنتهى بنزول القوات المسلحة إلى الشوارع.
ولعلى أميل إلى اعتبار تلك الحادثة علامة ظاهرة ــ تستحق التوقف طويلا أمامها ــ فى شأن نظام «مبارك»، لأن اختلال الموازين زاد إلى درجة الانزلاق بعدها ــ بدلا من حالة هبوط على درجات سُلم كما كان قبلها!!
أحداث الأمن المركزي 1986
والسبب فى تحول الهبوط إلى الانزلاق بيِّن، لأن أزمة تمرد الأمن المركزى كشفت «مبارك» ــ بقسوة ــ أمام جبهتين:
ــ جبهة الخارج، لأنها أوضحت ــ سواء للولايات المتحدة أو غيرها من القوى ــ أن مركز «مبارك» فى السلطة ليس بالثبات الذى تصوروه بعد فوزه بالرئاسة مرتين.
ــ ثم جبهة الداخل لأن الأزمة كشفته أمام القوات المسلحة وهى سنده الأخير للبقاء، فهذه الأزمة جعلته يلجأ إلى سنده الأخير ليجعله حاميه الأول، وذلك ينزل بالحكم من مظلة الدستور إلى عصا الأمر الواقع، والفارق كبير!!
●●●
وربما يكفى لتصوير حساسية الموقف أن أتذكر من تلك المرحلة ــ اتصالا تليفونيا من الرئيس «مبارك» ــ ثم لقاء بعد ذلك مع المشير «عبدالحليم أبوغزالة» (وزير الدفاع وقائد القوات المسلحة).
● وفى الاتصال التليفونى ــ كان اهتمام الرئيس «مبارك» على ما كتبته ونشرته «أخبار اليوم» من أن تمرد الأمن المركزى «يعكس أحوالا لا يصح النظر إليها باعتبارها قضية أمن، وإنما لابد من النظر إليها كقضية أوضاع اجتماعية أكثر بُعدا وعمقا».
ومن كلام الرئيس «مبارك» فإنه لم يكن من أنصار هذا الرأى، وكان قوله «إننى أعلق على هذه الحادثة بأكثر جدا من حجمها»، مضيفا: «أنا شخصيا لم أقلق، كنت أعرف من أول لحظة أنه فى مقدورى أن «أطبِّق» (هذا هو الوصف الذى استعمله بمعنى التطبيق) تمرد الأمن المركزى بالقوات المسلحة».
وعندما سألته مذكرا بالاحتمال الموازى على الناحية الأخرى:
«وإذا تمردت القوات المسلحة، فكيف يمكن «تطبيق» تمردها؟!».
وتردد الرئيس «مبارك» لحظة ثم قال:
ــ «إن زمن الانقلابات العسكرية انتهى!».
مبارك وأبو غزالة
● وأما اللقاء مع «أبو غزالة» فقد كان فى سكنه أيامها فى بيت على طريق مطار القاهرة مواجه لمبنى الكلية الحربية، ولسبب ما كان الصالون الذى جلسنا فيه معبأ بتلاوة من المصحف المرتل بصوت الشيخ «عبدالباسط عبدالصمد»، ولم أر بعينى مصدر الصوت، لكن التلاوة كانت ملء القاعة طول حديث امتد على ساعتين.
وتحدَّث «أبو غزالة» طويلا وضمن ما قال:
«إن هناك من يتآمر عليه عند الرئيس «مبارك»، يصورون للرئيس أنه (المشير «أبو غزالة») يرى نفسه أجدر بالرئاسة منه».
