ليست هذه قصة من نسج الخيال، ولا أبتعد بها عن الحقيقة قيد أنملة، فعالم النسيج هو العالم الذي عرفت بره وبحره وأجواءه على امتداد زهاء خمسة عقود، وعشت فيه بفكري وجهدي، وكان من حصيلته أكثر من سبعين اختراعا مسجّلا على المستوى الأوروبي والعالمي، يعرفها "أهل الصنعة" من كبرى شركات صناعة النسيج في العالم، حيثما انتشرت آلاتها الحديثة، وكان لي في تصميمها وتطويرها نصيب، بعضها في حدود إدخال تحسينات أساسية، تساهم في سرعة الإنتاج وتخفيض النفقات، بينما أحدث بعضها الآخر نقلة نوعية تركت آثارها في هذا القطاع. ومن هذا القبيل آخر ما أنعم الله به من فضل عليّ عبر إنجاز اختراع يحمل عنوان "تكنولوجيا النسيج بالمشط المفتوح"، وله قصة، أرويها كما هي، انطلاقا بأنها لا تخصّ بمغزاها المخترعين وأصحاب الشركات والصناعيين والحرفيين فحسب، بل تعطي -لكلّ من يرغب- معالم من الواقع، للطريق الواصلة ما بين أفكار ومعايشات "بسيطة" في ظاهرها، عميقة في تأثيرها، وبين إنجازات "كبيرة"، من حيث ما تؤديه علميا وتقنيا وصناعيا على طريق التقدّم والرقيّ.
مقدمات وخفايا
في المرحلة العمرية ، عندما بلغت سن الثالثة عشر كنت أعيش في كنف أسرة أبوي في دمشق .. والدي كان يزاول عمله على النول العربي ، ووالدتي كانت تقوم بتدوير مواسير اللحمة اللازمة لعمل والدي ( اللحمة هي الخيوط العرضية المؤلفة للقماش ) هذا إلى جانب قيام الوالدة بأعباء أسرة ضمت ثمانية أبناء وبنات ، وإلى جانب شغل بيتي أيضا ، حيث كانت تقوم بتطرير السلكات ( مفردها سلك أو شماغ ، والتطرير هو جمع نهايات خيوط السدى - أي الخيوط الطولية من القماش - إلى عقد وقصها مما يعطي السلك رونقا جميلا ) التي يرتديها رجال العرب في بلاد الشام والسعودية والخليج كتقليد شعبي أو وطني أيضا . كانت والدتي تؤدي هذا الشغل إسهاما منها في النهوض بالأعباء المادية المتنامية على الأسرة . وأتذكر أيضا ، أن أخواتي البنات كن يشاركنها في إنجاز هذا الشغل
إخوتي الأكبر مني سنا كانوا يعملون كأجراء وبأجور زهيدة في معامل النسيج ، التي انتشرت في مدينة دمشق وضواحيها آنذاك . أما أنا فكنت من المحظوظين ، بأن سمح لي بمتابعة الدراسة في المدارس الحكومية ( الميري حسب التعبير الدمشقي ) .. إلى جانب دوام المدرسة ألزمني والدي بالعمل على النول العربي ، حيث كان واجبي اليومي هو نسج أربعة أذرع من قماش يبلغ عرضه الذراعين . فيما تبقى لدي من وقت الفراغ كنت أقوم على تلبية حاجات والدي في دكانه في حي المزاز ، ووالدتي في بيتنا في حي الإصلاح .. تارة كان يجب علي شراء الحاجيات للمنزل كالخبز وغير ذلك .. وتارة أخرى كان يجب علي جلب ما شغلته والدتي من السلكات إلى المدينة ( بميم مسكنة ، ويقصد بها وسط دمشق حيث تتواجد الأسواق التجارية ) إلى محل أبو علي الجرائي (أحد الأثرياء وصاحب محال ومعامل نسيج في دمشق ) الواقع في أحد خانات سوق مدحت باشا
