ولد حسام الدين لؤلؤ في النصف الأول من القرن السادس الهجري، قائد شجاع ذو بديهة وحنكة .. تميز بسرعته في إتخاذ القرارات خاصة في المواقف الصعبة والتى تتطلب حزما وسرعة .. برز إسمه لامعا في إحدى المواقف الخطيرة في تاريخ هذه الأمة .. ومع هذا فقلما تجد من يذكر اسم هذا القائد الشجاع أو يذكر حتى الموقف الخطير نفسه ..
حسام الدين لؤلؤ من جند مصر في عصر الدولة الفاطمية، أعجب صلاح الدين بشجاعته، فأسند إليه قيادة الأسطول، وكان السلطان قد عنى بأمر الأسطول، وأفرد له ديواناً خاصاً، وعين للإنفاق عليه موارد ثابتة، فكان الاختيار موفقاً، لأن حسام الدين كان شجاعاً خبيراً بالبحر والقتال فيه، فسار النصر في ركابه، وصاحب خطاه النجح والتوفيق، وسجل له التاريخ معارك انتصر فيها على الفرنج عند ساحل الشام.
وكان صلاح الدين يرسل إليه كي يهاجم أسطول الفرنج حيناً، أو يحاول بينه وبين إيصال المدد إلى من بالشام من الصليبيين حيناً آخر، أو ليضطر جيشهم إلى الدفاع عن الساحل بينما صلاح الدين يهاجم جيوش الفرنج بالبر، فيلزم عدوه أن يقسم قوته، ويصد هجومين في وقت واحد معاً، وهكذا كان الأسطول وعلى رأسه لؤلؤ إحدى يدي صلاح الدين وجناح جيشه. واشتهر لؤلؤ في معركة عكا، وساهم فيها بالنصيب الأوفى، فعندما حاصرها العدو سنة 585 أرسل صلاح الدين في طلب الأسطول فقدمت منه خمسون قطعة على رأسها البطل البحري، فانقض على أسطول الصليبيين وبدده، وظفر ببطستين كبيرتين بما فيهما من الأموال والرجال والقلال، وقويت نفوس أهل المدينة بقدوم الأسطول واستظهروا برجاله على العدو، وكانوا زهاء عشرة آلاف، وظل الأسطول يكافح في المعركة، يحارب حيناً ويجلب المسيرة والإمداد حيناً آخر.
وكان مما خلد ذكر هذا القائد ما دار بينه وبين الصليبيين في البحر الأحمر سنة 578، ذلك أن صاحب الكرك، وهو من ألد أعداء المسلمين، وأشدهم نكاية فيهم، فكر في مهاجمة المسلمين في البحر الأحمر، ظناً منه أنهم غير مستعدين فيه، وتأديباً لحامية أبلة التي كانت تغير عليه، ولا سبيل له عليها، لأنها تقيم بقلعة في جزيرة وسط البحر، فبنى سفناً، ونقل أخشابها على الجمال إلى الساحل، وجمعها في أسرع وقت، وشحنها بالمحاربين وآلات القتال، وسارت السفن وقد اقترنت فرقتين: أقلت إحداهما على حصن أبلة تحصره وت أهله ورود الماء، فأصاب حاميته شدة وضيق، ومضت الثانية، وهي فرقة فدائية، إلى عيذاب فأحرقوا في البحر ستة عشر مركباً، وأخذوا في البر قافلة كبيرة كانت قادمة من قوص إلى عيذاب وقتلوا جميع أفرادها، واستولوا على مركبين كانا مقبلين بتجار من اليمن، وأحرقوا أطعمة كثيرة على الساحل كانت معدة ليرة مكة والمدينة، وأحدثوا حوادث شنيعة لم يسمع بمثلها في الإسلام، فقد فاجئوا الناس على حين غفلة فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجياً لا تاجراً ولا محارباً. وأرادت الحملة أن تقطع طريق الحج، فقد كانت الغزوة في شهر شوال سنة 578، وأن تمضي إلى المدينة المنورة لتنبش قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنقل جسده الشريف إلى بلادها، وتدفنه هناك، ولا تمكن المسلمين من زيارته إلا بجعل. فسارت الفرقة إلى بلاد الحجاز، وجاء الخبر إلى مصر، وبها الملك العادل نائباً عن أخيه صلاح الدين، فأمر قائد الأسطول وهو الحاجب لؤلؤ أن تبع هؤلاء الغزاة، فأخذ الأسطول وانقض على محاصري أبلة انقضاض العقاب وقاتلتهم فقتل بعضهم، وأسر الباقي.
ثم مضى إلى عيذاب وأخذ يتتبع مراكب العدو حتى عثر عليها بعد أيام، فأوقع بها، وأطلق المأسورين من التجار فيها، ورد عليهم ما أخذ منهم.
ورأى العدو قد أوغلوا في طريق المدينة حتى لم يبق بينهم وبينها إلا مسافة يوم، فمضى خلفهم على حيل أخذها من الأعراب وحاصرهم هناك في شعب لا ماء فيه، حتى استسلموا، فقتل أكثرهم وأرسل بعضهم إلى منى ليقتلوا بها عقوبة لمن رام إخافة حرم الله تعالى وحرم رسوله، وعاد بالباقين إلى مصر.
