حاول علماء النفس سبر سرّ الابتكار انطلاقاً من الاختبارات الإبداعية إلى النفسية العبقرية, فتوصلوا إلى استنتاجات ذهبت إلى عكس فرضياتهم الأولية...
"أعطِ خلال دقيقة واحدة أكبر عدد ممكن لأسماء علَم تبدأ بحرف الميم!" "اِبحث عن أقصى استعمالات ممكنة للبوق!" هذا هو نوع الأسئلة الذي يشكل مجموع الاستقصاءات المتعلقة بالإبداع. تقنيات الابتكار الأدبي, تستند إلى المبدأ نفسه: المهم تأليف قصة صغيرة انطلاقاً من بعض الكلمات (فيل, نيويورك, كامامبير, تضخم مالي, غيرة..).
تجدر الإشارة إلى أن في هذه التمارين, يحرَّض الإبداع دوماً وفق قاعدة. الضغط والإكراه لا يحدَّان من الابتكار, بل يشحذانه. فوفق هذا المبدأ, كتب جورج بيريك رواية بأكثر من 300 صفحة – "الأفول"(1969) – دون أن يستخدم ولا لمرة واحدة الحرف e"", وهو الحرف الأكثر استعمالاً في اللغة الفرنسية.
كيف نصبح عباقرة؟
لقد تم اختراع أولى الاختبارات في الإبداع عام 1950. في تلك الفترة, كان اختبار الذكاء سائداً في دراسة الكفاءات الفكرية. وكان جوي غيلفورد حينها من الشخصيات السائدة في علم المقاييس النفسية, فكَّر في تكوين اختبار لقياس القدرات الإبداعية. وعند مقارنة النتائج مع اختبار الذكاء اكتشف أن الخصائص الإبداعية لا تنطبق مع خصائص الذكاء: والدليل أنه بالإمكان أن يكون الإنسان مبدعاً جداً دون أن يكون بالضرورة ذكياً جداً (والعكس صحيح, يمكن أن يكون ذكياً دون أن يكون مبدعاً).
فحاول غيلفورد حينذاك أن يفهم إلى أي كفاءات يستند هذا الإبداع, وخلص إلى وجود "فكر متشعب". فبينما اختبار الذكاء هو المقدرة على إيجاد الجواب الملائم لمسألة ما, فإن الإبداع هو في المقدرة على تخيّل مجموعة متنوعة من الحلول: ومن هنا أتى التعبير "فكر متشعب" (الجدير بالذكر أن مقولة "فكر متشعب" فرضت نفسها من طبيعة الاختبارات نفسها, تماماً مثلما تفرض اختبارات الذكاء ضمنياً تعريفاً للذكاء بشكل فعلي ومنطقي – رياضي).
إن المقاربة التجريبية التي بادر بها غيلفورد وإيلليس, سوف تطبع لاحقاً كل الأبحاث المخبرية حول الإبداع بطابعها. وبذلك تطورت الدراسات المثمرة حول الأساليب المعرفية أو حول تطور الإبداع مع تقدم العمر.
هناك ميدان آخر لدراسة الإبداع يبحث في نفسية "العبقري". كيف يفكر ليونار دي فنشي, أو موزار, أو بيكاسو, أو أينشتاين, إلخ. وكل الذين أحدثوا ثورة في مجالهم, في الفنون, والعلوم, والتقنيات؟ إن المفهوم الذي قاد كمية الأعمال المخصصة للـ"عباقرة" استند لمدة طويلة من الزمن إلى فكرتين ضمنيتين. أولهما إن الإبداع يعود إلى شخصية متميزة, ثم إن العباقرة هم مبتكرون, منفصلون عن أفكار عصرهم. فأينشتاين هو ذاك العالم الصاخب, الذي تطور على هامش المؤسسة العلمية, والذي يمد لسانه للسلطات؛ وموزار أيضاً كان فتى شغبٍ لا يطاق, مقاوماً للأعراف ودعباً ظريفاً. وبما أن الخارجين عن المألوف, الحديين المشوشين فكرياً أو حتى أنهم مجانين حيث نجد منهم بين الفنانين (أمثال فنسان فإن غوغ وهو رمزهم), يصبح من السهل استنتاج أن العبقرية والجنون يتطابقان مع بعضهما بعضاً.
