د.ايمان مهران

أعمال تهتم بالإبداع والمبدع والتواصل الإنساني عن طريق الفن

<!--<!--<!--<!--

تقديم

هناك ثقافة عامة للإنسانية إجتمعت عليها الشعوب ، تشكلت مع تراكم الخبرات التي مر بها الإنسان ، وهناك ثقافة خاصة تمس كل شعب أو مجتمع بعينه وتمنحه خصوصيته ، فلكل شعب  ملامحه التي تركن إلى خصائص عديدة تراكمت وأصبحت جزء منه لا تتبدل بل هى فى حالة مرونة تمنحها التجدد والإستمرار، وداخل هذا خلفية ترتبط بالتقاليد والأعراف والمعتقدات والممارسات التي تعبر عنها الفنون المختلفة للإنسان ، لتجىء ومعها الرموز والدلالات التي تعكسها المفردات والجمل والتعابير الفنية المختلفة.

عُرف التاريخ الإنساني بعد قراءة آثار الحضارات المختلفة ، من خلال التشكيل المادي للخامات البيئية المحيطة بالإنسان ،  سواء كانت تلك الآثار معمار أو مخطوطات أو أدوات وغيرها من آثار حياة الإنسان،  وكلها تعكس طرز هي جزء من ثقافة تمس الشعوب منتجة تلك الحضارات ، ولها أساليب فنية تميز فترة بعينها. فالإرث الحضاري الذي يتركه الإنسان عبر تاريخه جزء من تاريخ تلك الشعوب ، فالعمارة والنحت والتصوير الجدارى والفخار والنسيج وأشغال الخشب والمعادن والحلي والخزف وأدوات الزينة والنعال وأغطية الرأس والوجه والزجاج ومنتجات  الأحجار والملابس، كلها نتاج خلفية ثقافية بعينها .

ولقد مرت الحرف فى أوطانها بمحكات جعلتها تلتزم بنسقها الخاص والمميز لها ، وهو ما جعلها جزء من هذه الأمم. ولقد إرتبطت تلك الفنون بالتقنيات الحرفية التى جعلتها تستمر وتنمو وتصل لما وصلت له اليوم من تقدم .

 

وفى الأسطر التالية سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة :

_ ما هى الهوية ؟ وما مدى ارتباطها بالشخصية القومية للأمم؟

_ ما علاقة الحرف التقليدية بالهوية ؟

_ ما الدور التى تلعبه الحرف فى الحفاظ على هوية الأمم؟

_كيف يمكن الإعتماد على تنمية الحرف بهدف الحفاظ على الهوية؟

 

الهوية

       الهوية هي ملامح الشىء التى تبنى عليها خصوصيته وتميزه و تفرده ، و هي مجموع العلاقات المتبادلة بين شىء ما و الأشياء الأُخرى المتفاعلة معه ، ومدى علاقتها بعضها ببعض . وترى الباحثة أن الهوية  تعكس الإنتماء وهى  أنواع مختلفة فهناك:

·        الهوية الدينية: وهو الإنتماء لدين أو لمذهب أو لطائفة أو لمعتقد بعينه .

·   الهوية الإجتماعية: وهو الإنتماء لمجتمع أو لعشيرة ما ، بما تحمله من عادات ومفاهيم وما هو مسموح ومرفوض بها،  وهنا يخضع الفرد للجماعة .

·   الهوية القومية: وهو إنتماء الفرد لثقافة أرض ما، أومنطقة بعينها أووطن بتوجهاته المختلفة وخصوصيته التى فرضها عليه تاريخه فأعطت له ملامح تمس قوميته .

·        الهوية الإقتصادية: وهو الإنتماء الاقتصادي سواء على مستوي الفرد أو المجتمع .

·   الهوية المكانية : وهي الإنتماء الموجود بسبب وحدة المكان بمجموع العوامل الجغرافية والسكانية المميزة له ، وهنا ترتبط الهوية بالعوامل المكانية .

