أعضاء هيئة تدريس الجامعات المصرية

يتناول الموقع آراء ومقترحات أعضاء هيئة التدريس للتطوير

 لجان الحكماء في كل مكان وكل زمان ، تحاول إبقاء الحال كما هو علية أو تكييف القضايا حسب ما يرغب الأعلى ، السؤال المنطقي للسادة الحكماء على اختلاف أنواعهم وألوانهم ، لماذا؟ إذا كان الهدف هو الصالح العام لماذا الخصخصة والبعد عن الطريق السليم ؟ لحفظ ماء الوجه والتشبث بمواقعكم ومكتسباتكم ؟ إذن فأنتم تفكرون في الأعلى ولا تفكرون في مصير العامة المعلق اليوم بسبب الظروف السياسية المتدهورة ، السؤال ، مادامت لكم المشورة ، قولوا لنا ما الذي سيمنع رجوعكم للقيادة في الغرف المغلقة وما تشيرونه للقيادات في كل شاردة وواردة ثم تخرجوا علينا لتقولوا ما تريدون سيادتكم؟ أليس من الممكن أن تحكم القيادة وتسيطر على الأمور بدلاً من اللجوء إلى ألاعيب تحت الطاولة من خلالكم كمفوضين؟ من الذي يضمن؟ لا شيء. إن لجان الحكماء غير مقبولة على أي مستوى فاحذروها ... لأنها تسبب ضرراً فادحاً عند التحرك ، إذا كانت هذه الفكرة الجهنمية التي ابتدعها نظام مبارك قد قسمت الناس إلى طوائف فإن هذه اللجان تقسم الطوائف إلى شراذم! لسرقة الحقوق وتفتيتها! ، هذه اللجان يجب أن يتم شلّها وحلّها فوراً. الحذر الحذر وإلا فستسرق هذه اللجان كل ما تهدفون إليه. أصبروا وتمسكوا وخذوا حذركم ، يجب على جميع الفئات أن تختار ممثلاً كفؤاً ، لأن نقطة الضعف الكبرى التي خلقت هذه اللجان سوف تخلق غيرها كما أن العامة ليس لديهم توجهات ثابتة ومتحدثين مدربين ينطقون باسمهم يتبنوا مطالبهم ويؤمنون بها.

إذا أردت أن تعطل اتجاهاً بعينة في هذه البلد فشكل لجنة حكماء!! لأنها سوف تساعدك آخر الأمر على اتمام ما ترغب فيه والبقاء أطول فترة ممكنة في مكانك. وستكون مسكناتهم هي "نرجوكم تماسكوا وأصبروا قليلاً على الفوضى ، وعلى الألم والخوف ، فلقد عشنا في فوضى وضياع أمن وقلق وخوف وفقر وبطالة وقتل ووحشية وطوارئ لعشرات السنين ، هل نسينا؟" فلنصبر ... ولنظهر صلابة في التمسك بموقفنا دون أدنى أمل في التراجع عنها ، ألا يستحق ذلك مزيداً من الصبر؟ لجان حكماء ((تعبير سخيف وممل))؟!!!. هل هذا يعني أننا قد انقسمنا إلى حكماء وبلهاء؟؟!! ، هل هذه كلام مقنع؟ (( ربّـيَ اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي )). صدق الله العظيم.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا النَّبِى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِى مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِى فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: " أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ " قَالَ هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ" قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا ؟ قَال : " إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ".

 قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة" قيل: وما الرويبضة ؟ قال: "الرجل التافه يتكلم في أمر العامة"‌.

وصدق القاضي عبد الوهاب المالكي

متى يصل العطاش إلى ارتواء ... إذا استقت البحار من الركايا

ومن يَثني الأصاغر عن مراد ... وقد جلس الأكابر في الزوايا

وأن تَرفَّع الوضعاء يوماً ... على الرفُّعاء من إحدى الرزايا

إذا استوت الأسافل والأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا

قال تعالى: "وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68). (سورة التوبة) 

قال تعالى : " مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ". (الكهف : 5)

 قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يطن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة".

