في حياتنا اليومية، في المحيط الدراسي أو المهني، أو ربما حتى العائلي، لابد أن نرى أشخاصاً يبدو عليهم ما يشبه أعراض داء نفسي، اسمه «جنون العَظَمة»، أو داء العَظَمة. أهم تلك الأعراض: إعطاء مقدرات الذات أهمية أعلى مما تستحق بكثير، والاقتناع بتلك الأهمية اقتناعاً لا يقبل إعادة نظر موضوعية.
يعرِّف علماء النفس «داء العظمة» بأنه حالة نفسية شاذة تنجم عن «تضخم الأنا» تضخماً مَرَضياً. ويؤكدون أن تجلياته تتمثل في انعدام قدرة المصاب على تقدير مقدراته الحقيقية تقديراً موضوعياً ودقيقاً (مقدراته بأنواعها: الجسمية والنفسية والمعنوية والمالية والمهنية والفكرية والاجتماعية... إلخ). كما قد تصل المغالاة في تفخيم الذات حد جعل المصاب يبلغ حدَّ الهذيان الفكري. وفي الأحوال كلها، ينبع داء العظمة من حب مفرط للذات، يفضي إلى طموح إلى السلطة لا يتناسب وأهمية المصاب الحقيقية. وفي الحالات القصوى، يظن المصاب يقيناً أنه مكلف بمهمة «روحية»، عليه تأديتها.
فمثلاً، قبل سنوات، في فرنسا، صَحَـا فـي عزّ الليل أحد أولئك المرضى النفسيين المصابين بـ«جنون العظمة»، فأخذ سيارته، وبدأ يسير في الخط الخارجي السريع في الاتجاه المعاكس. وبمعجزة، لم يحصل حادث مميت. إذ لاحقته الشرطة لمسافة 45 كيلومتراً قبل التمكن من إيقافه، بينما تمكنت سلطات الرقابة الإلكترونية من سد الخط السريع للسيارات الأخرى، تفادياً للحوادث. وبعد استجوابه، ذكر، وبكل صدق (بما أنه لا يعي إصابته)، أنه رأي النبي عيسى (عليه السلام) في طيف، فقال له إن الناس سائرون في الطريق الخطأ، وأمره بأن يرشدهم ويدلهم إلى الصراط المستقيم، وأوعز إليه بأن يقود سيارته على ذلك النحو لتنبيههم وإيقاظهم من غفوتهم، وما إلى ذلك.
إساءة استخدام المصطلح
وتلك حالة مثالية عن «جنون العظمة»، باعتباره من الأمراض العصبية المصنفة ضمن فئة الذهان، أي تلك التي لا يدرك فيها المصاب بأنه مصاب (بخلاف فئة العُصاب، حيث يكون المريض واعياً بإصابته، فيسعى إلى تخطيها، وغالباً ما يوفق في ذلك، بما أن الإدراك بالحالة أساس العلاج الناجع). فذلك الرجل المعتوه، الذي أساء تقدير قدراته وأخفق في إعطاء نفسه حق قدرها، كإنسان اعتيادي بسيط مُلزَم باحترام حقوق الآخرين وحياتهم، ظن صدقاً ويقيناً أنه مكلف غيبياً بتلك المهمة من جانب جهات عليا، اختارته دون غيره لهداية الناس، وعدَّ نفسه في خانة القديسين والحواريين، بالتالي من حقه عمل أي شيء، مهما تكن رعونته، في سبيل إنجاز المهمة التي اقتنع فعلاً بأنه مكلف بها. وهذه، طبعاً، من حالات «جنون العظمة» القصوى، بتعريفها من منظور التحليل النفسي.