ويضيف «أبو غزالة» وبثقة بالنفس لافتة:
«الرئاسة لم تخطر على بالى، فأنا أعرف من أحوال البلد ما فيه الكفاية لإقناعى بالبقاء حيث أنا»، ويستدرك «هذا إذا كانت الرئاسة ضمن مطالبى، وهى لم تكن كذلك، فخلال الأحداث (تمرد الأمن المركزى) كانت: «دباباتى موجودة فى كل مكان فى العاصمة، ولو كان الاستيلاء على السلطة مطروحا بالنسبة لى لما احتاج الأمر منى إلى أكثر من ضابط (وحتى برتبة ملازم) يذهب إلى استوديوهات الإذاعة والتليفزيون ويلقى بيانا باسمى، وتنتهى القصة فى خمس دقائق، «وساعتها كان الشعب مستعدا لأن يرحب، وأيضا كان العالم مستعدا لأن يقبل!!».
●●●
فى تلك الظروف وقع التقاء ضرورات بين مطالب القلقين والمتشككين فى مصر بعد أحداث الأمن المركزى ــ وبين عناصر إقليمية ودولية متعددة فى صراع أكبر يتمدد باتساع الشرق الأوسط كله، وبمشاركة قوى العالم تقريبا.
كانت الولايات المتحدة الأمريكية أول الأطراف الخارجية المهتمة بالشرق الأوسط (وبعدها بريطانيا إلى حد ما وربما غيرها)، وكلها قوى يهمها موقع المنطقة، وتهمها مواردها، وكلهم لا يستطيعون تحقيق مُرادهم بحروب مكشوفة، خصوصا الولايات المتحدة وهى مازالت بعد «ڤيتنام» تحاذر أن تضع قدما أمريكية على أرض آسيوية، بينما بريطانيا لا تقدر ولا تستطيع.
● وكان الاتحاد السوڤييتى ــ القوة العالمية الثانية ــ يحارب آخر معاركه خارج حدوده فى «أفغانستان»، فقد رصدت أجهزته عمليات تقوم بها المخابرات الأمريكية للنفاذ إلى داخل إمبراطوريته، وهدفها استثارة الشعوب الإسلامية فى الجمهوريات الجنوبية للإمبراطورية، والسلاح والموقع الذى يُستخدم للإثارة هو «أفغانستان»، والسلاح الذى يحرِّك المشاعر هو «الدين»، وكذلك تورط الاتحاد السوڤييتى فى غزو «أفغانستان» (والوثائق الأمريكية قبل غيرها تكشف أن «الكرملين» دُفع إلى التدخل العسكرى فى «أفغانستان» مرغما ــ أو كذلك تصوره ــ وكانت تلك خطة مرسومة لاصطياده واستنزافه فى الجبال الصعبة والوديان الموحشة ــ بحرب عصابات تنتظره لتستنزف دمه وسلاحه ــ وسمعته!!)، وبهذا التورط فإنه أعطى الفرصة لصيحة مدوية باسم «الجهاد الإسلامى ضد الإلحاد».
● وقتها أيضا كان قلب الشرق الأوسط يعيش زلزال الثورة الإسلامية التى أطاحت بنظام الشاه فى إيران، وأقامت حكمها وسلطتها فى البلد الأهم على رأس الخليج، وهو موطن البترول الأكبر، والجوار القريب من «أفغانستان» بكل ما يجرى فيها، ثم إن نداء الثورة الإسلامية خصوصا فى بدايتها أثار مخاوف كثيرة لها جذور تاريخية غائرة، فإيران قومية راسخة ومذهبها الشيعى فى احتكاك ــ خشن أحيانا ورقيق أحيانا أخرى ــ مع غيره من المذاهب الإسلامية، وبالتحديد مذهب أهل السنة.
والفتنة المذهبية وقود جاهز لمن يريد إشعال الحريق فى دار الإسلام بكاملها، وكذلك ارتفعت ألسنة اللهب!!
أى أنها حرب الجهاد ضد الإلحاد أولا، ثم حرب المذاهب الإسلامية فيما بينها ثانيا!!