يقول الله (جل وعلا) : { يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } (البقرة : 269)

وردت كلمة (حكمة) في مواضع عديدة من الكتاب العزيز ، وذهب المفسرون إلى تفسير معناها في كل موضع بحسب السياق الذي وردت فيه ، فتارة تُفسر بالسنة ، وتارة بالموعظة ، وتارة بالقرآن.

أما في هذا الموضع الذي نحن بصدده ، فإن للعلماء في تفسيرها أقوالاً كثيرة ، منها : النبوة ، والفقه في القرآن ، والمعرفة بدين الله ، والفقه فيه ، والاتباع له ، والخشية ، والورع وروى ابن وهب عن مالك أنه قال في (الحكمة) : إنها المعرفة بالدين ، والفقه في التأويل ، والفهم الذي هو سجية ، ونور من الله (تعالى).

ولعل هذا القول هو أقرب الأقوال السابقة إلى الصواب . والذي يبدو لي: أن الحكمة تتجاوز المعلومات الجزئية إلى المفاهيم الكلية مع نوع من التطابق بين معارف الحكيم والمواقف العملية له ؛ ومن ثم قيل إن الحكمة تعني: وضع الشيء في موضعه ؛ وإن كنا نرى أن ذلك أحد تجليات الحكمة ، وليس جزءاً منها ، لكنهم لمحوا أن المواقف الصحيحة الملائمة هي التي تكشف عن حكمة الحكماء.

ولعلنا نحاول الحوم حول حمى الحكمة ، وحول بعض تجلياتها وتجسيداتها في المفردات التالية

1.  إن تاريخ الإنسان هو مكافحة (العماء) و (اللاتكوّن) في داخل نفسه وفي خارجها ؛ فهو يحاول أبداً صياغة المفهومات والرؤى التي تمكّنه من فهم مركزه في هذا الكون ، ومعرفة المحيط الذي يعيش فيه بغية فهم الموقف الصحيح والخطوة المناسبة ، ومهما بذل الإنسان من جهود في سبيل الوصول إلى ذلك فإن نجاحه يظل نسبيّاً ، كما أن تقدير الناس لذلك النجاح سوف يظل متفاوتاً ؛ حيث إن مبادئ الإنسان ومعارفه تتحكم دائماً في بلورة رؤيته للأشياء ؛ ومن ثم : فإن موقفاً ما قد يكون في نظر واحد منا حكيماً ، على حين ينظر إليه آخرون على أنه طائش وخائب ؛ إلا أن الأيام بما تجلّيه من عواقب ونتائج وبما تركمه من نماذج تساعدنا على نوع من توحيد الرؤية والفهم.

2.  إذا كنا نختلف حول تعريف الحكمة فإنه سيظل بالإمكان تحليلها إلى العناصر المكوّنة لها ، وهي على ما يبدو ثلاثة: الذكاء ، والمعرفة ، والإرادة ؛ فالذكاء اللماح ، والمعرفة الواسعة ، والإرادة الصُلبة تكوّن معاً: (الحكمة) ، وعلى مقدار كمال هذه العناصر يكون كمالها. الذكاء بمفرده لا يجعل الإنسان حكيماً ؛ إذ الملموس أن الذكاء دون قاعدة جيدة من العلم والخبرة ينتج فروضاً ومعرفة (شكلية) ، كما أن المعرفة دون ذكاء تجعل استفادة صاحبها منها محدودة ، وتجعل وظيفته مجرد الحفظ والنقل ، دون التمكن من غربلة المعرفة أو الإضافة إليها. والأهم من هذا وذاك: أن المعرفة دون ذكاء تؤخر ولادة الموقف الحكيم ، وتجعل الواحد منا يأتي بعد الحدث بسبب ضعف البداهة. ولا يكفي الذكاء اللمّاح ، ولا الخبرة الواسعة في جعل الإنسان حكيماً ما لم يمتلك قوة الإرادة ؛ لأن الإرادة القوية وحدها هي التي تجعلنا ننصاع لأمر الخبرة ، وهي التي تنتج سلوكاً يختفي فيه الفارق بين النظرية والتطبيق. الذكاء موهبة من الله (تبارك وتعالى) ، والمعرفة الواسعة كسب شخصي ، والإرادة القوية هدية المجتمع الناجح لأبنائه البررة ؛ فهو الذي يحدّد العتبة والسقف المطلوبين للعيش فيه بكرامة على مستوى الإرادة ، وعلى مستوى القدرة ، وهو لا يمنح القدرة ، لكنه يمنح أفراده إرادة الفعل والكف من خلال نماذجه الراقية ، ومن خلال المراتب الاجتماعية التي يصيغها تأسيساً على الاستجابة لأوامره.

