طوال الفترة الأولى من رئاسة «مبارك» تفاوتت المواقف بشأنه لدى جماهير الشعب المصرى، وتباينت الآراء:
ــ فريق مازال واقفًا عند بقايا «حكاية البقرة التى تضحك»، ولا يكف عن إطلاق النكات حوله.
ــ وفريق ثانٍ يطلب من الرئيس الجديد فوق ما تحتمله الظروف، دون إدراك للمصاعب والقيود التى تعترض طريقه، حتى لقد وصل البعض فى هذا المجال إلى مطالبة «مبارك» بنقض «معاهدة السلام» مع إسرائيل، كى يعود إلى الصف العربى.
ــ وفريق ثالث قدَّر أن الظروف ــ بعد اغتيال الرئيس «السادات» وبعد موجات القلق المرتدة بعد صدمة الاغتيال ــ لا تسمح لأحد بترف التمسك بانطباعات مسبقة أو الإلحاح بمطالب عاجلة، لأن الرجل بالفعل يستحق فرصة مفتوحة.
ــ وفريق أخذته الحيرة، وكان موقفه الإمساك بالتداعيات لا تفلت ولا تتردى، ومقولته أن «اتركوا الرجل لنفسه، ولما يعرف، ولمن يعرف، وانتظروا!!».
وللأمانة فإن الأغلبية من الناس كانت على استعداد لأن تقبل بالرجل، وتنتظره، وتعطيه هذه الفرصة المفتوحة، وإن كان ذلك لم يمنع أن آخرين ظلوا يتوقعون أن يتصرف الرئيس، كما يجب فى رأيهم أن يتصرف.
●●●
والحقيقة أننى كنت ضمن الفريق الذى يرى أن الرجل يستحق فرصة، خصوصا أن حقائق الأشياء لها منطقها، ومع ذلك فإن الرجل بدا محيرا لى، وبين أسباب حيرتى ما كنت عرفته وإن ظل محجوبا عن دائرة العلم العام.
ــ كنت أعرف شيئا عن قضية «الخرطوم»، وسلة المانجو الملغمة التى أسهمت على نحو أو آخر فى اغتيال الإمام «الهادى المهدى».
ــ وكنت أذكر ما سمعت فى باريس عن النشاط الذى قام به «مبارك»، سواء فى إطار مجموعة «السفارى» فى أفريقيا، أو غير ذلك مما سمعت.
لكننى ــ وربما رغبة فى تهدئة قلق يساورنى من توجُّهاته، خصوصا بعدما سمعت منه بنفسى عن رؤيته للعلاقات مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل، حاولت أن أجعل شكوكى تميل إلى ناحية البراءة كما يقولون.
بمعنى أننى فى كل ما هو سياسى لم أضع على الرجل مسئولية قرار سابق على رئاسته، فالقرار لم يكن عنده وإنما عند غيره، ومن الصعب الطلب من كل مسئول فى الدولة ــ حتى على مستوى نائب الرئيس ــ أن يقف أمام كل قرار لا يوافق رأيه ويحوله إلى أزمة، خصوصا إذا كان هذا الرجل نفسه من خارج الدائرة السياسية أصلا ــ وإنما هو من داخل دائرة تلقى الأوامر وتنفيذها، مع الأخذ فى الاعتبار أن بعض المسائل السياسية فيها من قواعد النظر والتفكير ما يختلف عن مواد القانون، ذلك أن السياسة تقدير، فى حين أن القانون نصوص، ومع أن هناك باستمرار صلة لابد من وجودها بين التقديرات والنصوص، إلا أن هذه الصلة تحتفظ فى عوالم السياسة بمرونة أوسع فى تفسير وتأويل النصوص!
يُضاف إلى ذلك أنه فى النظر إلى تصرفات من نوع ما جرى فى «الخرطوم»، أو فى إطار مجموعة «السفارى»، فإن القضايا معقدة، وفيها ما يتعلق بمصلحة الدولة العليا Raison D’Etat، على حد قول الكاردينال «ريشيليو»، لأن المسئول عن القرار له معيار فى حسابه، فى حين أن المسئول عن تنفيذه له معيار آخر، وهذا المسئول عن التنفيذ لديه ما يدفع به أى اتهام، بقاعدة أنه نفذ أوامر صادرة إليه من سلطة أعلى، عليها هى ــ وليس القائم بالتنفيذ ــ حساب دواعى المصلحة العُليا فى القرار.
