في السياسة (فن الممكن) خرجوا علينا بمبدأ المشاركة لا المغالبة وبعد فترة بسيطة انقلب المبدأ إلى المغالبة لا المشاركة ... فهي خبرة لا تزال حاضرة وممتدة بقوة في رسم سياسات القوى إزاء شركائها في العمل ... وهي ظاهرة لافتة ومثيرة للاستغراب ، وربما تطرح تساؤلات بشأن ما إذا كانت تلك النزعة "غريزية" في الضمير الجمعي المصري ، انتقلت إليه من "الفرعونية" القديمة عبر خبرات الأجيال المتعاقبة ... وعبرت عن نفسها من خلال تجليات الاستعلاء الإيديولوجي والتنظيمي لكافة التيارات في مصر ... بما فيها التيار الإسلامي ذاته ، حيث تظل خبرة الإسلاميين المصريين مرهونة لذات السياق الاستعلائي بخلاف أقرانهم في الدول الأخرى حيث ينتهجون منحىً حركياً يميل إلى الانفتاح على التيارات والقوى العلمانية والليبرالية الأخرى التي تشاطرهم ذات الأجندة الوطنية.
يبدو لي أن "جغرافيا المكان" تعتبر مُحدداً أصيلاً في تشكيل "المزاج السياسي" الذي تتوارثه الأجيال المُتعاقبة ، واستناداً إلى هذه الفرضية فإن "الدولة النهرية" تفرز عادة نمطاً واحداً من ثقافة القمع المؤسسي والطبقي والإداري ... بل و"الجغرافي" إذا جاز التعبير ... حيث لا تظهر "الفرعونية" بكافة أنماطها إلا في الدول النهرية ... ففي مصر تمتد الفرعونية بكل تجلياتها القمعية من "النظام السياسي" إلى المعارضة مروراً بالتكوين الاجتماعي والطبقي ثم ترتيب المدن من حيث المنزلة السياسية وانتهاء بالتقسيم الطبقي داخل المؤسسات المختلفة بالدولة ... حتى إنه بات أكثر ما يميز مصر ، هو وجود ما يسمى بــ "ديكتاتورية الأداء" والاستعلاء.
هذا تأويلي لغياب ظاهرة "الفكر الوطني" في الخبرة السياسية ، وربما تكون مقاربة صحيحة ... وقد تكون مخطئة ... غير أن الظاهرة فعلاً تحتاج إلى اجتهادات لسبر غورها ، واستجلاء أسباب غيابها على وجه أقرب ما يكون إلى ملامسة الحقيقة ... والإجابة على سؤال هذا "الغياب الصادم".
خلال الجيل الماضي ، بدأت سياساتنا تنفتح ، ونتيجة ذلك ، تدفّقت بعض الحركات الإسلامية ، خاصة جماعة الإخوان المسلمين ، عبر الفجوات التي أحدَثها هذا الانفتاح ... لكن ، كيف غيّرت السياسات هذه الحركات؟ ... في سياق الأنظمة السياسية المتنوعة ، بات فضاء التعبير ، وحتى فضاء العمل ، أكثر انفتاحاً ، لكنه لا يزال مقيّداً ، فهذا الفضاء الذي توافر للمعارضة ، ساعد على إطلاق انتفاضات ثورة 25 يناير ... وبدلاً من التكهن حول المستقبل ، أو التركيز على الأحداث والسياسات الديمقراطية التي برعمتها هذه الانتفاضات ، نهتم بشبه السلطوية ونركّز على تأثيراتها في السياسة العامة ... وانطلاقاً من ذلك ، الحركات الإسلامية تتمتع بأجندات واسعة وتطلعات كبيرة لانتهاج مدى واسع من النشاطات ، كما تملك منظمات فضفاضة وأيديولوجيات عامة ... وبكلمات أخرى ، تأثير السياسات شبه السلطوية وتقلباتها على الحركات الإسلامية ، من خلال مقارنة بين ما تم التوصل إليه عبر هذه الحركات في السياقات شبه السلطوية وبين الحركات الإسلامية في السياقات الأخرى المتنوعة والمختلفة.
تقف مصر في لحظة تاريخية فارقة وهي تضع قواعد جمهوريتها المرتبطة بالأهداف النبيلة التي انفجرت من أجلها ثورة 25 يناير ودفع آلاف الشهداء والجرحى من أنبل أبنائنا دمائهم من أجلها ، تلك الأهداف التي تمثلت في الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية في دولة ديموقراطية مدنية لكل مواطنيها على قدم المساواة .... حيث يجب أن تتميز بالفصل بين السلطات والتوازن بينها ، في مثل هذه اللحظات الفارقة يجب أن تتراجع "الأنا" وتتقدم المصلحة العامة على كل ما عداها ، وهو ما لم يتحقق في تشكيل اللجنة التأسيسية المنوط بها وضع دستور جديد للبلاد ، حيث استحوذ حزبا الاغلبية على النسبة الكاسحة من مقاعد اللجنة التأسيسية ، مناقضاً منطق بناء الدساتير على أساس التوافق والمشاركة لا المغالبة. كما استحوذ مجلسا الشعب والشورى على نصف مقاعد اللجنة ، رغم أنها ستحدد لهما اختصاصاتهما، بما ينطوي على ذلك من تعارض المصالح ويفتح مدخلاً لتغول السلطة التشريعية على السلطتين القضائية والتنفيذية .... تم تهميش دور الأزهر وهو المؤسسة الدينية التاريخية الحافظة للإسلام الوسطي المعتدل الذي ميز مصر دائماً وفتح لها باب التقدم والتحضر قبل كل دول المنطقة ، كما تم تهميش الكنيسة والمحكمة الدستورية العليا ، ونقابة المحامين ، واتحاد النقابات المهنية ، والنقابات المستقلة ، واتحاد العمال ، ورئاسة الاتحادات الممثلة للصناع والتجار والمستثمرين والفلاحين ، والكتاب والفنانين والشباب والجامعات، وأحزاب المصري الديمقراطي الاجتماعي ، والمصريين الأحرار والوفد ، والتحالف الشعبي الاشتراكي ، والعدل ، والتجمع والكرامة .... لم يعبر التشكيل عن مختلف مكونات مصر الدينية والعرقية والنوعية والجغرافية بصورة عادلة .... كما غابت عنه أهم القامات القانونية والدستورية ... ونتيجة لذلك أعلن الكثير منهم انسحابهم من لجنة وضع الدستور ... أسباب ذلك ما زالت قائمة وهي مبدأ المغالبة لا المشاركة.
وبعد الإعلان عن تمسك مُختلف أطياف الشعب المصري بإعادة النظر في أسلوب تشكيل اللجنة وفقاً لمعايير معنوية وضوابط وإجراءات مُحددة وبناءً على قرار المحكمة الإدارية العليا ببطلان اللجنة التأسيسية للدستور ... تراجع المتشددون قصراً كما تراجعوا في قرارات عديدة ثبت خطأها منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن.
توفيق الدقن - الشيطان يعظ