هناك فكرة أخرى ترد غالباً تعود إلى "وجَدتُها eurêka". العديد من المخترعين, وعلماء الرياضيات, والمبدعين وصفوا بعض مكتشفاتهم بشكل حدس مفاجئ – كـ"اوريكا" الشهيرة التي نطقها أرخمديس. وصف علماء النفس هذه الظاهرة بالتعبير "فطنة «?insight وهي إعادة بناء عناصر متباينة تظهر بشكل وحي.
يؤكد عالم النفس الأمريكي "ميلاهي سيكزنتميهالي أن هذه الأوقات المتميزة في الاكتشاف تأتي بغتة في حالة فكر فريد, إنه "الفيض" الذي يتوافق مع فترة انتباه متردد حيث يكون العقل شارداً.
أسطورة المبدع المنفرد
لكن لكثرة ما تم التنقيب الشديد في الأسرار الحميمة للعبقرية, وبعد التنقيب في حياتهم الخاصة وتاريخها, خلص الاختصاصيون شيئاً فشيئاً إلى استنتاجات أقل بطولية وأقل تميزاً مما تخيلوه في السابق.
وبرأي روبير وايزبيرغ وهو أحد الأوائل من الذين أعادوا طرح نموذج "العبقري المبدع", أن السيرة الذاتية لكبار المبدعين توحي غالباً بأنهم أشخاص مثابرون ومتصلبو الرأي (عندهم بعض الأفكار الثابتة وليست أفكاراً متشعبة) وهم يعملون بشكل دؤوب, معاكسة لصورة الهاوي الانفعالي التي تكشف سر الجاذبية عندما شاهد التفاحة تسقط من شجرة. العلماء أو الفنانون الاستثنائيون هم بشكل عام خبراء بقوة العلم أو بفن عصرهم: فهم ليسوا أبداً هواة لطفاء يبحثون وينقبون بمعزل عن الممرات المدروسة. كان ذلك حال أينشتاين وبيكاسو. وقد برهنت الاكتشافات المتزامنة أن التجديد يحلق في سماء العصر, وأن الاختصاصيين في مجال ما من المجالات, يصطادون على البقع الأرضية نفسها وفي الوقت نفسه وبالاستراتيجيات ذاتها.
وخلاصة القول, إنه من الصعب جداً إيجاد سمة موحدة لأشكال الإبداع التي تعبر عن نفسها في الفنون والعلوم والتقنيات.. وقد استنتج هوارد غاردنر وهو منظر "الذكاء المتعدد" إنه يوجد أيضاً إبداعات متعددة, وذلك وبعد أن سبر أغوار السيرة الذاتية للرجال العظماء مثل أينشتاين وإيغور سترافنسكي.
أجرى عالم النفس دين كيث سيمونتون دراسات حول سير حياتية لمئات الشعراء والمخترعين وعلماء رياضيات مشهورين بأنهم مبدعون في مجالاتهم. وفي نهاية أبحاثه "في دراسة تاريخية" خلص إلى النتيجة التالية: هناك بالتأكيد عمر وسطي يكون فيه الإبداع في أعلى درجاته وهو سن الشباب البالغ الراشد (بين 35 – 40 عاماً) لكن ذلك لا يصح لكل المناهج: ففي الموسيقى والفلسفة, يمكن أن يكون الإنسان مبدعاً في سن متقدمة. ويصر سيمونتون أيضاً على أن هناك عوامل أخرى كثيرة غير الشخصية والعمر, تؤثر على الإبداع. إنه من الصعب جداً أن يصبح الإنسان مبدعاً في مرحلة ليست كذلك. وبالمقابل, هناك فترات وسياقات تدفع إلى الإبداع. فينبغي أن تترافق الديناميكية الفردية مع وسط ملائم حيث فيه يمكن لبعض الإبداعات أن تنمو وتزدهر.
