<!--<!--<!--
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)
يقول تعالى مخبرًا عن الإنسان وما هو مجبول عليه: { إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } { إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا } أي إذا أصابه الضر فزع وجزع وهلع قلبه من شدة الرعب، وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير.أذكر تفسيرا لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، قال فيه: أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان بنقاط الضعف هذه حتى يعود إلى الله، لأن لو خلق الإنسان كاملا، لطغى وفسد في الأرض وشعر بغناه عن خالقه، لذلك خلقنا الله بنقاط الضعف هذه حتى نعودإليه.
{ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } أي: إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره، ومنع حق الله فيها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا موسى بن عُلَيّ بنُ رَباح: سمعت أبي يحدث عن عبد العزيز بن مروان بن الحكم قال: سمعت أبا هُرَيرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شر ما في رجل شُحٌ هالع، وجبن خالع".{ تفسير أبن كثير }.
صفات رهيبة في الإنسان، وهي متأصلة فيه، لأنه خلق بها، صفات عندما يراها الإنسان في نفسه يكرهها، ويتمنى لو يمحها من نفسه، فالهلع والجزع، والبخل أو المنع، يُفقد الإنسان توازنه، ويجعله يتصرف بهوجاء وبغير إتزان، ويتأصل فيه الخوف من كل شيء، ويجعله يرى الحياة بنظرة مخيفة ورهيبة، وهنا يتدخل الشيطان بحيله وخيله، فيؤكد هذه المشاعر والنظريات المخيفة من الحياة، وهناك كثير من الناس قد فقدوا أمنهم وسعادتهم بسبب ذلك.
إذا ما هو الحل؟ كثيرا من الفلاسفة والمفكرين .. وأساتذة الطب النفسي في العالم، بذلوا حياتهم لمعرفة الحل والخروج من هذا الرعب المخيف، منهم من توصل بفضل الله وهدايته إلى العلاج الأمثل، وذلك بجعل المريض ينظر في الطبيعة ويتأمل في خلق الله...
ومنهم من حاول أظهار نقاط الضعف الكامنة في أعماق النفوس ومواجهة المريض بها حتى يعرف مرضه، ويحاول التغلب عليه... وملايين من وسائل العلاج الحديث والقديم، نجح منها من نجح، وفشل فيها من فشل، ونسب النجاح دائما متفاوته، ونادرا ما تصل إلى درجة الشفاء التام.
أما الحل الأمثل والوحيد والذي هو مضمون النتائج، ولا يكلف سنتيما واحدا، قد أخبرنا به المولى عز وجل في نفس الآية الكريمة...فهيا بنا نعيش معها لحظات بصدق وتأمل وتدبر....
إِلَّا الْمُصَلِّينَ
الصلاة تغير الإنسان تغييرا شاملا... تؤثر على عقله ونفسه وقلبه وفكره وتصرفاته، ونظرته للحياة، وتقضي فيه على كل ماهو سلبي.. فلا يأس مع الصلاة ولا صلاة مع اليأس. لأنها بمنتهى البساطة تنير قلبه، فتستنير حياته كلها، والخوف، والهلع، والجزع، كل ذلك يزول، ويفر منك بغير عودة، وتشفى منه شفاء تاما إذا ما إتصلت بربك.. وأسمع معي رحمك الله كلام ربك في ذلك :
إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ
البطولة الحقيقية هي أن تداوم على صلاتك، وأغلب الظن هنا أن المقصود بالمداومة على صلاة النوافل. هذا والله أعلى وأعلم. والذين يجعلنى أفكر في هذا هو الحديث القدسي التالي:
إن الله قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته : كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته .عن أبو هريرة..
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)
أول ما سوف نلحظه في نفوسنا مما يدل على تمام الشفاء من الهلع والجزع والبخل والشح، أن يكون في مالك حق معلوم للسائل والمحروم. أنك إذا ما داومت على صلاتك، فهذا دليل أنك قد ذقت حلاوتها، وإذا ما ذقت حلاوتها فعلت كل ما بوسعك لترضي الذي هداك وأدخل حبه في قلبك،فقد آمنت بصدق أنه لا ينقص مال من صدقة، وقد آمنت بصدق أن الله سيضاعف لك الأجر،
وهيا بنا نواصل رحلتنا مع كلام رب العالمين ليتم لنا الشفاء بإذن الله تعالى:
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)
أحيانا نقوم بتخزين المعلومات في ذاكرتنا، ولكن دون أن نتيقن منها، لأن اليقين له مراحل ثلاث:
1. علم اليقين، وهو مثلا أن تقرأ عن منزل للإيجار بأحدى الجرائد، فأنت قد علمت ذلك يقينا.
2. عين اليقين: بعد أن قرأت الخبر، أتصلت بالتليفون وذهبت لرؤية المنزل وقد رأيته، هذا هو عين اليقين.
3. ثم حق اليقين: مثلا أن تقوم بإستئجار المنزل وتعيش فيه. فهذا هو حق اليقين.
وكل ذلك مستخلص من الآية التالية: {{ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) التكاثر }}. أما عن حق اليقين فنجده في آخر سورة الواقعة {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ } .
لذلك يذهب تفكيري إلى أن الإنسان أحيانا عندما يشفى من مرض معين، ويمضي وقتا طويلا يتمتع فيه بصحته، فقد ينسى أيام مرضه، لذلك فالمولى سبحانه وتعالى يذكرنا بأنه يجب علينا أن نصدق بيوم الدين، أي لا ننسى ذلك ولا نغفل عنه، فلابد لنا من أن نتيقن بأن هناك حساب ينتظرنا، وأننا سنسأل عن كل كلمة وعمل، هذا والله أعلى وأعلم، وفي تكملة الآية ما يدل على ذلك:...
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
لابد لنا من أن نرى أمام أعيننا مشاهد عذاب الله في الدنيا، وذلك بما أجراه على خلقه الذين أصابهم بألوان من العذاب والإبتلاءات، لنتذكر أننا قد نجونا مما إبتلى به الآخرين، ونحمد الله على ذلك، وندعوه أن ينجينا كذلك من عذاب الآخرة ومن عذاب جهنم، وهذا ما كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يختم صلاته:
أعوذ بك من عذاب جهنم ، و أعوذ بك من عذاب القبر ، و أعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ، و أعوذ بك من فتنة المحيا و الممات ، و أعوذ بك من فتنة القبر . الراوي: أنس بن مالك
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)المعارج.
عدم الإقتراب من الزنى، وتأدية الآمانات إلى أهلها، والوفاء بالعهود، وأن يكون الإنسان قائما بشهادته، محقا فيها، لا يدارى، ولا يغير، وكأنه في شهادته قائم يصلي.. كل هذا يتحقق في حياتنا إذا ما حافظنا على الصلاة. والإنسان لا يحفظ شيئا إلا إذا عرف قيمته الحقيقية، والحفاظ على الشيء دليل خوفنا من ضياعه، فالذي أدرك الغاية من الصلاة، لن يضيعها أبدا لأن فيها سعادته. وقد أصبحت أثمن شيء في حياته، لأنها ستنجيه وتنقذه من النار، وستقربه من ربه.
هذا والله أعلى وأعلم .. وإنما قصدت به وجه الله والتذكرة، فإن كان من خطأ فمني وأستغفر الله له، وإن كان من صواب فمن الله وبتوفيقه وبهديه، وهو رزق مقسوم لكل من به إتعظ. والحمد لله رب العالمين.
ساحة النقاش