3. إن المعرفة مهما كانت واسعة لا تعدو أن تكون إحدى مكوّنات (الحكمة) ، ومن ثم : فإن هناك فارقاً بين العالِم والحكيم ، فقد يكون المرء قمة في تخصص من التخصصات ، لكنه لا يُعدّ حكيماً ، كما أن الحكيم قد لا يكون عالماً متبحراً في أي علم من العلوم.

العلم يفكك المعرفة من أجل استيعابها ، فيقوم بتنظيمها وتوزيعها على مساقات كثيرة ، أما الحكيم : فيقوم بتركيب المعرفة النظرية مع الخبرة العملية من أجل بناء وتشكيل المفهومات العامة في سبيل الوصول إلى رؤية شاملة تندمج فيها معطيات الماضي والحاضر والمستقبل. العلم يمكننا من صنع الدواء ، وصنع السلاح ، لكن الحكمة تجعلنا نعرف متى نداوي ، ومتى نحارب. العلماء كثر ، والحكماء نادرون ؛ لأن تحليل المعرفة أسهل من تركيبها ، إن الحكمة أُم الوسائل والأساليب ، لكنها أكبر من أن تحصر في أي منهج من المناهج ، إنها معرفة تتأبى على التنظيم ، فهي دائماً مرفرفة ، على حين أن العلم معرفة منظّمة ، وكل العلوم يبدأ تفتحها على أنها حكمة ، وتنتهي إلى أن تكون فنّاً ، أي: إنها تفقد طاقتها على التجدد بعد أن يتم سجنها في قوالب جاهزة ، وتصبح بحاجة ماسّة إلى أن ترفرف من جديد ، أي: أن تطعّم بالحكمة. ومن ثم : فإن الحكمة تتأبى على الاستنفاذ ، ولذا: فإنها الخير الكثير الفياض المتجدد الذي يهيئه الله (تعالى) لمن شاء من عباده.

4. آن الأوان لتنشيط حركة علمية لا تغرق في التخصصات لكنها تستفيد منها جميعاً: في تنسيق الواقع في ضوء المثال ، وفي إدراك العلاقات الخطية والجدلية التي تربط بين الأشياء ، وفي معرفة سنن الله (تعالى) في الخلق. آن الأوان لتكوين جيل جديد من الحكماء والمصلحين ذوي النظر الكلي والثقافة المَزْجية ، الذين يستخدمون المعارف المختلفة في بناء النماذج الحضارية الخاصة والمشروعات النهضوية الشاملة. وفي اعتقادي أن الحاجة إلى (الحكماء) سوف تزداد ؛ إذ إن المعرفة البشرية على وشك إكمال دورتها ، وعصر ثورة المعلومات الذي بزغ فجره سوف يكون أقصر العصور الحضارية ، أي: إن الفلسفة قد تستعيد مجدها القديم ، لكن ضمن معطيات ومساقات جديدة ، وبلغة شديدة التعقيد ، وعلينا منذ الآن أن نحضّر أولئك ، الذين يستطيعون فهم أسئلة العصر القادم ، ويحسنون الجواب عليها.

5. الإرادة الصُلبة مكوّن أساس من مكونات (الحكمة) كما ذكرنا وهي (الإكسير) الذي يحيل المعرفة النظرية إلى نماذج متحققة في الواقع المحسوس ، إن الحكمة نور داخلي يشكل مفهومات كثيرة متباينة ، ويدمجها في نظم أشمل ، فتبدو منسجمة متناسقة ، لكن الحكيم لا يبدو كذلك ، فهو طراز فريد ، ونموذج خاص ، يصعب تقنين عطاءاته وتوجهاته ومواقفه ؛ لأن طبيعة الحكمة تتأبى على التحقق الكامل ، ومن ثم : فإنها تلوح في بعض المواقف والسلوكيات لتدل على فضل الله (تعالى) على أصحابها وتوفيقه لهم. وتلك المواقف تفوق الحصر والعد ، لكن نذكر بعضها من أجل التقريب.