ما زال عالقا في ذاكرتي ، أنني في يوم من الأيام كان علي الذهاب إلى ضاحية دمر ( تبعد بضعة كيلو مترات عن وسط دمشق غربا ) لجلب السلكات ، التي كانت تنسجها أنوال النسيج المكوكية في أحد معامل أبو علي الجرائي . تلك كانت المرة الوحيدة التي شاهدت فيها هذه الأنوال الجميلة النادرة في نوعها ( الصورة : 1 ) ، فهي تنسج السلكات البيضاء، وتدخل في نسيجها الخيط الأسود أو الأحمر بشكل مطرز على سطحها ، وبأشكال مختلفة ، لتدل غالبا على جنسية من يرتديها كونه سعوديا أو خليجيا أو من بلاد الشام
أثناء تعلمي مهنة النسيج عند والدي ، وفي معامل النسيج في دمشق ، وفي الثانوية الصناعية .. وأثناء دراستي الجامعية التقنية للنسيج في ألمانيا .. وأثناء مزاولتي العمل في البحث العلمي .. وأثناء قيامي بمسؤولية تطوير نول النسيج لفترة زادت على العقدين، لم يخطر على بالي ، بأن أعير أي اهتمام لهكذا نوع من الأنوال ، ناهيك عن الاهتمام بفكرة إدماج تقنية إنتاج السلكات في أنوال النسيج الحديثة
الحاجة أم الاختراع
في كثير من الأحيان كان يتردد على زيارتي في ألمانيا ، أو في أثناء مشاركتي في المعارض العالمية لآلات النسيج أصحاب معامل نسيج من البلاد العربية ، كان بعضهم يجلب معه بعض أنواع هذه السلكات ، ليسأل عن أنوال حديثة لإنتاجها ، فلم يكن بوسعي غالبا إلا أن أقدم اعتذارا لبقا مع ترك الأمر مفتوحا للمستقبل . في مرة من المرات ، سألت أحدهم عن المصدر الذي يشترون منه هذه الأنوال حتى الآن ، فكان الجواب : أن هذه الأنوال ، التي صممت ، وصنعت في فرنسا في النصف الأول من القرن العشرين تشترى غالبا مستعملة فتجدد ، أو تشترى جديدة من اليابان ، حيث قامت إحدى الشركات اليابانية على تقليد النسخة الفرنسية . هذه الأنوال عملها معقد ، وكثيرة الأعطال ، وثمنها باهظ مقارنة بسرعة إنتاجها، بحثت في كتب ومراجع النسيج في أوروبا ، فوجدت أن هذه الأنوال تدعى بأنوال البروشيه ، بروشيه : كلمة فرنسية وتعني الإبرة أو السنارة
الإيضاحات الكتابية والرسوم الهندسية المتوفرة لشرح تقنية البروشيه ضئيلة جدا ، بحيث لا يمكن للمرء أن يصل عن طريقها إلى فهم آلية عمل هذه الأنوال . وتذكر هذه المصادر ، أن تقنية البروشيه معقدة جدا ، وقد اختفت هذه الأنوال من أوروبا بشكل كامل تقريبا . واستعاض الأوروبيون عن هذه التقنية بطرق أخرى ، مثل نقش القماش بواسطة آلات الجاكارد ، أو استخدام تقنية الشيرلي ( شيرلي اللحمة : هي أن نقوم بإضافة خيط لحمة ملون إضافي ، بحيث يخفى هذا الخيط خلف القماش ، ويظهر فقط في موضع النقش . الجزء المختفي من الخيط خلف القماش يقص ، ويزال من القماش بواسطة آلة إضافية ) . كلتا الطريقتين لم تجد لها في إنتاج السلكات سبيلا . السبب يكمن في أن وزن المتر المربع للقماش يزداد بشكل لا يتناسب مع ارتداء هذا القماش على الرأس ، أو أن المظهر والممسك والملمس السطحي للقماش قد تغيروا بشكل ، لا يشبه ما كان عليه قماش السلكات من قبل