 

أعمدة الهوية:

       إن اللغة والمعتقد والمكان من أخطر عوامل الربط والتفكيك في الهوية التى تميز منطقة عن أخرى ، وتنعكس على الفرد فى كل أركان الحياة ، فقد تتفتت الإنتماءات مع تبدد الوحدة اللغوية فيصعب وجود لغة حوار مشتركة ، كما ستختلف حتماً المحظورات والمتاح من أمور عديدة في حالة إختلاف الهوية العقائدية ، والتى ترسم الحياة الإجتماعية ، كما أن وجود حدود بين أجزاء المكان الواحد سيخلق إختلافات قد تبتعد عن مفهوم الهوية المشتركة.

       وأحياناً تختلف الأفراد فى الديانة واللغة ولكنهم يتفقوا فى هوية وطنية واحدة ، فبين أبناء الوطن الواحد تتحطم كل الإختلافات على صخرة الإنتماء للوطن ، وهناك أمثلة عديدة أبرزها دولة الهند ، حيث تحتوى  على عشرات اللغات والأديان ، ولكنها تحتفظ بهويتها نظراً لوحدة تاريخ هذا الشعب ، و لقوة الجذور المشتركة بين أفراد الوطن الواحد، وهو ما يؤكد أن عمق الثقافة وتوحدها قد تخفى الإختلافات ويحد من توسيع الهوة بين المجاميع المختلفة في الأديان مقابل الإشتراك في الثقافة.

         فعندما يلتقي التاريخ والجغرافيا مع الناس فإنهم قطعاً سيرتبطون بهوية واحدة. فالهوية تمثل رابطا مشتركاً بين الجماعات ، وهي بذلك تعكس الموروث الذى يجمع الناس على نقاط الإلتقاء سواء اللغة أوالمعتقد أو شكل الحياة.

        وهذا الإلتقاء بين الجماعات ، والذي يعد بمثابة الشعور الجمعي هو إنعكاس للتاريخ المشترك والجغرافيا الواحدة والمؤثرات المشتركة التي تجمعهم.

        و كل هذه العوامل تحدث تجانس وتقارب في كثير من الملامح العامة لتلك الجماعة لتصبح لهم هويتهم المتفقة على أشياء عديدة ، والتي بالضرورة تعبر عن هويتهم.

        والعكس نجده في إسرائيل فهي دولة أقيمت على أساس الهوية الدينية ، بينما قد يحدث صراع بين الهوية الدينية والهوية الوطنية كوضع لبنان أبان الحرب الأهلية اللبنانية.

       ووضع العراق الآن يشبه فترة مخاض الأم فقد تنجح جهات لها مصالح في ذبذبة الهوية الوطنية لحساب الهوية الدينية من خلال اللعب على العوامل المشتركة بين الجماعات داخل الأرض الواحدة للدخول تحت مظلة هوية أخري ليست بالضرورة تكون في مصلحة الوطن ككل ، فالتحكم في الهوية جزء من توجيه وجدان الشعوب ومصائرها ..

 

ارتباط الهوية بالشخصية القومية للأمم

        و تمثل الهوية عند الشعوب شخصية الأُمة التى تميزها عن باقى الأمم، وهى جزء من الشخصية القومية للأمة.

      يطلق تعبير (الشخصية القومية) على الدراسات الأنثربولوجية التي تهدف إلي تحليل وتفسير المقومات الرئيسية التي تميز شعباً من الشعوب في ذاته ، وقد إزدهر هذا في أمريكا إبان الحرب العالمية الثانية نتيجة للرغبة في فهم الخصائص العامة المميزة للشعوب المتحاربة من كلا الطرفين، وكانت أهم دراسة أجريت في هذا المضمار أثناء الحرب هي الدراسة التي قامت بها روث بنديكت نفسها على اليابان، والتي ضمنتها كتاباً طريفاً آخر لها بعنوان (الكريزانتيم والسيف) وفيه عرضت لتراكيب وبناء الثقافة اليابانية وللمزاج وللروح اليابانية ، وطابعهم الخاص الذي يجمع بين الحب والقسوة من ناحية (السيف والرقة وحب الجمال والروح الفنية الراقية التي تتمثل في الإهتمام بالزهور وتنسيقها من الناحية الأخري) ، وقد استخدم تعتبر (دراسة الثقافة عن بعد) للإشارة إلي هذه البحوث والدراسات التي كان يقوم بها الأنثروبولوجين معتمدين على كتابات غيرهم وعلى الوثائق الشهادات. ([1])