خلص علماء النفس إذاً إلى النتيجة التي مفادها: إنه لا يوجد إبداع واحد فقط بل عدة أشكال من الإبداع وإن الأشخاص الأكثر إبداعاً هم الذين يجمعون الحافز والمثابرة والابتكار والأصالة بدل سمة واحدة, وأن الثقل المحرِّض للوسط هو شأن أساسي, وأخيراً, خلاصة الموضوع أن العبقرية ليست حالة خارقة كما نظن. ويصح القول أيضاً إن هناك قبساً من العبقرية في كل واحد منا.
الخيال: موهبة عادية
فإذا كان الإبداع ليس علامة تمييز بل على العكس هو عمل ذهني تافه؟ هذه هي الفكرة التي يدافع عنها اليوم بحاثة نفسانيون وفلاسفة واختصاصيون في العلوم المعرفية من الذين يهتمون بالعقل المخترع (المتخيل).
وإذا تجاوزنا اختلافاتهم, الجميع يتشاركون بمقاربة جديدة للخيال تستند إلى بعض الأفكار المفصلية.
الخيال هو خاصية أساسية في المعرفة الإنسانية. ويُفهَم بمعناه الواسع في المقدرة على إنتاج صور ذهنية وعلى إشراكها لتشكيل "عوالم ممكنة": استشراف, تصورات, لكن أيضاً فرضيات عادية (أو "إقصاءات").
هذا الخيال يأخذ شكل صور ذهنية, ذات طبيعة إدراكية بشكل أساسي (بصرية, صوتية, انفعالية), منظمة وفق مخططات مبسطة (أو نماذج أصلية يحتذى بها) وقسرية: عندما نتخيّل أشخاصاً من خارج الأرض, تأخذ صورتهم في مخيلتنا شكل أناس صغار خضر أو لهم ثلاث عيون وخمسة اذرع: فالخيال لا يقوم سوى بتجميع عناصر معروفة بشكل جديد. ففي واقع الأمر, الخيال فقير.
المقدرة الخلاقة تستند وفق ماكس ترنر Max Turner إلى التماثل الذي تكمن آليته في إيجاد تشابهات مخبأة بين عناصر تكون ظاهرياً متباينة, والفكر المتماثل هو أحد دعائم الإبداع (في الفن وفي العلم).
العمل: الإبداع الخفي
في العمل, لا يُحَدّ الإبداع بالمبدعين من مصممين ومهندسين معماريين, بل هو يطال جميع المهن حتى في المكان الذي لا ننتظره فيه: عند صانع الحلوى, وعند الشرطي... لكن هذا الإبداع العادي هو غالباً مجهول ومخفي, ولأسباب ضبابية.
في عام 2004, أثار إصدار كتاب "صعود الطبقة المبدعة لريتشارد فلوريدا انتباه الجمهور.
يؤكد مؤلفه أن تطور المدن يستند من الآن فصاعداً إلى مقدرتها على جذب "الطبقة المبدعة" المؤلَّفة من مفكرين ومهندسين, ومعلوماتيين, ومهندسين معماريين, ومصممين وفنانين.
كان نجاح الصيغة فورياً. وأصبح الحديث يدور في ندوات القادة المحليين وخبراء التنمية, ليس فقط حول "الطبقة المبدعة", بل أيضاً حول "الاقتصاد المبدع", وحول "أرضيات إبداعية".