حرص العرب على اقتناء هذه السلكات على رؤوسهم أبقى هذه التقنية محفوظة عن طريق بقاء هذه الأنوال القديمة في معامل النسيج في الشرق الأوسط في حيز الاستخدام ، وأدى أيضا إلى قيام بعض مصانع آلات النسيج في اليابان بتقليد النسخة الفرنسية
طريق البحث
في عام 2007 الميلادية أتيح لي زيارة دمشق ، بعد غياب زاد على الثلاثة عقود . أثناء هذه الزيارة كان لدي رغبة ملحة لزيارة معمل للنسيج ، يستخدم مثل هذه الآلات بعد ، ولأطلع على تقنية عمل هذه الأنوال عن كثب ، وخاصة بعدما بلغت من الفهم في هذه المهنة ما بلغت . سألت أخي محمد ( صاحب معمل لإنتاج البشاكير والمناشف ) فقال : الأمر بسيط جدا ، إن جاري في المنطقة الصناعية لديه هذه الأنوال . في اليوم التالي وقفت أخيرا أمام هذه الأنوال . أنوال مكوكية تعمل بسرعة ثمانين حدفة بالدقيقة تقريبا . هي بطيئة جدا - حسب ما تعودته من الأنوال الحديثة ، التي تنسج القماش بسرعة تقارب الألف حدفة بالدقيقة - ولكن عملية تكوين القماش الأبيض ، والنقش عليه بالخيط الأسود أو الأحمر بديعة جدا ، أدهشتني ، وأخذت عقلي - كما أخذت عقلي مهنة النسيج منذ أكثر من أربعين عاما - . ابتدأت أتفحص النول من الأمام ، ومن الخلف ، ومن الجانبين . حركات ميكانيكية ، رزينة ، منتظمة ، متناغمة ، ومعقدة بنفس الوقت . كل وظائف الحركات لنسج أي من السلكات من أوله إلى آخره مبرمجة ومخزنة بشكل ميكانيكي كامل. الكهرباء لا تستخدم في هذه الأنوال إلا لتحريك الموتور الرئيسي ، الذي يقوم بعملية الدفع . عندما تنظر إلى النول ، ترى كأن كل الأمور بسيطة ومسلم بها ، وإذا أدرت ظهرك ، وحاولت أن تتخيل كيفية عمل هذه التقنية ، أدركت أنك لم تفهم شيئا بعد، من حسن الحظ أنني كنت مصطحبا لآلة تصوير ، فأخذت بعض الصور من مواقع مختلفة ، وأدرت فيلما قصيرا ، عله يساعدني على متابعة الفهم ، إذا ما عدت إلى مكتبي في قسم تطوير آلة النسيج في ألمانيا
ندما عدت إلى ألمانيا وجدت أنه لم يتكون لدي فهم كامل لما يدور في هذه الآلة بعد ، وابتدأت أعطي الفنيين والمهندسين الأوروبيين واليابانيين شيئا من التفهم ، لأنهم تركوا هذه التقنية على أنوال المكوك وشأنها ، ولم يحاولوا إدماجها في الأنوال الحديثة ، التي تعمل بدون مكوك ،بعد مرور بضعة أشهر على الزيارة الأولى لدمشق زرت دمشق ثانية ، وعاودت الذهاب إلى معمل النسيج ، علني أكون في هذه الزيارة تصورا أكمل لآلية عمل أنوال البروشيه المكوكية . عند دخولي المعمل لاحظ أحد العمال تكرار قدومي ، وتفحصي للأنوال ، فما كان منه إلا أن أوقف عمل أحد الأنوال ، وابتدأ يشرح لي آلية عمل نول البروشيه بشكل واضح ومتأن . بعد هذا الشرح ابتدأت أدرك المعوقات ، التي تحول دون إمكانية دمج هذه التقنية في الأنوال الحديثة التي تستغني عن المكوك في نول النسيج