          أما الطابع القومي فقد أكد جفري جوروG.GORER    أنه لو نظرنا لفكرة الطابع القومي من بعض جوانبها وجدناها قديمة قدم التاريخ بل ربما قدم المجتمع الإنساني، فمنذ هيرودوت والرحالة الصينيين القدماء، إعتاد كل كاتب يعرض لوصف مجتمعات غير مجتمعه أن يوصف الخصائص المميزة لأعضائها مستخدماً في ذلك مجموعة من الصفات العامة مثل شجاع وصادق وغادر وبخيل ومتقلب وغيرها.

       ولقد أشارمصطفى سويف إلى أن مفهوم الشخصية القومية يستند فى قيامه إلى وجود حد أدنى من التشابه فى عمليات التكيف الأساسية التى تتم لدى أبناء القومية الواحدة نتيجة لتوفر درجة من التشابه فى الشروط البيئية التى تتضاءل أحياناً وتتضخم أحياناً أخرى، تبعا ًلعدة عوامل إجتماعية وإقتصادية وسياسية وجغرافية وسيكولوجية، وبالتالى يتضاءل ذلك القدر من التشابه فى عمليات التكيف المترتب عليها .([2])

علاقة الحرف التقليدية بالهوية

        تسعى الأمم جاهدة لتحافظ على هويتها ، وهو ما يستدعى رعاية كل ما يميز ثقافتها وشكل حياتها المميز ، كما تسعى لدعم أشكال الإبداع المختلفة لتلك الثقافة ، سواء لفظى من خلال الحفاظ على اللغة  التى تحمل الموروث الشفاهى لتلك الأمة ، أو مادى وهو الجزء الملموس الذى تدركه العين وتنتجه اليد المبدعة فى تلك الأمة. ولأن الحياة وطريقة التعامل مع معطياتها تعتمد على كم تراكم الخبرات الإنسانية واستيعاب ابن هذه الثقافة لها ، فهي تؤثر بشكل مباشر على الإبداع الفنى .

      إن الهوية تحمل ملامح الأرض والناس والإختلاف والإتفاق على عديد من النقاط وبالتالي فإن قراءة الهوية في المنتج الثقافي من خلال الشكل والرمز الذي يحمله تجعلك تقرأ التاريخ الموروث الماضي والآتي معا. فهو يعد قراءة صادقة لما أتفق عليه الناس وما وجدوا فيه هوي لديهم واختضنوه ولم يتخلوا عنه ليصبح علامة لهم.

     إن الألفة مع العلامات والرموز وحجم الائتماء بين الناس ومنتجاتهم هو قراءة لحجم الإنتماء والإلتفاف حول ثقافة تلك الأمة.

        وتمثل الحرف التقليدية الموروثة مجموع الخبرات التي ورثها الحرفيين عن آباءهم ، وتعتمد على الإلمام بتقنيات يدوية وتشكيلات متميزة ، فرضتها الخامة وثقافة الحرفة فى كل مجتمع. وهذه التشكيلات المصنوعة من خامات البيئية والمعالجة بطريقة يدوية ، تحمل علامات و رموز هي رواسب لأزمان كانت فيها تلك العلامات محور رئيسي في أعراف أو معتقدات أو ممارسات مجتمع ما. ليصبح لهذه الرموز دلالته المقروءة  ووظيفته التي إستطاع الحرفي حينها جذب عواطف المشاهد لها، وأيضا إيجاد وظيفة جمالية لهذه الرموز ، ليصبح هنا الجمال نفعي بالإضافة لوظيفة المنتج الأساسية كمنتج له وظيفة نفعية .

    وطمس الهوية مرتبط بإخفاء معالم الثقافة التي تمس التميز الذي يحيط بثقافة عن أخرى، فالهوية هي التي تمد بالمفاهيم التي تعطي لكل ثقافة القيم الخاصة بها، وهي الشخصية القومية التي بدونها تذوب خصوصيات الأمم..

