عيد وفاء النيل
محمد شهاب
تحتفل مصر فى النصف الثانى من أغسطس بعيد يسمى (عيد وفاء النيل)، هوا أحد الأعياد المصرية التي ترجع إلى العهد المصري القديم منذ سبعة الآف عام, لاحظ المصريون فيضان النيل، واعتبروه مؤشراً لبداية العام في التقويم المصري القديم حوالي منتصف شهر أغسطس حاليًا عندما كان النهر يبدأ في الارتفاع، ويميل لونه إلى الحمرة ليبلغ ذروته في سبتمبر ثم تبدأ المياه في الإنخفاض مع نهاية فصل الخريف لتصل إلى أدنى مستوياتها في مايو من كل عام،واهتم المصريون بتسجيل ارتفاعات الفيضان من خلال العديد من مقاييس النيل المنتشرة على امتداد مجراه، واعتبروا أن ارتفاع النهر بمقدار 16 ذراعًا كان يمثل المستوى الأمثل للفيضان الذي يتم على أساسه تقدير ناتج المحاصيل والضرائب المستحقة على الأرض.
ونظراً لحاجة المصريين الدائمة لتجديد الفيضان فقد أكدت الديانة المصرية القديمة ضرورة القيام بعدد من الطقوس كل عام قبيل وأثناء قدوم الفيضان أملاً فى أن تهب الآلهة أرض مصر فيضانًا وفيراً دون انقطاع، وعلى الرغم من ندرة الدلائل على هذه الطقوس إلا أن أقدمها يعود لعصر الدولة الوسطى في القرن 20 ق.م. وهى المعروفة "بأناشيد النيل" التي تمتدح النهر وتخبرنا عن الوفاء بقربان كبير من الماشية والطيور له عندما فاض على وجه الأرض.
كذلك حفظت لنا سفوح جبل السلسة شمال أسوان ثلاث لوحات مسجلة بالخط الهيروغليفي تحتوي على ثلاثة مراسيم تعود لعصور الملوك سيتي الأول ورمسيس الثاني ومرنبتاح في الفترة ما بين 1300 ــ 1225 ق.م. حيث تقر هذه المراسيم بأن تقام الاحتفالات للإله حابي في السلسلة مرتين في العام مع أعلى وأدنى ارتفاع للفيضان، وأن يتم خلالها التقرب للنيل بالتقدمات التي تحتوي على قرابين مختلفة من الحيوانات والخضروات والزهور والفاكهة، وكذلك عدد من التماثيل الصغيرة لإله النيل نفسه، وأشارت هذه المراسيم أيضًا إلى "إلقاء كتاب حابي Hapi " الذي كان عبارة عن لفافة من البردي تحتوي على قائمة من القرابين، حيث يتم حرقها على مذبح أو تلقي في النهر، واحتفظت لنا بردية "هاريس" حوالي 1150 ق.م. بقائمتين كبيرتين من القرابين لحابي Hapi وكان أكثر ما يميزها هو قربان التماثيل التي أطلق عليها صور "حابيHapi " إله النيل والذي يعني قديما الوسيلة الرئيسية للمواصلات والنقل بين الوجهين القبلي والبحري، وعمليات التجارة ونقل المنتجات والبضائع للصعيد والدلتا، وكذلك نقل الجرانيت والأحجار المستخدمة في بناء الأهرامات التي جاءت من أسوان عبر نهر النيل.
يقول عالم الآثار المصرى زاهى حواس: تماثيل الإله “حابى Hapi” منتشرة فى أماكن عديدة، ويعد أشهرها التمثال الموجود في بريطانيا(فى الصورة المصاحبة)، إضافة إلى تمثال Hapi استخرجته بنفسي من معبد رمسيس الثاني فى “أخميم” فى صورة رائعة يجمع فيها بين وجهي مصر القبلي والبحرى.وهناك تمثال آخر في معبد أبو سمبل، وتنتشر جداريات وأشكال “حابي Hapi” بشكل عام في جميع المعابد المصرية نظرا لقدسيته عند جميع المصريين، وارتباطه بالنهر المقدس الذي قالت الروايات الفرعونية إنه نتاج دموع الإلهة “إيزيس”.