وأبسط مثال على ذلك أن البوليس لا يملك غير طاعة الأمر، إذا طلب منه إجراء معين فى طلب حفظ الأمن.
وكذلك الجيش حين يُقاتل بهدف النصر.
وقد أثيرت هذه القضايا جميعا، وعلى أوسع نطاق بعد الحرب العالمية الثانية بالذات، وتناقضت الآراء إزاء تصرفات متجاوزة (أو هكذا حسبها الآخرون)، لكن الذين قاموا بها، فعلوا ما فعلوا وهم تحت أوامر رؤسائهم، أى تحت ظروف قوة قاهرة تقتضيها مصلحة عامة قدرها مسئول سياسى، باعتبارها مطالب دولة ولا سبيل أمام المكلف بالتنفيذ غير أن ينفذ، وهذه على أية حال قضية يطول فيها الجدل ولا تفرغ الحجج.
وهكذا فيما يتعلق بـ«مبارك»، فقد كان ظنى أن صفحة حسابه السياسى تبدأ منذ انتخابه فى أكتوبر 1981، لأنه قبلها كان موظفا يطيع الأمر، حتى وإن كان بدرجة نائب لرئيس الجمهورية، وهو منصب سياسى.
●●●
وبرغم هذه المعايير التى تميل لصالح الشك، بمعنى أنها لا تحكم بمقتضى الظنون، ولا تفصل بالشُبهات، ولا تتعسف فى اختصاصات السلطة بين السياسى والتنفيذى، فإن «مبارك» كان «محيرا»!
فى بعض اللحظات تبدت منه تصرفات تلقى القبول، وفى لحظات أخرى تصرفات تلقى الرفض، وفى مرات أخرى تصرفات تلقى الاستغراب!!
● ومثلا فقد رأيته بنفسى على شاشات التليفزيون المصرى يزور أحد المصانع، ثم يتبسط مع أحد الواقفين أمام الآلات، يتحدث إليه ويسأله عن أجره، والرجل يراوغ فى الرد، ويزيد إلحاح الرئيس، والكاميرات مسلطة عليه وعلى الرجل الواقف أمام الميكروفونات، حتى اضطر الرجل الذى بلغ به الإحراج أشده، أن يقول للرئيس الجديد:
ــ «يا فندم، «أنا عنصر أمن، ولست عاملا هنا».
أى أنه ضابط بوليس دس وسط العمال أمام إحدى الآلات تشديدا مقصودا للأمن.
وهز «مبارك» رأسه وكان تعليقه: «آه»!
لم يقل غيرها وانصرف عن الرجل، ومع أن كل من رأوا المشهد علَّقوا عليه، فقد كان ردى على كل من سألوا: «ألا ينسوا أنه تصرف عفويا بحسن نية»، وفى الحقيقة فإنه كان يكفينى منه فى ذلك الوقت أن أراه يقوم بزيارات منتظمة لوحدات الإنتاج، ويظهر حرصا عليها، يدرأ عنها غارات المتربصين!!
مبارك في زيارته لأحد المصانع
● وفى مثال آخر لقيت الملك «حسين» ــ ملك الأردن ــ فى القاهرة، وكان قد جاء إليها بعد ما بدا من هدوء بعد عاصفة الاغتيال، ولم يدهشنى كثيرا أن الملك أشار بيده إلى سقف صالون القصر الذى ينزل فيه، ويقترح: دعنا نخرج إلى الحديقة نتمشى، فأنا لم أمارس أى رياضة هذا الصباح، وخرجنا، وكان الملك يريد أن يفضى إلىَّ بما لم يشأ أن يقوله داخل جدران القصر، ولم ينتظر طويلا عندما وصلنا إلى الهواء الطلق، وراح يتحدث عن «مبارك»، وخشيته: «أنه لا يعرف ما يكفى عن علاقات مصر العربية ولا تاريخها السابق أو الجديد، ولم يقرأ الملفات، وإذا كان قرأها فهو لم يستوعبها»، وأضاف الملك «حسين»: «إن الرجل لم يتغير منذ رآه لأول مرة وهو نائب للرئيس، يحمل إليه رسالة من «السادات».
