لم يكن يحلم البشر أنه سيأتي يوم من الأيام تتحول فيه فضلاتهم ومخلفاتهم إلى ثروة لا يستهان بها، بل وتصبح «القمامة» أحد أهم مصادر الدخل القومي في بعض الدول، وسوقا للتجارة فيما بينها. ومع ذلك لا تزال القمامة تمثل صداعا مزمنا بالنسبة لدول أخرى وعلى رأسها مصر، نظرا لعدم وجود استراتيجية سليمة للتصرف فيها، حيث تكتظ بها شوارع البلاد، وتسهم في انتشار الأمراض والأوبئة وتشويه المنظر الحضاري، بعدما فشلت الحكومات المصرية المتعاقبة في التعامل مع هذه المشكلة وإيجاد حلول جذرية لعلاجها، بل إن الأمر وصل إلى حد التعاقد منذ عدة سنوات مع شركات عالمية من أجل التخلص منها لكن دون جدوى.
وفي أعقاب ثورة 25 يناير، حاول مجموعة من العلماء المصريين معالجة المشكلة من جذورها، والسير في ركب الدول المتقدمة وتحويل هذه القمامة إلى مورد اقتصادي مهم، مما دفعهم لإعداد مشروع يتم من خلاله استغلال تلال القمامة التي تمتلئ بها شوارع مصر في توليد طاقة تعادل ربع الطاقة المستهلكة من البترول المنتج في مصر، بحسب معدي المشروع، بجانب توفير 18 إلى 28 مليار جنيه (3 – 4.7 مليار دولار تقريبا) كأرباح سنوية إضافية.
«الشرق الأوسط» التقت معدي هذا المشروع في محاولة للتعرف عليه عن قرب.. في البداية أوضح الدكتور حسن فهمي، أستاذ ميكانيكا الصخور والمنشآت الجوفية والجيولوجيا الهندسية بجامعة القاهرة، أن «القمامة التي تعد إحدى المشكلات المزمنة بالنسبة للمصريين هي في الأساس ثروة قومية من الممكن أن تمثل أحد مصادر الدخل القومي لمصر، بدلا من أن تكون مصدرا للاستدانة بملايين الدولارات كما حدث من قبل عندما تعاقدت الحكومة مع شركات أجنبية للتخلص منها دون فائدة. فعن طريق إعادة التدوير المتكامل لما تضمه هذه القمامة من ورق وزجاج ومواد بلاستيكية ومخلفات عضوية وزراعية وصناعية وغيرها، يمكن تحقيق ما يقدر بنحو 18 إلى 28 مليار جنيه كعائد سنوي يضاف إلى ميزانية الدولة، إلى جانب توليد طاقة من هذه المخلفات توازي الطاقة الناتجة عن ربع البترول المستهلك في مصر، وهذه الطاقة ستكون قابلة للاستخدام مباشرة دون الحاجة للمرور بمحطات تكرير وتنقية مثل البترول».
وعن فكرة المشروع يقول الخبير الاقتصادي محسن كريم، استشاري التمويل والتسويق بالمشروع: «تعامُلنا مع أكوام القمامة الملقاة في الشوارع لا ينتهي عند كلام الصحف، التي تتناول المشكلة فيتم البحث عن حلول جزئية لها مثل القيام بنقلها إلى خارج كردون المدن، دون البحث عن حل عملي.. لكن هذه المشكلة لن تنتهي فعليا إلا إذا أيقنا أن عملية الجمع والنقل هذه هي جزء من كل، فيجب أن تكون هناك طرق لتحويل هذه القمامة إلى شيء مفيد، أو على الأقل حرقها لكن بطريقة علمية لتوليد الكهرباء.. ففكرنا وتدارسنا بشأن كيفية الانتفاع من هذه القمامة وتحقيق أقصى استفادة منها، فتوصلنا إلى طريقتين أساسيتين لذلك، الأولى استخدامها في توليد الكهرباء، التي نعاني من مشكلة ونقص كبير فيها، والطريقة الثانية الحصول منها على الإيثانول (الكحول الإيثيلي) والديزل، وهذان المركبان يعدان مصدرين مهمين من مصادر الوقود، من الممكن إضافتهما إلى البنزين واستخدامهما في تسيير المركبات، مما قد يتيح للحكومة تقليل الدعم الموجه للبنزين، أو إلغاءه كليا في ما بعد في حال التوسع في استخدام هذين المركبين بدلا منه حال تحقيق شروط ذلك».
وعن كيفية الحصول على هذا الوقود من القمامة، أوضح الدكتور بهجت الخولي، أستاذ كيمياء المواد الحيوية بالمركز القومي للبحوث، أنه «يتم فصل المخلفات الصلبة مثل البلاستيك والورق والزجاج وغيرها عن المخلفات العضوية مثل بقايا الطعام وما شابهها والتي تحتوي على مادة الكربون، ويتم تجفيف هذه المخلفات العضوية ثم تجزئتها لقطع صغيرة وطحنها، وإجراء عملية احتراق غير كامل لها بإحدى طريقتين، أولاهما غير مكلفة وفي الوقت نفسه ذات جدوى اقتصادية كبيرة، وتتم عن طريق التسخين المباشر للمخلفات بإدخالها مفاعلا حراريا، وينتج عن عملية الاحتراق هذه ما يسمى بالغاز الصناعي، وهذا الغاز هو عبارة عن خليط من 3 غازات هي أول أكسيد الكربون والهيدروجين بجانب ثاني أكسيد الكربون بنسبة قليلة، ويتم تحويل هذا الخليط الغازي إلى إيثانول بإحدى طريقتين، الأولى بيولوجية عن طريق بكتيريا دقيقة تتغذى عليه وتقوم بتحويله مباشرة إلى إيثانول، والثانية كيميائية عن طريق إجراء تفاعل كيميائي في وجود عوامل مساعدة مثل الحديد أو النيكل، وينتج عن هذا التفاعل الإيثانول والديزل (الوقود الحيوي) بجانب عدة مركبات عضوية أخرى نافعة ولها استخدامات متعددة في مجالات صناعية كثيرة.. ومركب الإيثانول وحده له استخدامات متعددة، ولنا أن نعرف أهميته إذا علمنا أنه يستخدم كبديل للبنزين في تسيير المركبات في دول مثل أميركا والهند والبرازيل، فالأخيرة 80 في المائة من سياراتها تسير بالإيثانول».