فكان لدخولهم يوم مشهود، وطيف بهم في القاهرة والإسكندرية، ورآهم ابن جبير بالإسكندرية وقد تجمع الناس حولهم، عندما أدخلوا البلد راكبين على الجمال، ووجوههم إلى أذنابها، وحولهم الطبول والأبواق.
وأرسل صلاح الدين إلى أخيه العادل يثني على أسير البحر ويغبطه، ويأمل بقتل أسراه، ويقول له على لسان القاضي الفاضل:. . . وقد غبطناه بأجر جهاده، ونجح اجتهاده، ركب السبيلين براً وبحراً، وامتطى السابقين مركباً وظهراً، وخطا فأوسع الخطو، وغزا فانجح الغزو، وحبذا العنان الذي في هذه الغزوة أطلق، والمال الذي في هذه الكرة أنفق؛ وهؤلاء الأسارى فقد ظهروا على عورة الإسلام وكشفوها، وتطرقوا بلاد القبلة وتطوفوها. . . ولابد من تطهير الأرض من أرجاسهم، والهواء من أنفاسهم، بحيث لا يعود منهم بخبر يدل على عورات المسلمين).
وأرسل صلاح الدين بنبأ هذا النصر إلى بغداد، وانتهى الأمر بقتل الأسرى، وتولى قتلهم الصوفية والفقهاء وأرباب الديانة.
خلدت هذه المعركة ذكرى بطلها، وأقبل الشعراء يشيدون بذكره ويمجدون جهاده، فأنشأ أبو الحسن بن الذروى أشعاراً كثيرة يمدحه بها، منها قوله يصف أسرى المعركة:
مر يوم من الزمان عجيب ... كاد يبدي فيه السرور الجماد
إذا أتى الحاجب الأجل بأسرى ... قرنتهم في طيها الأصفاد
بجمال كأنهن جبال ... وعلوج كأنهم أطواد
قلت بعد التفكير لما تبدى ... هكذا هكذا يكون الجهاد
حبذا لؤلؤ يصيد الأعادي ... وسواه من اللآلئ يصاد
وقوله يصف هذا الجهاد:
يا حاجب المجد الذي ماله ... ليس عليه في الندى حجبه
ومن دعوه لؤلؤاً عندما....صحت من البحر له نسبه
لله ما تعمل من صالح ... فيه وما تظهر من حسبه
كفيت أهل الحرمين العدا ... وذدت عن أحمد والكعبه
كما قال فيه الرضي بن أبي حصينة المصري يخاطب الفرنج:
عدوكم لؤلؤ والبحر مسكنه ... والدر في البحر لا يخشى من الغير
فأمر حسامك أن يحظى بنحرهم ... فالدر مذ كان منسوب إلى النحر
ويظهر أن صلاح الدين والعادل قد أغرقا العطاء على القائد المقدام فأثرى ثراء ضخماً.
غير أنه لم يشأ أن يستأثر وحده بهذا الثراء، فإنه بعد أن زوج بناته، وكن أربعاً وجهزهن بجهاز كاف، وأعطى ابنيه ما يكفيهما، شرع يتصدق بما يبقى معه على الفقراء، قال العماد الكاتب: ومن دلائل سماحه ما شاهدته بالقاهرة، في سنة إحدى وتسعين من مبراته الظاهرة، إنه لما حط القحط رحله). . . وتم الغلا، وعم البلاد، ابتكر هذا الحاجب الكبير مكرمة لم يسبق إليها، وبذلك أنه كان يخبز كل ليلة أثنى عشر ألف رغيف، فإذا أصبح جلس على باب الموضع الذي فيه حشر الفقراء. . . فما يزال قاعداً حتى يفرق الألوف على الألوف. وكان هذا دأبه في هذا الغلاء، حتى هب رخاء الرخاء، فحينئذ تنوعت صدقاته، واستغرقت بالصلاة أوقاته؛ وكان بهي الشيب، نقي الحبيب، قد جعل الله البركة في عمره، وخصه مدة حياته بإمرار أمره، فأنجده في أوان ضعفه بتضعيف بره). وكان هذا الكرم مثار إعجاب الشعراء كذلك فمدحه ابن الذروى بقوله:
لئن كنت من ذا البحر يا لؤلؤ العلا ... نتجت، فإن الجود فيك وفيه
وإن لم تكن منه لأجل مذاقه ... فإنك من بحر السماح أخيه
وفي اليوم التاسع من جمادى الآخرة سنة 596 وارت مصر التراب بطلاً من أبطالها، وقائداً من أبرع قوادها، قال عنه العماد وهو يؤرخ وفاته:
كان في الأيام الصلاحية أشجع الشجعان، وأفرس الفرسان، وله مقامات في الغزاة، ومواقف مع العداة.
د. صالح العطوان الحيالي
نشرت فى 16 يوليو 2018
بواسطة jousryeleow
بستان الإبداع العربي
مجلة تهتم بالأدب العربي ورعاية المواهب »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
171,478