لكن مصطلح «جنون العَظَمة»، بالإنجليزية «megalomania» ، وبالفرنسية «mégalomanie» أو «folie des grandeurs» حُرِّف كثيراً في الحياة اليومية، فصار يستخدم لحالات أشد وطأة بكثير، مثلاً في الحديث عن شخص يبالغ أحياناً في تقدير ذاته وإنجازاته، بالتالي يتطلع إلى طموحات غير متناسبة طردياً معها، بعبارة أخرى غير واقعية، إنما من دون أن تشكل مغالاته حقاً حالة نفسية مرضية من مفهوم التحليل النفسي، بل مجرد ميل مزعج إلى المغالاة. وهذه حالات كثيرة، لا يندر أن نصادفها في الحياة اليومية. فنعلق، بعفوية، «حقاً إنه (أو إنها) من المصابين بجنون العظمة». وغالباً ما نكون على خطأ في تقديرنا، فنسيء استخدام المصطلح، أقله من منظور الطب النفسي، الذي يعطي تشخيصاً أكثر دقة لحالة داء العظمة الحقيقي.
فمثلاً، بالنسبة إلى شارل لاسيج (Charles Lasègue 1816-1883)، « يشكل تفخيم الذات إحدى أكثر حالات المرض النفسي شيوعاً». وأوضح الطبيب النفسي الفرنسي، في كتابه «عن «داء العظمة» وهذيان الطموح»، أن ذلك الاضطراب النفسي يرافق تقريباً أنواع الجنون الأخرى كافة». ففي رأيه، يشكل ما يدعوه «هذيان الطموح»، بعبارة أخرى داء العظمة، متلازمة شبه دائمة للأنواع الأخرى (تقريباً كلها من دون استثناء) من الأمراض العقلية الشائعة. لذلك، اهتم لاسيج اهتماماً خاصاً بتشخيص داء العظمة، لغاية تشخيص أي اختلال عقلي آخر محتمل، قد يكون المريض مصاباً به. وبحسب رأي المتخِّصص، فإنَّ داء العظمة تعبير عن «شلل عقلي تام». أضاف أن ذلك الشلل العقلي يكون مصحوباً «بهذيان فكري في شأن السلطة والرغبة والثراء والجاه والقدرة البدنية، تشكل في مجموعها جوهر الهذيان النفسي».
زعماء الملل الباطنية
كما أكد لاسيج أن «الشلل العقلي الذي ينجم عنه «داء العظمة»، يكون مصحوباً باضطراب في الذكاء، ولابد أن يفضي إلى اضطرابات أخرى تتجاوز داء العظمة نفسه». إذ من الجدير القول إنَّ لاسيج كان يعدُّ الاضطرابات العقلية وحدة واحدة متكاملة، أي أن الإصابة بأحدها تنعكس على العقلية العامة للمصاب، فتتراكم عنده مجموعة اضطرابات ولا يؤمن بنهج عالم آخر، اسمه أسكيرول، ينصب على التفريق بين مظاهر الاضطراب العقلي، ويرتكز على أساس إمكانية أن يكون اضطراب ما منعزلاً، بالتالي ينبغي معالجته على انفراد. أما لاسيج، فدعا إلى «التصدي للاضطرابات النفسية كلها»، مع البدء بـ«جنون العظمة»، الذي يشكل، في رأيه «مرحلة أولى، لا مناص منها، لبلوغ أنواع الاضطرابات الأخرى، تتمثل بادئ ذي بدء في فقدان القدرة على رؤية الواقع، ثم القدرة على تكييف الذات عليه، لا العكس. فالمصاب يظن قطعاً أن العالم سيتكيف على أهوائه ورغباته، بينما المعافى نفسياً يحرص على تكييف رغباته وفقاً للعالم، ولِـمَـا هو متاح وممكن».
على صعيد آخر، لوحظ أن العديد من زعماء الملل الباطنية المشبوهة كانوا مصابين بـ«داء العظمة». فهم أيضاً، مثل ذلك السائق الذي زاره النبي عيسى (عليه السلام) في المنام، يظنون أنفسهم مكلفين بمهمات روحية، مع أن أكثرهم نصابون محتالون، لا يتطلعون إلى شيء سوى بسط سلطتهم على نفر من أناس بسطاء سذج، وتجريدهم من ممتلكاتهم وأموالهم (وأحياناً حتى نسائهم)، والتمتع بها لإشباع رغباتهم النابعة من جنونهم نفسه، أي إصابتهم بداء العظمة. ودرَس هذه الظاهرة، بشكل علمي قائم على أسس التحليل النفسي، علماء نفس كثيرون، منهم الفرنسيان هنري إي (H. Ey) وبيرنار بريسيه (B. Brisset)، والألماني أميل كراپلن (E. Kraeplin, 1856-1926) .