● إلى جانب ذلك فقد راحت دواعى التوتر والخوف والقلق فى الخليج تتزايد وتلقى بوساوسها على دول ومشيخات وإمارات الخليج التى وجدت نفسها بين نارين ــ نار جوارها الشرقى فى «باكستان» وقد أصبحت القاعدة الرئيسية لحرب الجهاد ضد الإلحاد فى «أفغانستان» ــ إلى جانب نار أخرى تلسع بسخونة من وهج ما يجرى فى إيران على جوارها الشمالى، وباختصار فإن الخليج وجد نفسه وسط حرب على جبهتين: شرقا فى «أفغانستان» عن طريق «باكستان» (وهذه حرب الجهاد ضد الإلحاد)، وشمالا من «إيران» عن طريق «العراق» (وهذه حرب المذاهب الإسلامية)!!
●●●
وفى تلك اللحظة من حياة الشرق الأوسط كانت ضرورات الأطراف على اختلافهم تفرض حلفا بينهم تلاقت فيه عناصر متباعدة، تصنع للأحداث مجرى مختلفا، ومثل ذلك يقع فى الطبيعة، بمعنى أن زلزالا قد يحدث فى منطقة، تلامس تربة قد تكون هشة سواء قبل الزلزال أو بعده، وفى الجوار نهر يفيض بمياه تكاد تعلو فوق ضفافه، وفجأة ترتج المنطقة ويحدث شرخ فى التربة، ويندفع الماء، فإذا هو منحنى على النهر يدور حول مساره الأصلى، أو يشق لنفسه فرعا نحو اتجاه جديد.
وفى السياسة وفى تلك اللحظة التاريخية ــ حدث شىء مماثل فى منطقة الخليج، وتلاقت ضرورات على الساحة القلقة للإقليم، ورسمت منعرجا على مجرى الأحداث، يظهر على الخريطة وكأنه منحنى على النهر!!
وفى تلك اللحظة المتزاحمة بالضرورات كانت الأوضاع فى مصر ــ وبتفاعلات أحداثها الداخلية ــ وتمرد الأمن المركزى فى وسطها ــ تتوالى وتتداعى تأثيراتها، وبينها انكشاف سلطة الحكم، وظهور مركزين للقوة فى القاهرة، مع علاقات قلقة بين رجلين («مبارك» و«أبو غزالة»)، وكلاهما يريد لنفسه سندا ودعما.
●●●
وتبدَّى لكثيرين أن مصر هى الحل خصوصا مع اعتبارات طارئة:
ــ مصر دولة كبيرة فى الإقليم وهى دولته القاعدية، ثم إن ظروفها بعد معاهدة السلام حددت مجال فعلها، وهى متشوقة لدور تخرج به إلى الإقليم.
ــ وهى بلد يكاد يكون خزان طاقة بشرية غير محدودة.
ــ وهذه الطاقة فيها مورد فياض بشباب مستعد للجهاد ضد الإلحاد.
ــ وضمن هذا البلد عناصر توجَّهت نحو العنف، وهناك من لا يمانع فى تصديره خارج مصر، يتخلص منه، ويشغله بشىء آخر يلهيه عن الداخل المصرى.
ــ وأهم من ذلك فإن مصر توافر لديها فى نفس اللحظة مخزون هائل من السلاح السوڤييتى لم تعد فى حاجة إليه، لأنها نقلت تسليحها إلى نظم غربية (أمريكية بالذات)، وبدأت السياسة المصرية تحاول تصريف ما لديها مما لم تعد بها حاجة إليه، وباعت كثيرا منه فى صفقات للعراق قدرت فيها السعر الذى تبيع به، لأن احتياجات «صدام حسين» فى حربه ضد إيران فاقت كل التقديرات، والحاجة تجعل طالب السلاح مستعدا لقبول أية شروط.
وعندها اكتشف كثيرون ممن يبحثون أن الصيغة السحرية للوفاء بكافة الضرورات قد تكون فى القاهرة، وفى رجلين فيها بالتحديد: «مبارك» و«أبو غزالة».