عن طريق المتابعة المتواصلة لما ينشر في بنوك المعلومات ، التي ترصد كل ما يسجل من اختراعات في معظم دول العالم ، لاحظت أن العديد من المخترعين الأوروبيين ، بدأوا في السنوات الأخيرة يسجلون بعض الأفكار والمقترحات ، لنقل تقنية البروشيه إلى الأنوال غير المكوكية الحديثة ، ما يدل أن حاجة نقلها أصبحت ، أو مازالت واردة في عقول الفنيين ، لكنه حسب تقديري ، أن كل ماسجل حتى تاريخه لايرقى بنا بأي حال من الأحوال لإحداث نقلة واقعية أو عملية في هذا المجال
وجدتها ... تكنولوجيا النسيج بالمشط المفتوح
بعد عبور طريق البحث التمهيدي وفي المراحل الأولى للبحث التكنولوجي عن الحل أو الحلول الممكنة حري بالباحث ، أن يبقى واسع الأفق ، وأن يحدد ، أو يرجح من خلال خبرته الجهة ، التي يمكن أن يكمن فيها الحل.عملية صنع القماش على أنوال النسيج الحديثة معقدة تكنولوجيا ، وأدواتها وعناصرها الميكانيكية تحتل الحيز المكاني المتناهي الصغر ، وتجري حركات هذه الأدوات والعناصر بزمن متناهي القصر ، كل هذا مع الحفاظ على المتانة والتحمل المطلوبين ، والحفاظ على ضمان الفاعلية الصحيحة لإنتاج الجودة المضمونة
عند إعمال الفكر ، ونتيجة لخلفية الخبرة والعلم في مجال صناعة أنوال النسيج ، وتطويرها ، واستخداماتها ، ومزاولة الأبحاث في شتى تفرعاتها ، حددت مبدئيا أمرين : أولهما أن تحتل الوسائل الإضافية ، التي سوف تقوم بوظيفة النقش الإضافي على القماش، موقعا ثابتا ، وأن تتموضع ما بين مشط نول النسيج ودرأه (مفردها درأة وهي الأداة التي تحرك خيوط السدى إلى الأعلى وإلى الأسفل حسب منظومة تتبع التركيب النسيجي للقماش
هذا التحديد ، يسير بنا لأن نسلك طريقا غير مألوفة في عالم صناعة أنوال النسيج ، واستخداماتها . إن تموضع أي أداة ما بين المشط والدرأ ، لأداء وظيفة النقش يفرض ، أن يكون مشط النسيج مفتوحا إلى الأعلى . مشط النسيج يتألف من أسنان أو قضبان حديدية فولاذية ، لا يزيد سمكها في الأغلب عن النصف ميليمتر . يربط أو يثبت هذه القضبان إلى بعضها بعضا مربطان معدنيان من الجهتين السفلى والعليا . يتحمل المشط في عملية النسيج أعباء ميكانيكية عالية ، فالاستغناء عن مربطه العلوي ، لجعل الأبواب بين أسنانه مفتوحة إلى الأعلى ، لابد أن يرافقه تمتين مربطه السفلي ، ليؤدي كافة الأعباء المنوطة به . هنا وجب إنجاز هذا العمل التصميمي للمشط المفتوح ، وإجراء التجارب لاختبار التحمل الميكانيكي له ، وللتأكد من الفاعلية التكنولوجية في عملية صنع القماش على نول النسيج الحديث
نول النسيج المطرز