   وفي الفنون التقليدية المرتبطة بالحرف اليدوية نستعرض بعض ملامح التهويد والتي ذكر فيها د. عبدالغني الشال أن الفتاة الفلسطينية كانت تتعلم التطريز وهي في سن السابعة وحتى زواجها، وهي صناعة ازدهرت لاستخداماتها المتعددة في المواسم والأعياد والحفلات حتى في العالم الغربي ، وكانت للمواسم الحج المسيحية والإسلامية للأراضي المقدسة والتبادل التجاري أثره في انتشار تلك الطرز، ولكن عانت هذه الفتاة التى تعمل فى التطريز من محاولة استبدال المفردات (الفلسطينية)المرسومة المطرزة بأخرى، فالأولى هي نتاج حضاري للقدس الشرقية العتيقة والمفردات الأخرى بعيدة عن ملامح رموز تلك المنطقة . ([3])

  وللأسف تظهر الشخصيات العامة من نساء الدولة الإسرائيلية وهن مرتديات الأزياء الفلسطينية ، كما ظهرت فى السابق زوجة موشى ديان ترتدي زياً فلسطينيا فى إحتفالية رسمية ً، وهو يدعم رؤية لإظهار تراث يهودى في أرض فلسطين.

   لقد حاول اليهود اقتناء المشغولات القديمة حتى تندثر ، ويعرضوها على أنها من إنتاج اليهود وعمدوا أيضاً إلى إدخال مفردات  جديدة حيث تمثل هذه الوحدات ( رموزاً بعيدة ) عن بيئاتهم وأحاسيسهم، فقد عرض اليهود المنتجات (الفلسطينية كجزء من موروث اليهود).. كما ألفوا كتباً لهذه الكنوز التي نسبوها لأنفسهم وهذا ضمن مخطط رهيب لتصفية التراث والجذور وتعرية الشعب الفلسطيني من أرضه .([4])

 

الدور التى تلعبه الحرف فى الحفاظ على هوية الأمم

         تمثل الحرف الصناعات المرتبطة بحياة الإنسان وإبداعاته وشكل تفاعله مع البيئة ، وهى مجموع الإنتاج المادى للثقافة التى ينتجها هذا التفاعل  ، وهى تنتج بهدف النفع وإشباع الوجدان والطواف حول المفاهيم العقائدية والنفسية ، كما ترتبط بالخامات التى توفرها تلك  الييئة ، و بتقنيات موروثة وكم من المهارات المكتسبة والتي تنمى تبعاً لتطورالمنتج والفروق الفردية بين المجتمعات بعضها ببعض ، كما تؤثر الفروق بين الحرفيين وقدراتهم الإبداعية.

ولأن التاريخ الإنساني هو قراءة للتشكيل المادى الموروث من الحضارات المختلفة في هيئة آثار تركها الأجداد سواء كانت مخطوطات أو أبنية أو منتجات تقليدية أو أدوات الإستخدام اليومية ، فإن الحرف اليدوية تعكس طرز هي جزء من ثقافة ومعتقدات وممارسات الشعوب منتجة تلك الحضارة ولكل منها أساليبه الفنية المتميزة .

          وتدل نشأة الفن مع الإنسان منذ بدأت الحياة ،  كما يدل تطور المضامين والأساليب الفنية على أن الفن كان وما يزال جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الإنسان وثقافته وتراثه، ومن هنا كانت إنسانية الفن، وكان طابعه العام المشترك، وكانت خصائصه التي هيأت لآثاره، على اختلاف الأزمان والأوطان التي ظهرت فيها .. ان تتجاوب دائماً وأبداً مع النفس الإنسانية، فالفن لغة عالمية. ([5])

و في مصر تعد الحرف التقليدية إنعكاساً لكل العصور والحضارات التي نشأت على ضفتي النهر ، لنجد الرموز والأشكال هي خلاصة كل مكان استقرت فيه معرفة ..

 لقد حمل الفنان الشعبي في نفسه القدرة على الحذف والإضافة ليخرج بشكل فني متوازن ومختلف يخدم المرحلة التي يعيشها، وهو يحمل في كل جزء من أجزاءه وفي كل شكل من أشكاله دلالات تعود لفترة ما وحضارة ما ، لتعني كل قطعة شعبية حكاية حافظت عليها تلك القطعة.