● الأول لديه رئاسة الدولة المصرية بكل ما تمثله، وبكل ما تقدر عليه من اعتماد السياسات.
● والثانى لديه فائض سلاح ومعه القدرات الإنسانية المُدرَّبة على القتال.
وبين الاثنين طبقة فى مصر مستعدة لما يُطلب منها، خصوصا إذا كانت ثروة النفط هى التى تطلب، وكان النفوذ الدولى هو الذى يسند!!
●●●
ومن الإنصاف أن يُقال أن كل واحد من الرجلين كان لديه الحافز «المشروع» لدخول الساحة المتسعة والقلقة خارج الحدود.
● «مبارك» يتصور ــ مع ترجيح حسن النية ــ أن هذه اللحظة وبالجوار، وقوة الجذب السياسى، وضخامة الموارد الإنسانية المتاحة فى مصر ــ تمكن له فى زحام الأحداث أن يحصل على مساعدات مالية ضخمة تنفع فى تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية فى مصر، كما تخدم التطلعات التى تفتحت شهيتها للثراء فيها، ثم روَّعتها أحداث الأمن المركزى.
● و«أبو غزالة» من ناحية أخرى يتصور ــ ومن باب ترجيح حُسن النية أيضا ــ أنه يستطيع فى نفس الزحام أن يحقق مكاسب لها قيمة، ضمنها أن يجد سوقا للسلاح السوڤييتى الذى لم يعد يحتاجه بعد تغيير أنظمة التسليح فى مصر إلى التسليح الأمريكى، وهو بدعاوى ما يمكن أن تحققه هذه المبيعات يستطيع أن يزيد مشترياته من الأسلحة الغربية، ويستطيع توفير وسائل أوسع لدخول مجال تصنيع الصواريخ، وبالتوازى فإنه يستطيع توفير متطوعين للجهاد أنهوا خدمتهم العسكرية فى مصر، وهم على وشك التسريح من الخدمة، وليست هناك فرص عمل تنتظرهم، والخوف أن تلتقطهم «الجماعات المتشددة» فى مصر، والظن أنه يمكن إغراؤهم بأجور مغرية إذا هم قَبِلوا بمخاطر «التطوع» فى صفوف الجهاد ضد الإلحاد، وهنا يكون الثواب مضاعفا، ثواب عن الجهاد، ومنافع عن القتال!! ــ وربما تصور الرجلان معا أنه بالنسبة للسياسة الداخلية فى مصر، فإنها عصافير كثيرة بحجر واحد.
ــ أول العصافير موارد مالية تتدفق.
ــ والثانى عناصر من الشباب المستعد للجهاد، وتصديرها للخارج أفضل.
ــ ثم وهذا هو العصفور الأجمل شكلا والأزهى لونا، فإن كليهما يستطيع من خلال دور يقوم به أن يجد فى الخارج ما يستطيع به تعزيز أرصدته فى الداخل.
(وللأمانة فإنه يمكن أن يُقال إن هذه الفترة الحافلة وفرت لمصر سيولة ضخمة يسَّرت بعضا من أزماتها!!).
●●●
وشهدت السياسة المصرية فى تلك السنوات من أوائل التسعينيات من القرن العشرين أدوارا حساسة يقوم بها كل من الرجلين، والأدوار تتلاقى أحيانا، وتتنافس أحيانا أخرى، وتتقاطع فى أحوال أكثر مع محاولة توزيع الاختصاصات بين الرجلين فى شراكة قلقة وسط زحام اختلط فيه الحابل والنابل فى المنطقة، صراعا على التفوق، وعلى النفوذ، وعلى المال، وعلى المستقبل!!
وكانت الولايات المتحدة موجودة «بشدة» فى القاهرة، وكانت الولايات المتحدة موجودة «بأشد» فى الخليج.