بعد النتيجة الإيجابية لتصميم المشط المفتوح ، يصل بنا إعمال الفكر ، لإيجاد طريقة ، يتحرك عن طريقها خيط النقش الإضافي من خارج المشط ، ليدخل بابا مفروضا من الأبواب بين أسنان المشط ، ويجد الطريق المناسب ، ليعبر بين خيوط السدى ، ويجتاز الطبقة العلوية إلى الطبقة السفلية لفتحة النفس ( الشكل : 1- ألف ) ، التي يعبر من خلالها خيط اللحمة ، ويكون القماش . بعدها يخرج خيط النقش من نفس الطريق إلى خارج المشط ، فيحرك بوسيلة إضافية إلى جهة جانبية ، ليصل أمام باب جديد من الأبواب بين أسنان المشط ، ويسلك طريقا جديدا إلى الطبقة السفلية من فتحة النفس ، التي يعبر من خلالها خيط اللحمة مرة أخرى ، ويكون القماش المنقوش . للقيام بمهمة تحريك خيط النقش بالطريقة المذكورة ، تم الاستعانة بدليل للخيط على شكل سنارة في رأسها سم أو ثقب ، يخترقه خيط النقش . الوظيفة الأولى للسنارة أو الدليل هو قيادة الخيط لإجراء الحركات ، أما الوظيفة الثانية فتكمن في أن تقود الخيط ، فيدخل خيط النقش الطريق المذكور أعلاه ، ويخرج دون أن يؤدي لأي خلل ، أو قطع لخيوط السدى، التي سوف يواجهها في طريقه . للقيام بأعباء الوظيفة الثانية جعل مقدمة للسنارة تسبق الثقب . هذه المقدمة عريضة ، وتنتهي بمقطع مخروطي ، تتجه نهايته أو رأسه إلى الأسفل . عند تحريك السنارة إلى الأسفل ، يصل أولا رأسها المدبب إلى الطبقة العلوية لفتحة النفس ، فيبدأ بفتح باب بين خيوط السدى . هذا الباب يكبر تدريجيا ، ليبلغ اتساعه عرض مقدمة السنارة . عن طريق قوة الشد في خيوط السدى ، ينتقل انفتاح الباب إلى رأس أسنان المشط ، فيدخل خيط النقش المضموم في السنارة عبره ، فتخترق السنارة وخيط النقش الطبقة العليا لفتحة النفس بأمان ، إلى أن يصلا إلى مستوى الطبقة السفلى لفتحة النفس ، ليبدأ خيط اللحمة بالعبور ، وانجاز عملية النسيج بالمشط المفتوح وصنع القماش المنقوش
هذه هي الطريقة الأولى لإدماج عملية النقش أو التطريز على سطح القماش في أنوال النسيج الحديثة ، ولا تستغرق من الزمن سوى عشرة أجزاء من الألف من الثانية ، وتتكرر حتى ثلاثة ملايين مرة في الساعة على كل نول نسيج
هذه الأفكار وضعت حجر الأساس لتكنولوجيا جديدة في عالم إنتاج القماش المنسوج ، وهي جديدة في عالم النسيج ، وكونت الأساس لتسجيل أكثر من اختراع ، ولتبدأ بعدها مرحلة الإبداع الصناعي ، وهي تحويل هذه الفكرة إلى آلية عمل واقعي وعملي ، وذلك باتباع المراحل المعروفة ، والمتبعة في مكاتب التصميم الهندسي التقني أهمها
تجسيد الفكرة وبرهنة فعاليتها بشكل ما
تصميم مبدئي ’’ بروتو تايب ’’
اختبارات وفحوص عملية وإجراء التعديلات والتحسينات اللازمة
تصميم نهائي ’’ سيري ’’ يناسب الواقع العملي
هذه المراحل تم إنجازها في قسم الأبحاث والتطوير في شركة لينداور دورنييه لصناعة آلات النسيج خلال العام 2010 ، وفي شهري تشرين الأول والثاني ابتدأت أنوال النسيج المطرزة بإنتاج القماش المطرز في مصنعين للنسيج في ألمانيا وسويسرا ( الصورة : 2 ) . خلال مؤتمر النسيج الدولي الرابع بتاريخ 25 تشرين الثاني 2010 انتهزت شركة لينداور دورنييه لصناعة آلات النسيج الفرصة ، وأعلنت عن تفاصيل تكنولوجيا النسيج بالمشط المفتوح ، عن طريق محاضرة علمية ألقاها كاتب هذه السطور
نول نسيج القماش المتعدد المحاور