إن الإنسان حامل الثقافة  و يحمل موروثه تقليدي ويكتسب عاداته وتقاليده من مجتمعه ، لذا ظل المجتمع هو المشكل الأساسي لأي فنون حسب حاجاته وحسب ما تؤديه له من وظيفة وما تقضيه له من حاجة .

أن الواقع الاجتماعي لمجتمع ما ، هو الحيز الذي يجمع الفكرة التي تنشأ على أساسها الحاجة للتشكيل الشعبي، فالعمارة الشعبية والملابس وكل الفنون التشكيلية الشعبية تخضع لواقع اجتماعي وعادة تمارس من خلالها إن لم تخدمه فلا يوجد حاجة بها..

إن السمة الشعبية للفنون الشعبية تعتمد اعتمادا كلياً على المشاركة بين الفنان والمجتمع وتلك العلاقة هي التي تربط الفردية المبدعة بالذوق العام، وهذه العلاقة ذاتها هي التي قادت الفنان إلى أن يعبر عن نفسه بمصطلحات مجتمعه ، والفنان الشعبي هو الذي يجعل لأفكاره التي هي أفكار جماعته حضوراً بينهم ، حيث يكون أكثر ما يتميز به الفنان الشعبي هو عاطفته التي تقوده إلى الانفعال، وإن الإيقاع الذي يسعي له الفنان الشعبي في أعماله يتسم بسمة سيكولوجية فلا هو قائم على الرياضة ولا على الهندسة ولكن يعتمد على الطبيعية الإيقاعية لكل الأفعال الإنسانية. ([6])

         وهناك تأثير للأبعاد الاجتماعية على صياغة الوحدة التشكيلية صياغة تقف مع الظاهرة الشعبية في مدلولها وقيمها الإنسانية، فهي بدون الأبعاد الإجتماعية ليس لها أي خصوصية، وضرب من الإنتاج الحرفي فحسب. ([7])

        إن الفن الشعبي التشكيلي يعبر أكثر ما يعبر عن قضايا حيوية واحتياجات المجتمع وغاية مقاصده بطريقة سهلة وبسيطة يكشف فيها عن هدف يتجه إلى تحقيقه ومعني بارز يريد صياغته ولفت الأنظار إليه من خلال خصائصه ورموزه وبسيه المتفرد والمتميز بمعالجة أمينة لا أفتعال فيها ،  فهي ترتكز على روح الفنان ومنهجه ومبادءه ومثله، وقوالبه الفنية المستقلة ومعطياته النوعية وأسلوبه الذي يهدف من ورائه إلى تماسك العمل وتكامله . ([8])

تنمية الحرف وعلاقتها بالهوية

       يؤكد سعد الخادم على أن قوى الإستعمار قد تآزرت على تجريد هذا الوطن من إحدى ثرواته التى لا تعوض وذلك بقصد الإفادة منها فى صناعاتها وحرفها الناهضة، وفي الوقت نفسه تحرم البلاد المسلوبة قيام نهضة صناعية أو فنية معتمدة على مقومات تراثها القديم ولا سيما تراثها العربي . ([9])

      وبذا تحتاج الحرف والصناعات اليدوية لتنمية مستمرة ، حيث أن التطور السريع يزيحها جانباً ليتقدم المنتج المميكن ، ومن هنا بدأت مشكلة التوارى للفنون اليدوية والتى تمثل تاريخ الصناعة والتى بدأت يدوية لآلاف السنين ، ولم تدخل لعصر الآلة إلا فى العصر الحديث.

 إن التنمية تهدف لرفع قدرات المستهدف من التنمية وهي من أجل الفرد ، وهي تستهدف الإستفادة من كل المعطيات للإتيان بأفضل النتائج .

 ونجاح التنمية يستند لأساليب تعتمد على صدق العمل وأمانته، و تنمية الموروث تعتمد على الجمع الميداني للظواهر والملامح الحياتية الموروثة ثم التفكير في سبل تنمية هذه المظاهر والمحافظة على الإرث التقليدي فيها بشكل ديناميكي غير مباشر..