تكمن فرادة هذه النظرية في جذب الانتباه لهذه الظاهرة المركزية: ففي عالم يبدو فيه التحديث عاملاً حاسماً في المنافسة, يصبح تقييم كل شكل من أشكال الإبداع (تقني أو اقتصادي, أو فكري) رهاناً مهماً. لكن نظرية فلوريدا أثارت ردود أفعال حرجة: لقد أخذوا عليه بأنه خلط دراسة التأثيرات الاقتصادية على التنمية والتي هي للتحديث مع شكل من أشكال علم الاجتماع المجمَّل الطفولي, والمعتبرة على أنها الموجهة لكل تحديث اجتماعي أو اقتصادي. رؤيته المفرطة للإبداع على المستوى النخبوي, أهملت قسماً كبيراً من الإبداع العادي في العمل, الذي, ولو إنه كان غير منظور فهو يساهم بوظيفة كل بنية اجتماعية.
صناعة المجلة
لننطلق من مثال ملموس. لتنفيذ مجلة "العلوم الإنسانية" وإخراجها إلى النور في كل شهر والتي تصلكم لتقرؤوها, يلزم لذلك خيال, خيال مبدع يتدخل في كل مراحل الصناعة, بدءًا من إعداد الأعداد وصولاً إلى نشرها.
الإبداع هو الذي يبدأ بالعمل ويتدخل بانتقاء الموضوعات – وهذه حقيقة- المجلة ليست أبداً انعكاساً محايداً للحدث. يتم انتقاء الملف, فموضوع المقال يفترض سبراً واكتشافاً, ثم معاينة بين الممكنات وانتقاء زاوية الهجوم, إلخ. لجان التحرير هي البوتقة المميزة التي فيها يتم إعداد المجلة, كما يتم فيها مناقشات طويلة ليصل الأمر إلى اكتشاف القوة الكامنة ووزن الحجج والبراهين, وهذه هي أول مرحلة من خلق المجلة. وهناك إبداع عند بدء كتابة المقال, الذي يحرِّك عند كاتبه, سواء أكان جامعياً أم صحفياً, عملاً كثيفاً من الإبداع الشخصي.
تخضع نصوصه الأولية للنقد الدقيق ("القراءة الثانية" كما يقال في لغتنا المهنية). فالإبداع الفردي عندما يُرفد بالإسهام الجمعي يصبح أكثر غنىً. ثم يأتي دور الإخراج, واختيار الصور, والأطر: إنه طور جديد للخلق, حيث يأخذ الإبداع مكانه بالكامل.
ثم عندما يصل العدد إلى مرحلة الإنهاء, يتم عرض الصفحات على طاولة كبيرة وبطقوس رسمية وبحضور كل هيئة التحرير. وعندها يتم إجراء التعديلات النهائية. يؤدي اختيار العناوين إلى جلسات تشويش, يتخللها سلسلة من الأوقات النشطة ثم يتم الدوران حول الطاولة بشكل حلقة مع ضحك مفاجئ.
قد نعتقد في البدء أن الجزء الأساسي من الإبداع يتوقف عند هذا الحدّ, وأنه قد حان الوقت للانتقال إلى المراحل الأكثر تقنية والروتينية من الصناعة والإنتاج والتوزيع, والتسويق حيث لا يجد الإبداع مكاناً له. لكن هذه الفكرة خاطئة جداً.
لنذهب إلى مكتب سكرتير التحرير. مهمته هي تصحيح الأغلاط المطبعية, وقياس النص وضبطه, وإزالة ما يشوب الأسلوب من ضعف, وإيجاد مصادر العنوان, إلخ. ظاهرياً, يبدو إنه عمل في الظل وقد لا يحتاج إلى إبداع. لكن يكفي أن نمضي بعض الوقت مع سكرتير التحرير الشغوف بمهنته لنرى عكس ذلك.