أما الطريقة الثانية لتوجيه حركة خيط النقش الزائد فاعتمدت على استخدام السنارة أيضا، كدليل ليقود الخيط ( الشكل : 1- باء ) . رأس السنارة مدبب ، ويحوي سما أو ثقبا لقيادة الخيط . لتكوين أبواب واسعة بين خيوط السدى ، وبين رؤوس أسنان المشط ، صنع مشط خاص ، يتألف من نوعين من الأسنان ، النوع الأول : هي أسنان عادية مصفحة ذات رأس مدبب إلى الأعلى . أما أسنان النوع الثاني : فهي مصفحة وذات رأس مدبب ومعكوف في جزئه الأعلى . تصطف الأسنان من النوعين في المشط المفتوح ذو المربط السفلي المتين بترتيب ، يتبع نوع القماش المطلوب نسجه . إذا افترضنا الترتيب : سنان عاديان يتبعهما سن معكوف ، وإذا افترضنا أن الجزء المعكوف من السن ، يغطي رأس السنين العاديين ، سوف نجد ، أن أبواب المشط أصبحت نوعين : نوع مفتوح إلى الأعلى تماما ، ونوع يغطي فتحته العلوية عكفة السن المعكوف . بهذا نستطيع ، أن نستخدم الأبواب المغلفة إلى الأعلى من المشط ، ونضم خلالها خيوط السدى الأساسية لتكوين القماش ، وندع الأبواب المفتوحة إلى الأعلى فارغة ، لنستقبل فيها خيوط النقش الزائد ، التي سوف تدخل هذه الأبواب بواسطة السنانير المصطفة في حيز مكاني ، يتموضع فوق المشط ، وتتحرك السنانير إلى الأسفل والأعلى وإلى الجانبين وفق منظومة مبرمجة الكترونيا ، تتبع نوع القماش المطلوب صنعه
هذه الأفكار طبقت خلال العام 2010 ، وبرهنت فعاليتها ، ووضعت حجر الأساس لتصميم نول نسيج لصناعة القماش المتعدد المحاور. هذا النول وصل في نهاية عام 2010 إلى طور "البروتوتايب". أنوال نسيج القماش المتعدد المحاور ، سوف يكون لها مستقبلا دور في إنتاج ثلاثة أنواع أساسية من القماش الصناعي الاستخدام . النوع الأول يتجسد في إنتاج أقمشة الشبيكة بتراكيب نسيجية ، لم يكن صنعها ممكنا على أنوال النسيج من قبل ، وتمتاز هذه الأقمشة بمتانة أعلى ، لتلائم مواصفاتها الاستخدامات الصناعية المختلفة بشكل أفضل . المجال الأساسي لاستخدام مثل هذه الأنوال ، سوف يكون في مجال صنع الأقمشة المتعددة المحاور . المألوف في الأقمشة المنسوجة على أنوال النسيج ، أنها تتحمل تطبيق القوى بجهتي خيوط السدى أو اللحمة ، أما إذا طبقت قوى بجهة محورية ، يستطيل القماش بشكل ، لا يتطابق ومواصفات الخيوط المستخدمة فيه ، لذا يطلق على قماش النسيج ، بأن مواصفاته الميكافيزيائية غير متجانسة في جميع الاتجاهات ، وأنه أنإزوتروب
صناعة القماش على الأنوال باستخدام تكنولوجيا المشط المفتوح ، تمكننا من إضافة محورين إضافيين للقماش ، وتؤهل مواصفاته الميكافيزيائية ، لتصبح شبه متجانسة أو شبه إزوتروب . أما النوع الثالث لأقمشة هذه الأنوال ، فيتجسد في إمكانية تقوية القماش في أماكن محددة . فمثلا أجسام الطائرات أو القوارب السريعة تتكون أيضا من أقمشة صناعية . فإذا ما وجب إنشاء فتحة لتكوين نافذة – على سبيل المثال - ، وجب تقوية القماش حول هذه الفتحة ، بأن تخاط خيوط إضافية . تكنولوجيا النسيج بالمشط المفتوح سوف تمكننا من صنع هذه التقوية مباشرة على نول النسيج