الملك حسين
وراح الملك ونحن نمشى بين الأشجار يقلد الرئيس «مبارك» عندما جاءه أول مرة نائبا للرئيس، وبرسالة منه، ويقلده وهو يفتح حقيبته، ويستخرج ملفا منها، وطبقا لرواية الملك: «فإن «مبارك» عند بعض النقط لم يستطع شرح المقصود من الرسالة، واستوضحه الملك، ودقق نائب الرئيس المصرى فى أوراقه، وبدا عليه الارتباك، ثم قال: «لا أعرف، ولكن هذا هو المكتوب أمامى، وعندما أعود إلى القاهرة فسوف أسأل الرئيس «السادات» عن مقصده، وأرجوه أن يكتب إليكم»!!».
وعقَّب الملك «حسين»: أنه لم يستطع أن يفهم، هل محدثه نائب لرئيس الجمهورية، أو حامل حقيبة يلتزم بأوراق كتبها بخطه، ومع ذلك لا يستطيع شرحها؟!!
وكان ردى على الملك «حسين» بأن الرجل ــ أقصد «مبارك» ــ ورث أوضاعا معقدة، ومعظمها مشاكل عويصة وخطيرة، ومن الحق أن تُترك له الفرصة.
● ومثلا ــ وفى تلك الفترة أيضا ــ جاءنى السفير «جمال منصور» وكان وكيلا لوزارة الخارجية، وهو من الأصل واحد من الضباط الأحرار (وهو بالمناسبة خال رئيس الوزراء السابق الدكتور «عصام شرف»)، وكان لدى «جمال منصور» ما يريد أن يقوله عن الرئيس الجديد، لأنه لاحظ ــ ونحن سويا ضيوف عشاء ــ نبرة حسن نية تطلب إعطاء «مبارك» فرصة لتثبيت وضعه، وكان رأى «جمال منصور»: «أنه لا فائدة، ثم راح يروى أنه التقى «مبارك» لأول مرة عندما كان يشغل منصب نائب الرئيس، وقد كُلِّف من «السادات» بنقل رسالة إلى الماريشال «چوزيف بروز تيتو» (رئيس يوجوسلافيا)، وهو صديق قديم لمصر، وكان «جمال منصور» وقتها سفيرا لمصر فى «بلجراد»، وكان بالطبع فى صحبة نائب الرئيس عندما ذهب لمقابلة «تيتو»، وقضى نائب الرئيس والسفير مع الرئيس اليوجوسلافى قرابة ساعة، وخرجا بعدها، وكان أول ما قاله النائب للسفير حين دخلا معا إلى السيارة سؤاله: إذا كان يعرف من أين يأتى «تيتو» بأحذيته، فهو طول المقابلة لم يرفع نظره عن حذاء «تيتو»، ويراه «بديعا»، وهو يريد أن يعرف هل الرئيس اليوجوسلافى يشترى أحذيته جاهزة، أم أنها تفصيل؟، وكان طلبه من السفير أن يسأل من يعرف فى حاشية «تيتو»، مضيفا: «أن الأحذية «الحلوة» هى هوايته الرئيسية»!
تيتو خلال زيارته القاهرة بصحبة جمال عبد الناصر
وكان تعليق «جمال منصور» قوله: «لا فائدة!».
وكان ردى على السفير «جمال منصور» أن اعطوا الرجل الفرصة، وأن هموم الرئاسة لن تترك لديه وقتا للتطلع إلى أحذية من يقابلهم من الرؤساء، وكان بين ما قلت لـ«جمال منصور»: أن «مبارك» هو نموذج الرجل العادى، لا هو الزعيم التاريخى، ولا هو نجم الشباك، وربما أن هذا ما تحتاجه مصر فى فترة هدوء بعد عاصفة المنصة!
● ومثلا أضاف الأستاذ «فتحى رضوان» ــ وهو الزعيم الوطنى الصلب ــ إلى معارفى تلك الفترة قصة أخرى على نفس السياق، ولها مثل سابقتها صلة بالأحذية!