    وكما أكدنا فإنه في مجال الحرف التقليدية يكون الشكل النفعى المنتج بإسلوب تقليدى ينشأ في الأساس لحاجة الناس إليه، وهو يعني استجابة بين المقتني للشكل والشكل ذاته، والذي لابد أنه يمثل له أهمية ، وكلما قربنا له مداخل للإستجابة من خلال جماليات في الشكل ترتبط بالدلالات النفسية التي تحملها علامات على الشكل وتنقلها لمقتنى العمل اليدوي ، فإن إستجابته تكون للشكل أقرب، ولذا كان الفنان الشعبي دائماً ما يحاول جذب مقتني الشكل بكافة الأشكال كي يضمن تميز منتجه الحرفي بهدف تسويقه ، ولتصبح هناك دوافع للإقتناء ترتبط بحجم التأثر النفسي للمقتني عند رؤيته للشكل الذي سيقتنيه.

وقد أكد الكثير من الباحثين على أهمية خطط لتنمية الحرف التقليدية ، حيث أكد السيد فرج فى دراسته عن التنمية الثقافية للقرية المصرية أنه يجب وضع خطط لمشروعات إحياء ودعم الحرف البيئية بتشجيع القائمين بها ومحاولة بثها فى الأطفال حتى نستبقى إستمرار هذه الصناعات الفنية الباهرة.([10])

      وتعد التنمية لتلك الحرف وسيلة للحفاظ على ركن من هوية المكان وشخصيته، حيث تمثل الحرف بوتقة تذوب داخلها وتتفاعل الخبرات الموروثة والقدرات الإبداعية للفنان الشعبى ، وهي تعكس مدى الإستفادة من المعطيات البيئية للمكان التى نشأت فيه تلك الثقافة ، ومن هنا كانت أهمية تبن الحرف التراثية والخروج بها إلى مراحل أكثر إستقراراً لتستطيع المقاومة والبقاء فى ظل الميكنة والحداثة وقوانين العولمة الإقتصادية .

      حيث بدأت تنمية الحرف التقليدية منذ إنشاء (الجامعة الشعبية) بقرار من عبد الرازق السنهورى (وزير المعارف حينذاك) عام 1945  ، ثم ( مؤسسة الثقافة الشعبية) بمرسوم ملكي صدر عام 1948 ، حيث تضمنت برامج تلك المؤسسة تعليم عدد من الحرف والصناعات والأشغال الفنية ، لتأهيل الحرفيين ومعاونتهم على الترقى فى صنعتهم ([11]).

      لتتوالى تجارب المؤسسات الرسمية والأهلية بعد قيان ثورة يوليو عام 1952.

      ومن تلك التجارب تجربة فن بلادنا والتي بدأت بمجموعة من الأفلام التسجيلية (عشرة أفلام) عن الحرف اليدوية للمخرج الرائد سعد نديم والتى قام بإخراجها للتليفزيون المصري عام 1960 لتتضمن عرض لحرف خان الخليلي ، وقد شاركه في إعداد سيناريو هذه الأفلام أسعد نديم (رائد الفلكلور التطبيقى) الشقيق الأصغر للمخرج ، والذى تكشف له من جمع تفاصيل الحرف لتلك الأفلام  أهمية إنقاذ الحرف من الإندثار،  فكانت تجربته في تنمية فن النجارة العربي ، والتى أصبحت علامة فى تاريخ تنمية الحرف اليدوية ، حيث كانت نظرته للحرف والتى إعتمدت على المرونة والتغير المستمر ، ووضع المادة الميدانية الحرفية المجموعة في خدمة أصحابها الذين جمعت منهم، لتبدأ فكرة تنمية النجارة العربى ولتستقر المهنة المندثرة، وتزدهر ويصبح لمصر أكثر من 500 حرفى فى النجارة العربى.

      وبالطبع فإن هناك جهود لمراكز الحرف الحكومية ولكنها تخضع للوائح تجعل التعامل مع المنتج الحرفى والحرفيين أمر يخضع للوائح عقيمة، وهو ما جعل من تجربة معهد فن بلادنا تجربة رائدة لعمل الباحثين فى مجال تنمية الحرف .