أ- الحكمة نمو دائم ، فالمزج الفاعل بين الذكاء والخبرة والإرادة يجعل مفهومات الحكيم في نوع من الحركة الدائبة ، مفهوم يكبر ، وآخر يضمر ، ونقط تزداد تفصيلاً ، وأخرى تزداد تركيزاً ، أفكار جديدة لديه تفقد بريقها بسرعة ، وأفكار قديمة تنبعث حية لتخط خطّاً جديداً ، هذه الوضعية تجعل الحكيم في حالة من التألق الدائم ، وهذا التألق قد يفسّر لدى الكثيرين على أنه تناقض واضطراب ، على حين أنه نوع من الاستجابة الناجحة للمرونة الذهنية العالية ، والروافد الثقافية الثرية ، والإرادة الحرة الصُلبة ، لكن كل ذلك يأخذ سمة التغيّر لا التبدّل.

ب- إيثار الآجل على العاجل ، والدائم على الآني ، وما يمليه ذلك من مواقف والتزامات: أكبر سمة من سمات (الحكيم) ، والشرائع السماوية كلها جاءت توجّه الناس نحو هذه الفضيلة ، لكن إغراءات المنافع والملذات العاجلة صرفت كل الناس عن الاستجابة { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ } (القيامة : 20 ، 21) وعدم تحقق هذه الفضيلة في حياة كثير من الناس ، سببه: ضعف في الخبرة ، أو ضعف في الإرادة ، أو فيهما معاً ، والحكمة تجعل الحكيم في منأى عنهما .

وموقف الحكيم هنا يثير لدى الناس الدهشة ؛ حيث يجدونه زاهداً معرضاً عما يتقاتلون عليه ، وربما اتهموه بالعجز أو الكسل أو القصور ، وهو في الوقت نفسه يضحك في داخله من جهادهم في غير عدو ومحاولات قبضهم على السراب. !!

 جـ - داخل الحكيم ساحة مَوّارة بالحركة والنشاط ، فهو لا يكفّ أبداً عن عمليات المقارنة ، والموازنة ، والتحليل ، والتركيب ، والاستنتاج ، والتشذيب ، والإضافة ، إنها أمواج وتيارات في أعماق المحيط ، أما السطح فإنه هادئ تعلوه السكينة والوقار.

إن من ملامح الأذكياء سرعة البديهة ، وإطلاق الأحكام ، وسرعة تشكيل المواقف ، لكن الحكيم طراز آخر من الناس ، فهو بطيء في تكوين معتقداته ، وصياغة مقولاته ، إذ إنه يملك قدرة خاصة على ضرب كل أشكال المعرفة والخبرة في بعضها بعضاً ، ليخرج في النهاية بزبدة تتميز عنها جميعاً ، لكنها منها جميعاً.!

 ويفسّر بعض الناس ذلك بالعي والحَصَر ، لكن الأيام تثبت أن مقولات الحكماء هي بنات عواصف فكرية وشعورية هائلة ، لكنها غير منظورة!.

د - من أهم تجليات الحكمة: إدراك حجوم القضايا على وجهها الصحيح ؛ فالحكيم يرى الأشياء الكبيرة كبيرة ، كما يرى القضايا الصغيرة صغيرة كما هي ، وتقدير القضايا بصورة صحيحة من أخطر المشكلات التي ظلت تواجه البشر على مدار التاريخ ، وهل دُمّرت الحضارات إلا من وراء مشكلات وأخطاء ظنها الناس تافهة ، فإذا هي عواصف هوجاء تأتي على كل ما تمرّ عليه!