تصحيح نص, لا يعني التصحيح الإملائي والنحوي فقط (هذا ما يقوم به جزئياً المصحح الأوتوماتيكي). ينبغي أيضاً إعادة صياغة جملة ضعيفة مضطربة, أو كتابة ما يدل على الرسم والصور, أو توضيح حاشية, وأحياناً وضع تصميم تمهيدي للمقال. كل هذه الأمور تتطلب ليس فقط كفاءات وخبرة, بل أيضاً التمكن من فن الإنشاء وممارسة الأسلوب الخاص ليتميّز بالبصمة الشخصية غير المرئية لعمل المحرر. وإن كان العمل جيداً فالمحرر لن ينتبه لذلك.
ثم يحين وقت الصناعة. هنا أيضاً قد تجري وكأنها عمل تقني. تهيئة بطاقات للمعالجة الآلية للحجم من أجل الطباعة, ثم إدارة الروابط مع الطابع, شراء الورق, والاهتمام (بوضع منهج العمل أو التنهيج) أو بمراقبة كل مرحلة: أين هو الإبداع في كل هذه الأعمال؟ يكفي مناقشة المسؤولة عن الصناعة كي نعرف الجواب. يفترض تدقيق التنهيج, التوقع والاستباق, وتداول الأفكار بين الخيارات الممكنة؛ وغالباً ما يسبب هذا العمل إزعاجاً بالنسبة إلى وضع منهج العمل وبالنسبة إلى تعيين تاريخه وما يبرز ويفترض احتمالات وخدعاً(لنرى, إن أجِّلتُ إرسال البطاقات إلى الخامس من الشهر؟ كلا, إنه يصادف يوم جمعة, أو سبت؟ كلا إنه يوم عطلة, واليوم الثاني من الشهر؟ كلا, إنه مبكر جداً. ما العمل؟ فكرة جيدة! إن غيرت من يوم عطلتي في الأسبوع القادم قد أستطيع تنفيذ موضوع البطاقات بشكل أبكر. جيد, أمر مناسب...)
لنتناول موضوع شراء الورق! عمل بسيط طلب ووضع فاتورة وكشف حساب؟ الأمر ليس بهذه البساطة أبداً, ينبغي ملاحقة ارتفاع الأسعار, وينبغي قطع الشك باليقين (سعر الطن مكفول لمدة أربعة أشهر) (وإن استمرت الأسعار بالارتفاع ينبغي عندها التفكير بتغيير الورق؟ لكن لماذا لا نغير الحجم؟) ينشأ هنا مسألة جديدة. فتغيير الورق, يعني أن تبحث عن نماذج, وأن تتخيل كيف سيكون شكل المجلة. هنا أيضاً تبدأ الصور والفرضيات بالتزاحم. وهنا يبدأ الخيال بالعمل, ما هي الحسابات, السيناريوهات المحتملة, الأسئلة, المجالات المكتشفة, الاجترار والضغط أيضاً.
مقاس جديد؟ الفكرة واعدة ومبشرة بالخير. يمكننا أن نتخيل مقياساً أصغر يسمح بتوفير الورق (ينبغي أن تتم مناقشة ذلك مع المدير). لكن المواعيد لا تتناسب مع بعضها. بعد الْتماسين أو ثلاثة التماسات ظلت مهملة أو مواعيد مؤجلة, سيشعر الشخص بالغيظ والحقد المبرر, تحديداً لأن جزءاً كاملاً من إبداعه في العمل يجده مهملاً أو مجهولاً ومغيباً, والأهم من هذا كله إنه الأكثر نبلاً والأكثر استراتيجية. غالباً ما يحصل الحرمان من الحق وسوء الفهم في المشاريع حول هذا العمل غير المرئي.
هيا نقُمْ بزيارة لقسم التسويق والاتصال, والمحاسبة, وخدمة الزبون, وموقع الشابكة.., سنكتشف الواقع نفسه. خلف التقنية الظاهرة لبعض الوظائف هناك جزء من الإبداع المخفي, يأخذ شكل تسويات صغيرة، أو إصلاحات, أو طرق جديدة في العمل. تظهر عندها المفارقة وهي إنه كلما كان العمل أكثر جودة, تكون حصة الإبداع غير مرئية بالنسبة إلى الموظفين ذوي الكفاءة والمستقلين.