      والتى بدأت بحلم سينمائى لتمد هذه التجربة تجارب عديدة كتجربة الواحات التى قام بها د. حامد الموصلى حيث نجح فى إقامة تنمية حرفية معتمدة على النخيل وقد إستعان بخبرة فن بلادنا ، والتى أنتجت من جريد النخل أشكال عديدة معتمدة على الخرط العربي.

     وأحدث التجارب هي تجربة فن التللى فى سوهاج ، وهو فن إزدهر بأسيوط وإرتبط بزى المرأة الأسيوطية ، وقد إندثر قبل منتصف القرن العشرين ،  ولكنه عاد مع بداية الستينات من خلال جمعية السجاد والكليم الأسيوطي حيث تبنى مؤسسها عدلى القاضى جمع العجائز وتعليم فتيات مدينة أسيوط تقنيات التللى ، ليبدأ أنتاجه فى أشكال أكثر حداثة ، وعاد ليندثر بعد وفاة عدلى القاضى ، ثم قام الفنان سعد زغلول عام 1978 بتأسيس مشروع يعتمد على التللى وقام فيه بالتوسع فى إنتاجه وفتح أسواق له فى الخارج ليستفيد منه ويوسع من الملمين بتقنياته.

   وفى العقد الأخير  تولت د. نوال المسيري مشروع تنمية فن التللى فى سوهاج ، حيث  رصدت مادتها الميدانية مع فريق بحثي متخصص، وقامت برصد المحاور التي يمكن أن تدفع بالحرفة للنمو بحيث يعود المكسب للحرفى نفسه ، وتحافظ الحرفة على خصوصيتها ، وبدأت فى ورش العمل وفتح الأسواق والتعاقد للفتيات العاملات فى المهنة لتعمل الآن 600 فتاة فى مهنة لم تكن لسوهاج بها مساحة تذكر ، بل إن سوهاج أخذت الضوء بإنتاجها الأكثر حداثة من أسيوط ، فبالتعامل مع بيوت الأزياء العالمية والخروج بالمنتج من شكله التقليدى والحفاظ على رموزه ، وبقوانين التنمية توفرت الخامة والأدوات والتى كانت محتكرة ولا تباع حيث يستوردها المستفيد بها ، وهو ما يجعل المتقن للمهنة لايستطيع الإستقلال والعمل بمفرده.

        وتجربة التجارة العادلة التى تعطي مميزات وصلاحيات للمنتج التقليدى الذى يصنعه طبقة من المهمشين فى العالم تدفع برعاية إنسانية بالحرف ، و ترتبط بالحفاظ على خصوصية المجتمعات و على الحرفى  الماهر وتنمية منتجه اليدوى.

       ومن هنا فإن التجارب السابقة وغيرها من التجارب تدفعنا لرؤية الحرف من منظور إنها نتاج الثقافة الخاص بالجماعات البشرية، وهى بذلك تمثل هوية تلك الجماعات.

وترى الباحثة ضرورة الحفاظ على الحرف من خلال :

·   عقد تجمع علمي في مؤتمر يضع خطة إستراتيجية عاجلة التنفيذ ويكون الهدف من التنمية هو الحفاظ على الحرفي وخصوصية الحرف وملامحها الموروثة مع التجديد الذى يناسب الحياة الآن .

·   وضع خطة مؤسسية لتسويق المنتج اليدوى التقليدى يعتمد على رفع مستوى المنتج وإستحداث طرز جديدة معتمدة على المفردات والعلاقات التشكيلية التقليدية بأطر وأشكال تناسب المستهلك الآن ، ومن خلال الإعتماد على السوق المحلى بالتواز مع  الترويج السياحي للمنتج الحرفي التقليدى.

·        إنشاء مواقع على شبكة الإنترنت تعرض المنتجات المختلفة من الحرف التقليدية .

·        ربط التشكيل الشعبى بالتعليم الفنى وبرامج التربية الفنية للتأكيد على الخصوصية المصرية.