فقد اتصلوا به من رئاسة الجمهورية يبلغوه أن الرئيس «مبارك» يريد أن يراه ويتعرف عليه، وأنه حدد له موعدا فى استراحة «الدخيلة» كان ينزل فيها من أيام قيادته للطيران، وأن سيارة من الرئاسة سوف تجىء إلى بيته فى مصر الجديدة، وتقله إلى مطار «ألماظة» فى الساعة السابعة صباحا ليكون فى «الدخيلة» ولموعده مع الرئيس فى العاشرة، وتحمَّس «فتحى رضوان» للقاء، ولديه كثير يريد أن يقوله، وقد كتب بالفعل نقطا استغرقت خمس ورقات بخطه.
وجاءت السيارة ــ وطارت الطائرة، ووصل الأستاذ «فتحى رضوان» إلى مطار «الدخيلة»، وهناك قيل له إن موعده مع الرئيس تأخر ساعتين، لأن ضيفا أفريقيا كان يزور مصر سوف يجىء إليه، وأن هناك غرفة خُصصت له فى الاستراحة حتى يحين موعده، وقضى «فتحى رضوان» فى الغرفة قرابة خمس ساعات، واعتذر عن تناول غداء جاءوا به إليه فى الظهر، وبعد الظهر جاء إليه أحد الأمناء يخبره بأن الرئيس سوف يعود الآن من المطار إلى القاهرة مباشرة، وأنه فى الطائرة سوف يكون مع الأستاذ «فتحى رضوان» ولمدة ساعة على الأقل، وصعد «فتحى رضوان» إلى الطائرة الرئاسية، وجلس ولا أحد بجواره، لأن الرئيس كان فى الجزء الأمامى من الطائرة مع الضيف، على أنه بعد حوالى ربع ساعة من الطيران، قام «مبارك» عائدا إلى المقاعد الخلفية، وجلس على المقعد المجاور لـ«فتحى رضوان»، معتذرا عما وقع من خطأ، لأنه لم يتذكر موعده مع الرئيس الأفريقى، كما أن مكتبه لم يعرف كيف ينسق ما بين موعدين، وأراد فى دفع مظنة الإهمال أن يقول لـ«فتحى رضوان» إنه مازال نفس الرجل لم يغيره منصب الرئاسة، وإنه ــ مقاطعا حديثه ــ تصدَّق بالله يا «فتحى» بيه أنا لا أزال وأنا رئيس الجمهورية أمسح حذائى صباح كل يوم بنفسى، أجلس على الأرض، وأمسح الحذاء بالورنيش، ثم الفرشة، وبعدها قطيفة ألمعه بها.
وراح «فتحى رضوان» يشرح أن رئيس الدولة لا يصح له تضييع وقته فى مسح حذائه، وقال «مبارك»: «هذه من عوائدى كل يوم، حتى وأنا تلميذ فى ابتدائى، وحتى أصبحت قائدا للطيران، ونائبا لرئيس الجمهورية، والآن رئيسا لمصر، وقبل أن يقول «فتحى رضوان» شيئا، وجاء من يقول للرئيس إن الطائرة على وشك الهبوط فى مطار القاهرة، تذكر «مبارك» ضيفه الأفريقى، وأنه يجب أن يكون معه وقت النزول، فقام بعد أن قال لـ«فتحى رضوان» إنه سوف يطلب توصيله بالسيارة بعد الهبوط إلى بيت الرئيس حيث تكون الجلسة الحقيقية بين الرجلين، وهبطت الطائرة، ونزل الركاب، وكانت هناك سيارة فى انتظار «فتحى رضوان» لكنها لم تحمله إلى بيت الرئيس، وإنما إلى بيته هو!!
وكان «فتحى رضوان» وهو رجل جاد فيما يتصرف به، يقول مستفزا، وهو يروى لى ما حدث له ــ وسؤاله:
ــ هل يُعقل أن أضيع يوما كاملا فى السفر ذهابا وعودة نفس اليوم، ثم يكون لقائى معه خمس دقائق لم أستفد منها إلا أننى علمت أنه «يمسح جزمته بنفسه!!».
ورجوته أن يضع المسئولية على المكتب وليس على الرئيس، ولم يقتنع «فتحى رضوان»، ورحل بعدها عن الدنيا ولم يدع إلى مقابلة الرئيس، على الأقل للاعتذار له!