 الحكيم : رجل يرى ما قبل اللحظة الراهنة ، ويستشرف ما بعدها ، وهو لا يرى نسقاً أو نظاماً من التداعيات الترابطية ، لكنه يرى أتساقاً ونظماً تتوازى ، وتتقاطع ، وتتصادم ، إنه يحسّ بالعاصفة قبل هبوبها ، فيحذر قومه وينذرهم. كلنا نرى القضايا بحجمها الحقيقي ، لكن بعد فوات الأوان ! ، وبعد أن نكتوي بنارها ، وتفوتنا فرصها الذهبية ، لكن الحكيم يأتي في الوقت المناسب ، كما قال سفيان الثوري : » إذا أدبرت الفتنة عرفها كل الناس ، وإذا أقبلت لم يعرفها إلا العالم « !. العالم (الحكيم) الذي وصفناه ، أما أهـل الاختصاص ، الذين أذهبوا العمر في تفتيق المعرفة حول شيء بالغ الصغر ، أو حول (لا شيء) : فهؤلاء جنود التقدم العلمي ، لكن حظوظهم من إشراقات الحكماء محدودة للغاية ! .

هـ ترتفع درجة المرارة في داخلنا على مقدار فقدنا للحكمة ؛ والنزق والبَرَم الذي نبديه حول كل ما لا يعجبنا سببه جهلنا بالأسباب والجذور والسنن وطبائع الأشياء ومنطق سيرورتها. أما الحكيم: فإن مرارته لا تنبع من مفاجآت الأحداث وفواجعها ، وإنما من غفلة الناس واستخفافهم بالمواعظ التي ألقيت عليهم ، ونبهتهم إلى النهايات المحتومة التي يندفعون إليها دون أي حساب أو تقدير لفداحة الخطب الذي سيواجهونه. إن الآلام التي نشعر بها عند ظهور بعض النتائج تكون مكافئة في العادة للمسرات التي عشناها يوم كانت (عقولنا مستريحة) ومشاعرنا غارقة في عالم الملذات والأوهام.! ما ذكرناه من أنوار الحكمة وفضائلها غيض من فيض ، ولا يشف عن محاسنها قول كقول الله (تبارك وتعالى) : { وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } (البقرة : 269)

قرأت في جريدة إن محافظ القاهرة قام بتشكيل لجنة من الحكماء لحل مشاكل المرور بالقاهرة ، وقد أوصت اللجنة - كالعادة - بغلق بعض الطرق وتحويل أخرى ، وتطويل المسافة الطويلة أصلاً على المعذبون بالقيادة في شوارعنا الملعونة ، بغلق بعض المطالع للكباري والميادين ، وعمل U-turn لمضاعفة المسافة التي يتم قطعها بالعافية أساساً، كما أنه قد لفت نظري في الخبر المفصل الطويل نقطتين.

الأولى: إنه لم يذكر على الإطلاق أن هذه اللجنة "الحكيمة" تقوم بعمل تطوعي (مجاني يعني).

الثانية: أنه لم يذكر أي شيء عن سؤال الناس أنفسهم ، عن تخيلهم للحل العبقري الذى لم يأتي به أحد من قبل ولا من بعد في العالم المتقدم والمتخلف معاً ، لحل أزمة بسيطة مثل أزمة المرور لا تحتاج أكثر من مجرد إرادة للحل ، واتخاذ القرار المناسب البسيط الذى لو سألوا "الدهماء" من قائدي السيارات أمثالي عنه لوجدوه بدون عناء لأننا لا نحتاج لاختراع العجلة لأن الحل بسيط ومتيسر ومتوفر وموجود في كل أرجاء العالم ، سيبكم من أمثالي. ماذا لو أحضرت اللجنة "الحكيمة" طفلاً في الشهادة الابتدائية ووضعته في شرفة تطل على ميدان العتبة ، وسألته: ما الحل في رأيك لحل أزمة المرور في هذا المكان مع الوضع في الاعتبار إن الحلول من نوعية نسف الميدان أو حرقة أو قتل كل من فيه غير مقبولة لأنه قد تم تقديمها من قبل ورُفضت تماماً.

سيجيب الطفل ببساطة: المشكلة أنه لا يوجد نظام والحل هو وجود نظام.

وهنا سيشخط فيه أحد أعضاء اللجنة "الحكيمة" قائلاً:

وحياة أمك؟ ماحنا عارفين إن مافيش نظام! إيه الحل؟

سيجيب الطفل: الحل هو وجود نظام مراقبة.

أحد الحكماء: يعني إيه .. جبت التايهة يعني .. ماهو فيه عساكر!