الخليج العربي
وبشكل ما فإن «مبارك» ــ وهو رئيس الدولة ــ أصبح مختصا رئيسا بالعلاقة مع الأمن القومى فى البيت الأبيض فى واشنطن (ومعه وكالة المخابرات المركزية)، وبدوائر الأسر الحاكمة فى دول وإمارات ومشيخات الخليج.
كما أن «أبو غزالة» بالتوازى أصبح مختصا بالعلاقات العملية على الأرض وبالقيادة المركزية الأمريكية، وهى المسئولة عن أمن الشرق الأوسط، وبالطبع بالتعاون مع مؤسسات المخابرات والسلاح فى الخليج، وكلهم دون استثناء من أفراد الأسر الحاكمة فى بلدانهم.
وبالطبع فقد تسللت وراء الرجلين عناصر من الجماعات الجديدة التى ظهرت فى مصر، وقد دخلوا على المؤخرة يحاولون جمع ما تستطيع أيديهم أن تصل إليه من الغنائم والأسلاب.
وكانت تلك هى الفترة التى شهدت كثيرا من الغرائب.
● منها مثلا أن الجهاد فى «أفغانستان» احتاج إلى ستة آلاف بغل، لأن البغال أشد تحملا لطلوع الجبال فى «أفغانستان»، وتكفَّل أحد رجال الأعمال من المحظوظين باستيراد البغال ــ ستة آلاف بغل من قبرص، وشحنها إلى «أفغانستان».
● ثم اكتشف أحدهم أن الشيخ «زايد» رئيس دولة الإمارات يريد أن يتخلص من الحمير فى الإمارات، فجمع ما كان منها فى بلده، وأرسله هدية إلى من يحتاجها فى الريف المصرى، لكن هدية الحمير وجدت من يحصل عليها، ثم يعيد بيعها لأفغانستان، ومع أنها لم تكن مطلوبة إلا أنها وصلت إلى الميدان، وكان يمكن استعمالها للنقل على الخطوط الخلفية للجهاد، وقد كان!!
وكان الجهاد ضد الإلحاد فى حاجة إلى الكثير، بصرف النظر عن البغال والحمير، وإذا فوران المنطقة يتحول فى مصر إلى سوق مفتوح لكل شىء، والمشترى موجود دائما، والمال وفير!!
ورغم أن العلاقات السياسية بين مصر وبقية الدول العربية كانت مقطوعة فى معظم تلك الفترة من آثار صلح منفرد بين مصر وإسرائيل، فإن تلك الفترة شهدت وراء الستار درجة من القُرب نادرة المثال، لأن الضرورات المباشرة للأطراف ــ وليست الأفكار والمشروعات القومية ــ أصبحت الإطار والوعاء والدافع والمحرك!!
●●●
وظهرت وتفاقمت فى مصر حالة فوضى شديدة بين السياسة والسلاح والمال، وبين القرار السياسى وفعل المخابرات، وبين سلطة الدين وسلاح السلطة، فقد كان الجهاد فى حاجة إلى «ضخ» الفتاوى، قدر حاجته إلى «شفط» المال!!
وكذلك راح الداخل المصرى يعيش أحوال سيولة خطرة، وفى خضم تلك الأحوال وجَّه «مبارك» ضربته القاضية إلى منافسه الأكبر داخل مصر، وهو المشير «أبو غزالة»، وقد وجهها وهو يعرف أن أرصدته فى الإقليم وفى مواقع القرار فى «واشنطن» أكبر من أرصدة منافسه، وكذلك ضرب مطمئنا إلى أنها مجازفة محدودة، سواء فى الداخل المصرى أو خارجه!! ــ فقد كان هو الطرف الأكثر تأثيرا فى الحرب بين العراق وإيران، خصوصا وأن ظروفها وملابساتها فتحت الطريق إلى عودة العلاقات بينها وبين بقية العالم العربى ــ رسميا ــ كما عادت واقعيا.