● ومثلا فى هذه الفترة جاءنى الكاتب الكبير والساخر الأكبر الأستاذ «محمود السعدنى»، وقد مرَّ على مكتبى دون موعد يقول «إنه لا يريد غير خمس دقائق وسوف ينصرف بعدها»، ودخل «محمود السعدنى» إلى مكتبى، وسحبنى من يدى إلى شرفة مكتبى يقول لى بصوت هامس:
ــ «مصيبة.. كنت عند الرئيس «مبارك» الآن».
وأبديت بالإشارة تساؤلا مؤداه، وأين المصيبة؟!
وراح «محمود السعدنى» يروى:
جلست مع الرئيس ساعة كاملة كلها ضحك ونكت، وعندما حان موعد انصرافى سألته مشيرا إلى المقعد الذى كان يجلس عليه:
ــ يا ريس.. ما هو شعورك وأنت تجلس على الكرسى الذى جلس عليه «رمسيس الثانى» و«صلاح الدين» و«محمد على» و«جمال عبدالناصر»؟!!
بماذا تظنه أجاب علىَّ؟!
ولم ينتظر «محمود السعدنى»، بل واصل روايته:
«نظر إلى الكرسى الذى كان يقعد عليه، والتفت إلىَّ وسألنى:
هل أعجبك الكرسى؟!
إذا كان أعجبك، فخذه معك».
ويخبط «محمود السعدنى» كفا بكف ويقول:
«وخرجت وطول الطريق لم أفق من الصدمة ــ الرجل لم يستطع أن يرى من الكرسى إلا أنه كرسى، لم يدرك المعنى الذى قصدت إليه».
وحاولت طمأنة «محمود السعدنى»، وأنا نفسى لا أشعر بالاطمئنان، وكان تعليقى:
ــ الحق عليك وليس عليه، لماذا تحدثه بالرمز؟! ــ لماذا تفترض أن رئيس الدولة يجب أن يكون عليما «بالمجاز» فى أدب اللغة؟!
وكان تعليق «السعدنى» لفظا واحدا لا يجوز نشره!
محمود السعدني
●●●
ومرت سنة 1984 والرئيس «مبارك» يدخل إلى سنته الثالثة فى رئاسة الدولة، وبرغم كل شىء فقد بدا رجلا يستطيع ــ على نحو ما أن يتأقلم ــ بما يبدد شكوكا كثيرة تصورت أن مرحلة حكمه مجرد تدبير مؤقت، والآن فقد ظهر أن الرجل خطا خطوة، من رجل جاء به تدبير سريع لمواجهة ظرف طارئ، إلى رجل يعبر مرحلة انتقالية، من عصر إلى عصر، وأدليت وقتها بحديث إلى مجلة لبنانية قلت فيها «إن حكم «مبارك» يبدو مرحلة انتقالية، لكن تجارب التاريخ تعلمنا أنه ليس هناك ما هو أقدر على طول البقاء من نظام يتصوره الناس انتقاليا مؤقتا، وبعث «مبارك» إلىَّ برسالة عتاب على اعتبارى لحكمه «مؤقتا»، لكن الغريب أنه لم يلتفت إلى الجزء الذى تحدثت فيه عن طول عمر «المؤقت»!!
وكان الرأى الغالب فى مصر وخارجها أن اختبار قوة وثبات النظام الجديد هو إدارة معركة انتخابات برلمانية حل موعدها، وتصور كثيرون أنها سوف تكون تحديا سياسيا «من نوع ما»، يواجهه الرئيس الجديد، وأن متابعتها سوف تكشف الكثير عن قدراته السياسية، ولم أتابع معركة انتخابات 1984 بنفسى أثناء جريانها، فقد كنت مشغولا عنها بالإعداد لمجموعة «حرب الثلاثين سنة»، وأولها «ملفات السويس»، وكان البحث عن الوثائق وفرزها وترتيبها فى سياقها شاقا، لكن عندما رفعت رأسى عما كان يستغرقنى، اكتشفت من نتائج الانتخابات أن «مبارك» قد واجه تحديه المنتظر بأسلوب لاشك أنه مبتكر، بصرف النظر عن أية «أحكام قيمة»، والغريب أنه كان أسلوبا شديد البساطة شديد التعقيد فى نفس اللحظة!
●●●
وفى الحقيقة فإن هذا الأسلوب كان تأسيسا لمدرسة مختلفة تسربت إلى السياسة المصرية، ومن حسن الحظ أنه كان أمامى مصدران للتعرف على مدرسة «مبارك» عندما تدخل إلى التطبيق العملى لسياساتها ــ أى فى الحركة عند التنفيذ!