الطفل: هو حضرتك (لامؤاخذه) أعمى؟ يعني مش شايف العساكر وهما شغالين سُياس ، وبيساعدوا العربيات أنها تركن صف تاني وتالت ورابع وفوق الرصيف؟ وأمناء الشرطة وهما بيمدوا إيديهم عشان مايحرروش المخالفات!

حكيم أول: أمال رقابة إيه؟ .. هانجيبلهم جن وعفاريت وشياطين يراقبوهم ولا بلورة سحرية؟ .. ماتفلقناش وحياة أبوك!

الطفل: الموضوع مش محتاج ولا جن ولا عفاريت ولا شياطين .. لكن ممكن بلورة سحرية تنقللك كل إللي بيحصل في الميادين والشوارع وتمنع المخالفة تماماً.

حكيم ثان: أنا مش قلتلكم ده عيل أهبل .. إنت جاي تهزر يا روح خالتك؟ هو ده الحل؟ بلورة سحرية؟

الطفل: أه والله العظيم .. بلورة سحرية إسمها شاشة في غرفة عمليات متوصلة بكاميرات بتلاته تعريفة موجودة في الميادين ومطالع الكباري والتقاطعات والمحاور والطرق السريعة يتم عن طريقها توجيه "الكونستابل أبو موتوسيكل" بتاع زمان عن طريق اللاسلكي لظبط وسحب رخص السيارات المخالفة والتي تم تحرير المخالفة لها عن طريق الكاميرات ، وخاصة النقل إللي على الشمال والتكاتك على الطرق السريعة والكارو فوق الكوبري والزفة إللي في النفق ، وأقسم بالله أنه في خلال أسابيع ستنخفض الحوادث 90% عن معدلها المهول الموجود حالياً ، وسيقل الزحام الناتج عن التكدس لأكثر من النصف ولن يبقى إلا عمل جراجات ومنع تراخيص المباني والمحلات الجديدة والشركات والمكاتب في وسط القاهرة لتختفي المشكلة تماماً.

حكيم ثالث: تختفي يعني إيه؟ وإحنا نشتغل إيه ساعتها؟

الطفل: ما أنتوا (ماتأخذونيش يعني) مالكوش عازة أصلاً ، ومرتباتكم أو مكافأتكم يتم توفيرها لعمل مفيد من إللي ذكرتهم دول.

حكيم أول: إيه رأيكم يا جماعة بتفكروا في إللي بفكر فيه؟

كلهم في صوت واحد: طبعاً .. إنت عندك شك؟

وأمام المبنى .... وأثناء محاولة المارة تفادي بعضهم البعض ، مع القفز فوق من يفترش الأرض بمشنة جبنة أو قفص عيش ، فوجئ الجميع بطفل يسقط من بلكونة الدور الثاني فوقهم ، ثم على الأرض ، ولكنه قام على قدميه وجرى بعيداً بسرعة ، وأحد الأشخاص يهتف من البلكونة فوقهم ملوحاً وصارخاً في الطفل الهارب: وحياة أمك يا إبن الكلب لو شفنا وشك هنا تاني لنرميك من الدور العاشر المرة الجاية.

رجع الحكيم إلى الداخل وباقي الحكماء يهدؤنه "كل بما يتيسر"

حكيم أول: ماتزعلش نفسك كده .. ده عيل مش متربي.

حكيم ثان: غير أنه غبي ومغفل .. كاميرات وكونستابل قال .. ليس بالإمكان أجمل مما كان؟

حكيم ثالث: وإنت إيه رأيك يا كبير؟ هنكتب إيه فى التقرير؟

كبير الحكماء: يعني هانكتب إيه يعني؟ هانقفل مطلع الكوبري ومدخل الميدان ونعمل U-turn هنا ولا هناك زي مابنعمل طول عمرنا .. ياكش تولع على إللي فيها .. قال تختفي المشكلة قال! .. عيل إبن ........

hesmostafa

أ.د. مصطفى ثروت

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 307 مشاهدة

أ.د. مصطفى ثروت

hesmostafa
هدف إنشاء الصفحة .. التواصل مع السادة الزملاء ومناقشة كافة الموضوعات التي تخص تطوير الأداء الجامعي »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

134,088