ويضيف الدكتور بهجت: «الطريقة الثانية لتعريض هذه المخلفات للاحتراق هي طريقة حديثة عن طريق تكنولوجيا تسمى البلازما، وهي تكنولوجيا معروفة لكنها غير منتشرة.. وتتم باستخدام أقطاب كهربية وسط المخلفات المجففة، وتمرير تيار يقوم بعمل تفريغ كهربي لتوليد قوس كهربي هو عبارة عن مجال من الغاز المتأين يتم التحكم في درجة حرارته لعمل الاشتعال اللازم لهذه المخلفات، لينتج الغاز الصناعي ويتم التعامل معه بإحدى الطريقتين سالفتي الذكر».
وحول الجدوى الاقتصادية لهذا المشروع يقول الدكتور فهمي: «هذا المشروع لا يحتاج من وجهة نظري إلا لأمرين فقط، أولهما الأيدي العاملة المخلصة، وهي متوافرة الآن في مصر في ظل نسبة البطالة المرتفعة التي تعاني منها البلاد.. وثانيا التمويل المحلي للإنفاق على مختلف مراحل المشروع، وهذا التمويل سيكون أقل بكثير مما كانت تدفعه الحكومة للشركات الأجنبية بالعملة الصعبة بلا فائدة، ودون عائد من ورائه، وللعلم فإن الحكومة ما زالت حتى الآن تقوم بتحصيل رسوم نظافة على فاتورة الكهرباء، قدرتها إحصاءات بنحو 7 - 8 مليارات جنيه سنويا على الأقل ولا يعرف أحد إلى أين تذهب، وهذه المليارات لو تم توفير جزء منها لإنجاز هذا المشروع فإن العائد على الاقتصاد القومي من ورائه سيكون كبيرا جدا».
ويؤكد الخبير الاقتصادي محسن كريم أن أحد العوامل المهمة لإنجاح المشروع المشاركة الشعبية، والتي تتمثل حسب رأيه في أمرين «أولا: عن طريق الإسهام في فصل المخلفات من المنبع، نظير عائد مادي، فعلى سبيل المثال سيتم إعطاء كل شقة أو محل نوعين من الأكياس، أحدهما للمخلفات العضوية مثل بقايا الطعام، والثاني للمخلفات الصلبة مثل البلاستيك والزجاج ونحوهما، فهذا سيمثل عاملا مساعدا جدا في بداية مرحلة التجميع. وثانيا: المشاركة الشعبية في التمويل، وسيكون ذلك عن طريق سندات يحصل من خلالها المساهم على عائد سنوي جيد، بجانب عائد تراكمي في نهاية المدة، وهذه الطريقة يفهمها جيدا كثير من المصريين الذين يعيشون على مدخراتهم.. فهذه الطريقة ستكون ذات عائد جيد للمواطن، كما أن المخلفات الصلبة سيكون هناك مقابل إضافي لها في مراحل لاحقة من المشروع، حيث إن هذه المخلفات مثل البلاستيك والورق والزجاج تقوم الصين حاليا باستيرادها مقابل ثمن زهيد، ثم إعادة تدويرها وتصديرها إلينا مرة أخرى على شكل منتجات استهلاكية جديدة، فنحن عن طريق إعادة التدوير الكامل لهذه المخلفات سيمكننا تحقيق عائد إضافي كبير. أضف إلى ذلك أن مصنع الإيثانول الواحد لن تقل مبيعاته عن مليار جنيه سنويا. وسيشعر المواطن بشكل فعلي بعائدات هذا المشروع بعد عامين فقط من بدء تنفيذه».
ويلتقط الدكتور حسن فهمي طرف الحديث مرة أخرى، ليؤكد أن «من أهم عوائد هذا المشروع توفير مصادر غير تقليدية للطاقة المتجددة لا تفنى (فالقمامة لن تنتهي أبدا)، وكذلك توفير المليارات من الجنيهات التي ستسهم بقوة في دعم الدخل القومي للبلاد، إضافة إلى تشغيل آلاف العاطلين الذين لا يجدون عملا يتكسبون منه قوت يومهم».
ويختتم الدكتور بهجت الخولي بالتأكيد على أن «مصر من وجهة نظري مرشحة بقوة لتكون إحدى الدول الرائدة المنتجة للغاز الصناعي المستخدم في صناعة الوقود الحيوي، خاصة أنها حاليا تقوم بتنفيذ عمليات الاحتراق المذكورة للقمامة لاستخدامها في صناعة الأسمدة، لكن الطريقة الحالية من وجهة نظري لا يتم من خلالها الاستفادة سوى بنسبة 10 – 15 في المائة فقط من المخلفات مقارنة بالاستفادة التي قد تصل إلى 95 في المائة منها في حالة التعامل معها وفق المشروع المعد».
ساحة النقاش