● المصدر الأول: لقاء طويل على جلستين مع اللواء «حسن أبوباشا» (وزير الداخلية) وهو المسئول الذى أشرف على المعركة الانتخابية الأولى فى عهد «مبارك».
و«حسن أبوباشا» ضابط بوليس مصرى أمضى معظم تجربته العملية فى الأمن السياسى، وهو منضبط وملتزم، لكنه عند لحظة من اللحظات يفقد قدرته على الاحتمال ويحتج، سواء بمنطق الممكن أو بمنطق المستحيل!!
● والمصدر الثانى: مجموعة كراسات كان يكتبها اللواء «محمد تعلب» (مساعد وزير الداخلية إلى جوار «حسن أبوباشا»)، وهو ضابط من نوع آخر لديه حس إنسانى عام ووعى تاريخى يتخطى المألوف، وقد خطر للواء «تعلب» أن يسجل ــ وبعلم وزيره ــ نوعا من يوميات معركة الانتخابات لسنة 1984، وكذلك ملأ كراستين كاملتين بخطه بوقائع تلك المعركة.
وكان اللواء «حسن أبوباشا» حين سمعت منه ما سمعت عن معركة انتخابات سنة 1984 ــ قد ترك مقعد وزير الداخلية، وكان الرجل يشعر أنه ظُلم، وتحمَّل عن غيره ما يتردد قبل الإفصاح عنه، ومع تواصل الحديث خصوصا فى اللقاء الثانى، فإن الرجل بدأ يلين، وبدا أسلوب «مبارك» فى السيطرة على نتائج الانتخابات يبين، ليظهر أن الرئيس الجديد لديه أكثر بكثير مما يراه الآخرون على السطح.
حسن أبو باشا
●●●
وطبقا لرواية اللواء «حسن أبوباشا» (وما قاله تؤيده النصوص مما سجله اللواء «تعلب» من يوميات المعركة الانتخابية) ــ أن «مبارك» عقد مع وزير داخليته جلسة تمهيدية شرح له فيها ما يتصوره لانتخابات مجلس الشعب الجديد:
1ــ «الرئيس» يرى أن تكون الانتخابات ــ وهى الأولى فى عهده ــ مفتوحة لكل من يريد أن يترشح بـ«حريته»!
2 ــ و«الرئيس» بضرورات السلامة الوطنية كما يراها سوف يحدد نسبة مئوية لما يمكن أن تفوز به المعارضة من مقاعد مجلس الشعب، وذلك موضوع سوف يتفق عليه مع وزير الداخلية عندما تتضح «الصورة»، لأن أحوال البلد فى هذه الظروف لا تتحمل «اللعب» أو «المغامرة»!!
3 ــ و«الرئيس» لديه قائمة أسماء لا يريد لأصحابها أن يدخلوا المجلس الجديد مهما كانت الدواعى، وهو أيضا سوف يعطى قائمة هذه الأسماء لوزير الداخلية عندما يظهر على وجه اليقين من ترشح، ومن لم يترشح للبرلمان الجديد!!
كانت الصيغة غاية فى البساطة وتلك «عبقريتها»!!
باب مفتوح لمن يشاء ــ ونسب مئوية لأحزاب المعارضة، وهو يريد أن تكون لوزارة الداخلية مرونة فى «التصرف» كما تشاء فى الدوائر والأسماء، ولكن فى إطار النسب المئوية المقررة!! ــ ثم إنه سوف يعطى لوزير الداخلية قائمة بشخصيات غير مرغوب فيها، لا يُسمح لها بدخول المعركة أصلا، ولا دخول المجلس طبعا!! ــ وهذه الشخصيات مختلفة ومتنوعة، فيها أعضاء من الحزب الوطنى، وفيها أفراد من أحزاب المعارضة ــ وهذا كل شىء!
●●●
وفى رواية اللواء «حسن أبوباشا»، ومن «تقديره للظروف»، فإن قواعد اللعبة (كما سمعها من «مبارك») كان يمكن من الناحية العامة تبريرها، شرط توافر ما وصفه «أبوباشا» فى سياق كلامه بـ«درجة من المعقولية «توازن» النتائج ولكن لا تزيفها»، وفى رأيه أن ذلك كان مرهونا بالنسب التى يسمح بها الرئيس للمعارضة، وبمحدودية قائمة غير المرغوب فيهم والمحظور نجاحهم ودخولهم مجلس الشعب الجديد، لكن الصدمة وقعت حين جاءت مقابلة الحسم بين وزير الداخلية وبين رئيس الجمهورية.