الاختراع العادي للعمل
لا يوجد مهنة إلا وفيها جزء من الإبداع. من صانع الحلوى الذي يخبز الحلويات إلى المحامي الذي ينظم مرافعته, إلى المدرس الذي يهيئ دروسه, إلى المسؤول التجاري الذي عليه أن يتصور خطة للاتصالات.لا شك أن هناك درجات ومراتب في الإبداع, لكنه لم يكن أبداً غائباً بالكامل في يوم من الأيام.
لقد غاب هذا الإبداع العادي عن ملاحظة اختصاصيي علم اجتماع العمل. الفكرة التي كانت سائدة خلال الثلاثين سنة المجيدة, هي أن التصنيع والنمطية الجامدة, واختصاص الوظائف قد ألغى العمل الحِرفي (المفترض أنه أكثر إبداعاً). وكان التخصص رديفاً لإلغاء الأنسنة, وتراجع الاستقلالية والإبداع. لقد كان ذلك واقعاً صريحاً, قد تم تحليله بشكل جيد من قبل جورج فريدمان أو اندري غورز، مع أن هناك كتاباً آخرين برهنوا عن مظهر آخر للأشياء. في بداية أعوام 1970, نشر ميشيل سيرتو جزئي "الاختراع اليومي" وكان بمساعدته فريق من علماء الإثنيات. تناول الفيلسوف حينها نقيض المفهوم التكراري والقطيعي لحياة الناس العاديين (وهي رؤية سائدة في العلوم الإنسانية) ليُظهر كنوز الإبداع المخفية وراء الأعمال التي هي سلبية ظاهرياً في الحياة اليومية. تناولت الاستقصاءات العمل المنزلي(فن الطبخ, زخرفة المنزل, إصلاح). لم يتم مقاربة العمل لكن النظرة الجديدة يمكن أن تنقل إليه بسهولة. لم يلبث علماء الاجتماع حتى تأثروا به. في عام 2000 نشر عالم الاجتماع نوربرت آلتر, "التحديث العادي" وهو كتاب كلاسيكي حكم في نتائج العديد من الاستقصاءات واقترح تحليلاً لمختلف أشكال التحديث التي تكون غالباً غير مرئية في مشاريع الأعمال. من بين مختلف "الآليات المبدعة" كان يميز أشكال تخصيص وظيفة معينة (التي لم تكن يوماً تنفيذاً لتعليمات إنما تسير من خلال تكيفات وحتى من خلال مخالفات أو ما يسمى بخرق القانون), والإبداع الذي يتناول تنظيم العمل كما المنتج نفسه. وأحد المحاور الرئيسة في الكتاب تفيد بأن الموظفين (المأجورين) لا يستطيعون التقيّد بالقواعد المنصوص عليها كي يقوموا بمهمتهم, بل ينبغي عليهم أن يُدخلوا بشكل مستمر تحديثات صغيرة تسمح للنظام بالسير.
أسرار المهنة وطرائقها
لقد تم كشف التحديث العادي لاحقاً في العديد من الأعمال حيث لا ننتظره بالضرورة. أوجد عالم الاجتماع دومينيك مونجارده لنفسه اختصاصاً وهو تعيين هامش الحركة المتاحة للشرطة في إطار العمل. فرجال الشرطة, حتى عندما يتبعون تعليمات صارمة, باستطاعتهم أن يخلقوا محلياً نموذج العلاقات التي سوف يستخدمونه في ساحة العمل أثناء تدخلهم. والممرضة هي مبدعة عندما تقيم مع مرضاها علاقات غير مقررة مسبقاً. فهي بإمكانها أن تبقى على مسافة من أحد المرضى وتلتزم بعلاقة أكثر قرباً مع مريض آخر. وهذه الحالة تماثلها حالة العمال المكلفين بوضع إشارات المترو فهم بحاجة لعبقريتهم أحياناً لتثبيتها. "أسرار المهنة هذه" وقد تم دراستها في علم الاجتماع الدقيق تعتمد أيضاً على الإبداع اليومي الدؤوب.