يصيب الطغاة والمستبدين
إذ، بخلاف لاسيج، يشير بعض المتخصصين، إلى أنَّ «بعض المصابين بـ«داء العظمة» يمتازون بذكاء حاد، وقدرة كلامية، وأحياناً مقدرات تنظيمية هائلة، تتيح لهم جمع عدد من المعجبين والمغرَّر بهم حول شخصهم. وفي البداية، يكون الأمر فولكلورياً، مثيراً للسخرية والضحك. لكن، في حال تلاقي ظروف مواتية، تتيح للمصاب تَسنُّم سلطة ما، تتحول المسخرة إلى أمر جاد، لا يندر أن ينتهي بتأسيس ملة، ولا يندر أن تتخذ الملة أبعاداً كبيرة من التأثير والنفوذ، على الرغم من أنها نبعت أصلاً من حالة مرضية، بالمفهوم النفسي. ويأتي بعض الدارسين بمثال المدعو لندون لاروش (L. LaRouche)، الذي تمكن، في ثمانينات القرن الماضي، من أسر لبِّ عدد من السياسيين الأميركيين، بمن فيهم الرئيس وقتها، رونالد ريجان. وقدر على تشكيل ملة قوية، استقطبت حولها عدداً باهراً من أقطاب الـ«لوبي» الصناعي والعسكري، وابتزازهم عبر التفذلك بنظريات، في البداية قائمة على أساس علمي حقيقي، لكن مع تحريفها وجعلها تبدو نابعة من خياله.
ولوحظ أيضاً أن« داء العظمة» مرض عقلي لا يندر وجوده بين القادة الطغاة والمستبدين. وفي هذا الشأن، يشار إلى أدولف هتلر (الذي، هو أيضاً، أساء تقدير قوته، فدفع بجيوشه إلى روسيا، ما أدى إلى اندحاره)، وإلى نابليون بونابرت (الذي عانى الحالة نفسها تماماً: بالغ في تقدير قوته، ما يعد من علامات جنون العظمة، فزجَّ بقواته في روسيا، ما أدى إلى اندحاره، هو أيضاً).
ولدينا حديثاً مَن ثبت إصابتهم بهذا الداء وعاشوا حياتهم العامة متوهمين أنهم الصفوة أمثال الرؤساء معمر القذافي ، حسني مبارك وبطانته ، زين العابدين ، على عبد الله صالح والعديد من قادة الشرق الأوسط والعالم.
كما سَعَى بعض المحللين النفسيين إلى إيجاد رابط بين «جنون العظمة» وحالات مجرمين شهيرين، خاصة قتَـلَـة متسلسلين، فوجدوا أيضاً أن العديد منهم عانى فترة «جنون العظمة»، فقاده الإحباط إلى التصرف تصرفاً إجرامياً. وعلى ذكر الإحباط الناجم عن اصطدام «هذيان الطموح» بالواقع، ثمة حالة تخص النساء، سماها العلماء الـ«بوڤارية» «Bovarysme» ، نسبة إلى شخصية «مدام بوڤاري»، وهي شخصية لرواية ألّفها في القرن التاسع عشر الكاتب الفرنسي جوستاڤ فلوبير «Gustave Flaubert». فمدام بوڤاري تلك، قبل زواجها، أي عندما كانت فتاة، كانت تفرط في قراءة القصص الرومانسية، ما جعلها تحلم أحلاماً طائشة، تتسم بـ«جنون العظمة»، وتتطلع إلى الارتباط برجل ذي سلطة، أو جاه كبير. لكن، اصطدمت بالواقع، فتزوجت رجلاً تافهاً، السيد بوڤاري، لم يكن ليحقق لها 1 في الألف من أحلامها المجنونة. فباتت، بسبب الإحباط، تتجه نحو الهروب إلى الأمام، والانصياع لغريزة «تدمير الذات». ويرى المتخصصون أنّ هذه الحالة تصيب النسوة أكثر من الرجال.