ففى لقائهما التالى والسابق للانتخابات، سمع اللواء «حسن أبوباشا» من «مبارك» ما «أفزعه» حسب قوله:
1ــ أن «الرئيس» على استعداد لأن يترك للمعارضة 5% من المقاعد، أى حوالى عشرين مقعدا، لكل الأحزاب وقوى المعارضة مجتمعة.
2 ــ وأن قائمة غير المرغوب فيهم أكبر مما توقع، وكانت دهشته أن الاسم الأول فيها اسم شقيق الرئيس «مبارك» نفسه، وهو السيد «سامى مبارك».
وكان تشدُّدْ «الرئيس» حيال ترشيح شقيقه غير مفهوم، فقد وصل «مبارك» إلى حد القول «بأنه أمر بحذف اسم شقيقه من قائمة مرشحى الحزب الوطنى، ولكنه سمع أنه ذهب بعدها إلى حزب الوفد يطلب من الأستاذ «فؤاد سراج الدين» أن يرشحه عن حزب الوفد، وأن «فؤاد سراج الدين» قَبِلَ منه ما اقترح ــ «سامى» ــ عليه».
وزادت المفاجآت على وزير الداخلية لأن «مبارك» أوفد «أسامة الباز» إلى «فؤاد سراج الدين» حتى لا «يأخذ» شقيقه على قائمة الوفد، ولكنه لم ينجح، ثم طلب «مبارك» من وزير داخليته أن يتصل بنفسه مع «فؤاد سراج الدين»، وأن يبلغه ــ وباسم الرئيس ــ أنه لا يريد أن يدخل شقيقه إلى الانتخابات على قائمة مرشحى الوفد!».
ووعد «أبوباشا» بالاتصال بـ«فؤاد سراج الدين»، ثم انتقل بعد ذلك إلى الموضوع الأساسى، متصورا أن «الصيغة المباركية للانتخابات النيابية» قابلة للمناقشة، وكذلك عرض تعديلات تصورها أكثر ملاءمة.
ــ أولها: أن «يتفضل الرئيس بمراجعة النسبة التى سمح بها للمعارضة، وأن يرفعها من 5% إلى 20%، أى حوالى مائة مقعد، ورأيه أن ذلك لا يؤثر على أغلبية الثلثين فى المجلس، وهى النسبة التى تسمح بتعديل الدستور (إذا طرأ ما يقتضى)».
ــ والثانى: أن يختصر الرئيس قائمة الممنوعين من دخول المجلس، وأولهم السيد «سامى مبارك» شقيقه.
وقال «أبوباشا»: «ولكن (سيادة الرئيس) الداخلية قامت باستطلاع لموقف الأستاذ «سامى»، وتبين أنه قادر على النجاح «بالراحة» فى الدائرة التى رشح نفسه عنها».
ورد «مبارك»:
ــ مستحيل!
ثم قال الرئيس لوزير داخليته:
ــ «حسن».. أنت ضغطت على أعصابى بأكثر من اللازم، ولست الآن فى مزاج (استعمل الكلمة الإنجليزية Mood) يسمح لى بمواصلة الكلام معك، ثم نهض واقفا ينهى المقابلة ويخرج من الغرفة، ويترك وزير داخليته يبحث عن الباب للانصراف!
سامي مبارك
●●●
وفى دفاتر يوميات المعركة الانتخابية (كما سجَّلها اللواء «تعلب» مساعد الوزير بخط يده) ــ إشارات لهذه المقابلة بما فيها عبارة أن الرئيس ليس «فى مزاج Mood» يسمح له بمواصلة مناقشة العملية الانتخابية بأكثر مما قال وحدد!!
كانت معركة الرئيس «حسنى مبارك» ضد شقيقه «سامى مبارك» دالة فى كثير من تفاصيلها على طبائع يصعب تفسيرها.