●●●
وفى وسط هذه المرحلة نشبت موقعة جديدة، فقد زارنى الأستاذ «إبراهيم سعدة» (رئيس تحرير «أخبار اليوم») وقتها، واقتراحه أن أكتب لـ«أخبار اليوم»، فلا يُعقل من وجهة نظره أن تظهر كتاباتى فى صحافة العالم كله، وتظل غائبة فى مصر.
وكانت دعوتى للكتابة فى مصر وقد شاع خبرها ــ أثارت ضيقا فى بعض أوساط الحكم، لكن الرئيس «مبارك» وقف ــ للحق ــ مُدافعا عن دعوتى للكتابة!!
وفى الواقع فإننى لم أكن واثقا من أننى ممنوع من الكتابة بالمعنى الحرفى للكلمة، فقد كان الأمر ملتبسا شأن غيره من الأمور فى ذلك الزمان، ولكن المؤكد فيه بالنسبة لى أننى لم أكن أريد دورا فى الصحافة المصرية، عن اعتقاد بأن حركة الزمن وتعاقب الأجيال قضية تستحق الاعتبار، وبرغم ذلك قبلت الدعوة!
●●●
واهتم يومها ــ كثيرون ــ بما سوف أكتب، وما سوف أقول، عندما أعود إلى الكتابة فى مصر بعد غياب.
ومر علىَّ الدكتور «أسامة الباز» (أيضا)، يسألنى عما أنوى الكتابة فيه، وتفضَّل واقترح أن يكون الموضوع الذى أبدأ به هو الحرب العراقية الإيرانية (وهو شاغل الناس فى تقديره وقتها)، ولم أعلق، لأنى كنت قد اخترت موضوعى بالفعل، ولم أشأ إحراجه بالحديث مُسبقا عنه، لأن اختيارى كان أن أكتب فى موضوع «صُنع القرار السياسى المصرى الآن»، وظنى أنه الموضوع الذى زاد إلحاحه وسط ما يجرى فى مصر والمنطقة من أحداث!!
●●●
وظهر المقال الأول، وفيه نقد من موقع الحرص على سلامة القرار السياسى المصرى أكثر من كونه معارضة رافضة، لكن الرأى لم يعجب «مبارك» وضايقه، وكان ذلك مقدرا فى حسابى، لكن ردة فعل «مبارك» كانت أبعد مما ظننت، وكان الذى نقل إلىَّ ذلك دون قصد هو المهندس «حسب الله الكفراوى»، الذى زارنى مساء يوم صدور مقال «أخبار اليوم» على غير موعد ليقول لى: «إنه كان فى صحبة الرئيس اليوم على طائرة إلى الغردقة، وأن مقالى كان مثار الأحاديث طول الرحلة، وأن الرئيس كان مكفهر الملامح معظم الوقت، وحين قلت لـ«الكفراوى» إننى نقدت من موضع ودّ، علا صوته يقول:
«أى ود، أنت وضعت الرئيس فى موضع التلميذ، و«قرمعت» أصابعه بسن المسطرة!!».
(وكان المهندس «حسب الله الكفراوى» حتى ذلك الوقت يُحسن الظن بـ «مبارك»، لكن الرجل بدأ يرى من موقعه ما دفعه فيما بعد إلى العصا الغليظة، وليس قرمعة الأصابع بالمسطرة فقط!!).
وفى أعقاب نشر المقالين الأول والثانى عن صنع القرار السياسى فى مصر، قامت قيامة السلطة بكل أدواتها، خصوصا فى الحزب الوطنى ــ وآثرت أن أختصر، وكان تقديرى أن أكتب فى «صنع القرار السياسى فى مصر» ثلاثة مقالات، واكتفيت بثانية كنت قد أرسلتها فعلا إلى الأستاذ «إبراهيم سعدة».
وفى الحقيقة فإننى لم أشأ إحراجه، خصوصا وقد عرفت أن أمامه فرصة لتولى رئاسة مجلس إدارة «أخبار اليوم».