·        رصد وتوثيق وتنمية الموروث التقليدى الفلسطينى كمسئولية مشتركة بين الخبراء الفلكلوريين ورجال السياسة . ([12])

 

 

 

 

 

 

 

 

المراجع

 

1.    السيد فرج، التنمية الثقافية للقرية المصرية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986،ص76

2.  محمود عودة ، التكيف والمقاومة ، الجذور ، الاجتماعية والسياسية للشخصية المصرية، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 1995 م.

3.    سليمان محمود حسن، الأواني الخشبية، النادي الأدبي – جيزان السعودية .

4.    سعد الخادم، المؤامرات الإستعمارية على تراثنا الفنى، الدار القومية للطباعة والنشر،، بدون تاريخ.

5.  عبدالغني النبوي الشال ، الفنون التشكيلية وقضية القدس ، المؤتمر القومي للقدس ،لجنة الفنون ، المجلس الأعلى للثقافة ، وزارة الثقافة ، مصر ، يونيو 1998م.

6.  [1] عبد اللطيف محمد خليفة، شعبان جاب الله رضوان، الشخصية المصرية الملامح والأبعاد دراسة سيكولوجيةن دار غريب للطباعة والنشرو التوزيع، القاهرة، 1998، ص93 ، عن ( مصطفى سويف 1960،ص406).

7.    عزت مصطفي، قصة الفن التشكيلي (العالم القديم)، الهيئة المصرية العامةللكتاب ، 1996.

8.    هاني جابر ، الفولكلور ودليل العمل الميدانى – مدخل إلى دراسة الثقافة المادية ، المنوفية،الولاء للنشر.

9.    هربرت ريد، معني الفن، ترجمة سامي خشبة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


[1] محمود عودة ، التكيف والمقاومة ، الجذور ، الاجتماعية والسياسية للشخصية المصرية، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 1995 م، (ص هـ ، و)

[2] عبد اللطيف محمد خليفة، شعبان جاب الله رضوان، الشخصية المصرية الملامح والأبعاد دراسة سيكولوجيةن دار غريب للطباعة والنشرو التوزيع، القاهرة، 1998، ص93 ، عن ( مصطفى سويف 1960،ص406).

[3] عبدالغني النبوي الشال ، الفنون التشكيلية وقضية القدس ، المؤتمر القومي للقدس ،لجنة الفنون ، المجلس الأعلى للثقافة ، وزارة الثقافة ، مصر ، يونيو 1998م.

[4] عبدالغني الشال، مرجع سبق ذكره1998م ، عن موسوعة التراث الفلسطيني.

[5]. هربرت ريد، معني الفن، ترجمة سامي خشبة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، ص 30.

[6] عزت مصطفي، قصة الفن التشكيلي (العالم القديم)، الهيئة المصرية العامةللكتاب ، 1996، ص 11.

[7] هاني جابر ، الفولكلور ودليل العمل الميدانى – مدخل إلى دراسة الثقافة المادية ، المنوفية،الولاء للنشر ، ص 34 .

[8] . سليمان محمود حسن، الأواني الخشبية، النادي الأدبي – حيزان السعودية – ص 36.

[9]  سعد الخادم، المؤامرات الإستعمارية على تراثنا الفنى، الدار القومية للطباعة والنشر،، بدون تاريخ،11 ، 12 .

[10] .السيد فرج، التنمية الثقافية للقرية المصرية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986،ص76.

[11] .السيد فرج ، المرجع السابق، 1986 ، ص18 ،19.

[12].  للباحثة  دراسة مقدمة لهيئة دولية ركزت على سبل رصد وتوثيق وتنمية الموروث الفلسطينى ببرنامج زمني كسبيل للصمود أمام التهويد لمدينة القدس.

المصدر: د.إيمان مهران، 1. تنمية الحرف التقليدية مدخلاً للحفاظ على الهوية ، الملتقى الرابع للمأثورات الشعبية، المجلس الأعلى للثقافة ، وزارة الثقافة المصرية ، أكتوبر 2009.
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 2331 مشاهدة
نشرت فى 30 نوفمبر 2011 بواسطة imanmahran

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

61,362

د.إيمان مهران

imanmahran
فنانة تشكيلية وكاتبة »