فالرئيس لم يكتف فقط بإبلاغ وزير الداخلية أن شقيقه لا ينبغى أن ينجح فى الانتخابات مهما كان الثمن، وإنما أضاف إلى ذلك احتياطات بدت غريبة لوزير الداخلية، لأنه اتصل بوزير الحكم المحلى وأكَّد طلبه، بل واتصل مكتبه ببعض مديرى الأمن.
وسجَّل مساعد وزير الداخلية اللواء «محمد تعلب» فى دفتر يومياته عدة ملاحظات تثير الاستغراب:
ــ ملاحظة أولى: نقل فيها عن اللواء «حسن أبوباشا» وزير الداخلية «أن شدة الضغوط عليه جعلته يقول له بنص ما كتبه «تعرف يا تعلب، العلاج الوحيد للوضع ده أنى أموت!».
ــ ملاحظة ثانية: يكتب فيها مساعد وزير الداخلية بالنص: «لا أعرف السر فى إصراره (يقصد الرئيس) على عدم نجاح أخيه إلى هذا الحد، حتى بت أتصور أنه هو الذى يحقد على أخيه وليس العكس!».
ــ ملاحظة ثالثة: أن وزير الداخلية طلب مقابلة «مبارك» قبل الانتخابات بعدة أيام، والهدف أن يحدِّثه فى موضوع شقيقه (ضمن موضوعات أخرى)، لكن «مبارك» رفض وقال إنه ليس لديه المزاج لمقابلة وزير داخليته (ليس فى Mood يقابل فيها أحدا)، ولم تكن هذه هى المرة الأولى الذى يستعمل فيها «مبارك» هذا التعبير مع «حسن أبوباشا»، وبعد رجاء كان رد «مبارك»: «موعدنا بعد الانتخابات يا حسن»!!
(وبعد الانتخابات كان «موعدنا» هو الخروج من الوزارة!).
اللواء محمد تعلب
●●●
لكن دفاتر اللواء «تعلب» تسجل ما هو أغرب، وذلك أنه فى نهاية يوم الانتخابات تبين حصول السيد «سامى مبارك» ورغم ــ كل الجهود ــ على نسبة تزيد على سبعين فى المائة من الأصوات فى الدائرة التى رشَّح نفسه عنها!
وجاءت الأوامر من الرئيس شخصيا بأنه «أبدا»! ــ وأن كل شىء فى اللجنة العامة للفرز يجب أن يتوقف، حتى يصل إلى هناك مبعوث خاص للرئيس، وبالفعل وصل إلى مقر اللجنة الرئيسية مستشاره «أسامة الباز»، وطلب إعادة فرز الأصوات، و«التصرف» بكياسة لكى لا يغضب الرئيس، وكان المشهد مزعجا للجميع، وأعيد فرز الأوراق، بحضور أعضاء من اللجنة العامة، وظهرت النتائج ــ مرة أخرى ــ كاسحة لصالح «سامى»، وإلى درجة لا تنفع معها أية «كياسة»، لأن المشهد كان واضحا أمام كثيرين، والالتفاف حوله فضيحة يلزم تجنبها من أجل الرئيس نفسه!
وعاد «أسامة الباز» إلى الرئيس يهدئ خواطره إلى أنهم أمام Fait accompli أى أمر واقع، وطبقا لرواية وزير الداخلية فإن الرئيس «مبارك» لم يجد حلا، لكنه قال «إن «أبوباشا» سوف يدفع ثمن غلطته!!».
وكذلك خرج «حسن أبوباشا» من وزارة الداخلية!
●●●
وبعد شهور طلب السيد «سامى مبارك» مقابلتى، وحددت له بالفعل موعدا جاء فيه، وجلس أمامى فى مكتبى، وراح يحكى، ورأيت لفت نظره إلى أن غرفة مكتبى قد لا تكون مأمونة لما يقول، وكان رده: «أنه لا يبالى إذا سمع «حسنى» ما سوف يقوله لى، «لأنه» بعد ذلك سوف يترك البلد «له» ويسافر إلى ألمانيا».
واستطرد «سامى مبارك» إلى حديث طويل عن علاقات عائلية مزدحمة بالعقد الغائرة والتعقيدات الظاهرة، وكله معبأ بالمرارة، وكله فى ظنى مما لا يصح الخوض فيه.
لكنى لا أستطيع إنكار هواجس جديدة راحت تنضم إلى هواجس سابقة حاولت تنويمها!