الإبداع الخفي قد يكون في نهاية الأمر مشاركاً في جوهر كل شكل من أشكال النشاط الإنساني, إنها الفكرة التي يدافع عنها عالم الاجتماع الألماني هانس جواس مؤلف كتاب "إبداع السلوك". اقترح هذا الاختصاصي في علم الاجتماع أسلوباً آخر في النظرة إلى العمل في الوسط الاجتماعي لكنه ظل على مستوى النظرية الصافية فقط.
لقد كان يتم النظر إلى الممارسات الاجتماعية من قبل اختصاصيي علم الاجتماع وكأنها تطبيق لقواعد عقلية أو أيضاً كتأثير الخضوع لضغوط.
لم يكن يوماً الاتصال مع الآخر والاحتكاك به محصوراً كلياً ضمن قواعد مجمدة, بل يتيح على الدوام المجال لقسط من المبادرة والإبداع, وهذا تحديداً ما يعطي الحياة بعداً شاعرياً وشيئاً من المتعة. لم يعطِ هانس جواس أبداً أمثلة ملموسة, لكن بإمكاننا أن نقرأها من خلال المفاهيم.
عندما يهيئ المدرِّس المبدع دروسه وحده في المنزل: فهو لا يلتزم أبداً ببرنامج مكتوب سلفاً (حتى لو كان الأمر أسهل عليه أن يأخذ ما تم وضعه في السنة الماضية, فهو يفضل أن يخترع حتى لا يقع فريسة الملل). لكن عندما يدخل الصف, سيحصل طور آخر من الإبداع في التعامل الاجتماعي الذي سيتم بينه وبين تلاميذه. قسط الإبداع موجود هنا لجهة أن الفعل ليس محدداً بالموقف. ففي لعبة الأفعال وردود الأفعال, والقرارات والارتجالات الآنية, يُظهِر العمل فنه المسرحي الخاص به الذي لا يمكن تبسيطه أو إنقاصه وتحويله إلى أدوار مسبقة الصنع أو محددة مسبقاً.
هذا يعني, أن الإرادة لإعادة "الإبداع الخفي" إلى العمل بأي ثمن (مقابل الرؤية النخبوية لفلوريدا أو السلبية أو إزالة صفة الأهلية عن أعمال التنفيذ) يمكن أن يؤدي إلى مبالغة عكسية: وهي المبالغة بالتقييم. فالمجهر الذي له علاقة بعلم الاجتماع, والذي أصبح أكثر دقة مع الزمن, يمكن له أن يُظهِر دوماً أشكالاً من الإبداع أكثر دقة وفي أصغر الثغرات الاجتماعية.
لقد تسلى مونجارده في زمنه ليبيِّن أن الشرطة التي هي في ترقب أمام المفوضيات تتمتع بهامش صغير من الحرية لإعادة اختراع عملها (فتتحول على سبيل المثال إلى نوع من الناطور بشكل ارتجالي). بذلك يمكن لاختصاصي الكهرباء أن يصبح مخترعاً.
الابتكار في العمل, إن كان موجوداً في كل مكان, فهو يخضع لنمط العمل والتزام كل فرد (الذي يمكن له بدوره أن يكون تابعاً لشخصيته, بمجرد أن يحب عمله أو لا يحبه). إلخ.
يعطي الابتكار نوعاً من الحدِّية والحرارة للعمل. فوفق إيف كلو هو عنصر حاسم للمتعة وللمعنى والاتجاه الذي نوليه لوظيفتنا.