كان تقديس النيل في مصر القديمة واستخدام مياهه للتطهر من أجل الطقوس الدينية وغسل المتوفى وكانت عملية الاغتسال بماء النيل علاوة على المعنى الملموس للنظافة تمثل رمزًا لطهارة النفس روحيًا من كل شائبة والتى استمرت في الحضارة القبطية فيما بعد ويشير نص قديم إلى أن “من يلوث ماء النيل سوف يصيبه غضب الآلهة” وهناك اعترافات للمصرى القديم في العالم الآخر بما يفيد عدم منعه جريان الماء درءًا للخير، كما ورد في الفصل ١٢٥ من نص “الخروج إلى النهار (كتاب الموتى)” لم أمنع الماء في موسمه، لم أقم عائقًا (سدًا) أمام الماء المتدفق، وفي نص مشابه على جدران مقبرة “حرخوف” في أسوان عدد صفاته أمام الإله من بينها “أنا لم ألوث ماء النهر…لم أمنع الفيضان في موسمه… لم أقم سدًا للماء الجاري… أعطيت الخبز للجوعى وأعطيت الماء للعطشى” وارتبطت أسماء معبودات بنهر النيل أشهرهم الإله “حعبي”، الذي يمثل فيضان النيل سنويًا ومصدر الحياة الأولى (بداية الخلق) ومصدر الحياة الأولى للمصري القديم.
الفراعنه كانوا يحتفلوا به بإلقاء دمية على شكل فتاة جميلة فى النيل (و قيل -على غير الحقيقة-انهم كانوا يلقوا بفتاة جميله فى النيل فى هذه المناسبة و كان يتم تزيينها وإلقاؤها فى النيل كقربان له، ولا يوجد نص صريح فى التاريخ يروى أن المصرى القديم كان يقدم قربانا بشريا "عروس النيل" احتفالا بوفاء النيل).
نهر النيل سببا مهما فى هذه الحضارة العظيمة وبناء الأهرامات الشامخة وبقائها حتى الآن، و لولا النيل لكانت مصر صحراء بلا نبات ولا ماء ولا استقرار، فالنيل جعل لمصر دورة زراعية كاملة وحول الأرض السوداء إلى أرض خضراء مثمرة.تعلم المصريون من النيل تنظيم حياتهم والاستقرار والزراعة، وبناء السفن، كما تعلموا منه الثقافة والتعايش والاستقرار، ومن النيل تعلم المصريون بناء الأسرة.
وفقًا لوزارة الموارد المائية والري، يحتفل المصريون بيوم وفاء النيل في 15 أغسطس من كل عام، وفي الماضي أُطلق على يوم وفاء النيل «عيد جبر النيل»، وفي العصر المملوكي والفاطمي كان المصريون يحتفلون بيوم وفاء النيل بمنطقة فم الخليج قرب جزيرة الروضة، ويعني يوم وفاء النيل أنّ مياه الفيضان تفيض بالقدر الكافي عن مجرى النيل، وأنّ النيل وفي للمصريين بعهده السنوي بالفيض على جانبيه، حيث يحمل الخير لأهل مصر، وقديمًا قدّس المصريون نهر النيل. وأوضحت الوزارة أنّه أُشير قديمًا إلى يوم وفاء النيل بأنّه البداية الحقيقية للسنة المائية الجديدة، إلا أنّ وزارة الري تؤرخها في الأول من أغسطس، وهذه دورة طبيعية مهمة في مصر منذ العصور القديمة، حيث يظل فيضان النيل مستمرًا لمدة تصل إلى 3 أشهر مُتصلة تبدأ من أغسطس وحتى سبتمبر، وتبلغ ذروة الفيضان في أغسطس، ثم تنخفض تدريجيًا حتى تتراجع نهائيًا في أكتوبر، ويتم حسابه في يوليو من العام المقبل.
ساحة النقاش