المسألة اليوم ليست أن يتم خنق الابتكار (فقسم كبير من الموظفين "المأجورين" يتمتعون باستقلالية في العمل) بل ألاّ يتم الاعتراف به. غياب هذا الاعتراف يعود لأسباب عديدة. لقد أهمله اختصاصيو علم الاجتماع لمدة طويلة (على عكس اليوم, هناك ميل ربما لجعله مثالاً أعلى وإلى المبالغة بتقييمه), فالإدارات ليس لها بالضرورة مصلحة أو رغبة بأن تأخذه في حسابها لأسباب يمكننا تصورها. لكن المستأجَرين أنفسهم لم يرغبوا وضعه في المقدمة: التمتع بالاستقلالية, هو أيضاً المحافظة على سرِّ فن العمل, وأساليبه وسبله؛ وخلاصة الموضوع- وعلى الأخص أن قسماً كبيراً من الابتكار بطبيعته ذاتها- ينبغي أن يظل مستوراً. ففن اختصاصي المعلوماتية هو أن يخفي عيوب الموقع دون أن يشعر المستخدم بذلك, والموظف المسؤول عن خدمة الزبائن يكون فعالاً بتلبية سريعة لطلب الزبون, والكاتب يسرع في إخفاء أخطاء مسوداته, وإظهار منتج نهائي منقح ونقي من تعثرات الابتكار. في الحقيقة, العمل الجيد ينبغي أن يخفي الجزء الهام من العمل الإبداعي المتضمن فيه.
براعة تدبير الأفكار وإدارتها
عندما يُنظر للابتكار من الجانب الإداري, نجد أنه يهدف إلى تنشيط تحديث المجموعات: من أجل صنع المنتجات, والدعاية, وتنظيم العمل, والتفكير الريادي, أو بكل بساطة لتنشيط الأفكار.
ففي هذا الإطار ظهرت سلسلة كاملة من تقنيات الإبداعية. وازدهرت الطرق منذ بضع سنوات:
1- عصف فكري هو التقنية الأقدم. قد تم إنشاؤها في عام 1930 من قبل المختص بنشر الإعلانات "آليكس أوزبورن", حيث لاقت نجاحاً عالمياً وتستند إلى مبادئ بسيطة. وهي تمارَس أثناء جلسات البوح الجماعي والمطلق العنان أي بلا حدود, وتستند إلى تقنيات محددة وصارمة.
2- في فرنسا, غي آزنار هو رائد الدراسة وترقية الإبداع في الأعمال. فمنذ عام 1972, نشر كتاب "الإبداعية في الأعمال" (تنظيم). وهو رئيس شرف للتجمع من أجل تطوير الإبداعية (مستشارون, مثقِّفون, كادرات), ورئيس إبداعية- الجامعة.
3- اتجهت طرق الإبداعية باتجاه تطوير أدوات المساعدة على الابتكار, وباتجاه إنشاء معاهد (مثل معهد شارل كرو) نجدها أيضاً في جمعيات الأراضي وورشات الكتابة, ومجال المعالجة الفيزيائية, وفي البحث الأساسي.
4- العلامة CKE)) أي البيئة المعرفية للإبداعية, قد تم اختراعها من قبل ثلاث اختصاصيين أمريكان بهدف حصر العوامل الجماعية المنشطة للتحديث والابتكار في المجال الصناعي والبحث. فهي تبحث لعزل العوامل مثل الاستثمارات وأشكال التنظيم المنشط (أو عكسه المثبط), وأنماط التعاون الخاص والعام, إلخ. وهي تأسست على ثمانية عناصر ناجمة عن البحوث في الإبداعية التي أجريت في علم النفس, وفي التاريخ أو في علم اجتماع التحديث. تُحلَّل العوامل الملائمة على المستوى الإفرادي (أفراد أو مجموعات عمل), وعلى المستوى الوسط(مؤسسات بحث, مشروعات عمل) وعلى المستوى الكبير (سياسة, بنى تحتية, إلخ).
ساحة النقاش