أبعاد الإنجاز
لا يمكن في الوقت الحالي ، أن نصل إلى وصف دقيق ، وأن نحدد أبعاد الإنجازات ، التي سوف تحرزها تقنية تكنولوجيا النسيج بالمشط المفتوح في مجال صناعة القماش على أنوال النسيج . لكنني أحاول في هذه السطور الإلمام ببعض ما يمكن أن يتحقق
إن إدماج تقنية تكنولوجيا النسيج بالمشط المفتوح في أنوال النسيج غير المكوكية بشكل مضمون الفعاليات في الأوجه المختلفة سوف يكون منصة واسعة لإلهامات المبدعين والمصممين للأقمشة في المستقبل ، وذلك بسبب إمكانية التحكم بتكوين وتغيير النقش ، الذي أصبح يسيرا بواسطة البرامج الالكترونية السهلة المتناول . وهذا ما يساعد أيضا على التأقلم السريع مع متطلبات الأسواق
إدماج تقنية تكنولوجيا النسيج بالمشط المفتوح في نول النسيج هو إدماج لعمليتي التطريز والنسيج في آلة واحدة ، التي تؤدي هذه الوظائف في آن واحد . القماش المنتج بواسطة هذه الأنوال هو مطرز . وإن عملية التطريز الإضافية تكلف عادة أضعاف ، ما تكلف عملية النسج على النول . هذه الأنواع من الأقمشة سوف تجد مكانها في مجال إنتاج قماش القمصان والبلوزات والستائر والملاحف والمفارش وأوجه الطاولات - على سبيل المثال لا الحصر
إن الطريقة - حسب هذا الاختراع - التي دمجت تقنية تكنولوجيا النسيج بالمشط المفتوح في نول النسيج الحديث ، سوف تمكننا من إبداع ، وإنتاج أقمشة بتراكيب نسيجية جديدة، مع تحقيق مزايا متعددة
تبسيط لوسائل الإنتاج بشكل ملحوظ
إلغاء تراكيب نسيجية قديمة مكلفة الإنتاج والوسائل
تجنب الهدر في المواد الأولية لكون خيط النقش يظهر بشكل كامل تقريبا على وجه
القماش
التراكيب النسيجية للأقمشة ، التي سوف تنسج على نول النسيج المطرز ، سوف تكون متنوعة جدا ، منها ما هو مألوف ومعروف ظاهريا ، ومنها ما هو غير معروف ، ويختلف عن أنواع ومزايا الأقمشة المنتشرة
القماش الذي ينسج عادة على أنوال النسيج ، يتكون من خيوط طولية ( السدى ) وعرضية ( اللحمة ) ، التي تتقاطع مع بعضها بعضا بزاوية قائمة . إن استخدام تقنية تكنولوجيا النسيج بالمشط المفتوح في نول نسيج القماش المتعدد المحاور، سوف يمكننا من إدخال خيوط إضافية تتقاطع مع الخيوط الطولية والعرضية بزاوية غير قائمة يمكن اختيار مقدارها حسب الطلب والمواصفات الواجب إنتاجها . هذه الخواص الجديدة يمكن الاستفادة منها في الأقمشة ، التي تستخدم في المجالات الصناعية على شكل واسع
أبعاد شخصية
قصة هذا الاختراع وضحت ، كيف أن المقومات والمعطيات اللازمة للوقوف على الحاجة ، ولإعمال الفكر ، ولإنجاز هذه الاختراعات ، قد تجمعت ، وتبلورت ، خلال فترة زمنية قاربت الخمسة عقود من الزمن . فالظروف الاجتماعية والمادية الصعبة التي كانت تعاني منها الأسرة في دمشق أثناء طفولتي ، كان لها الأثر العميق ، في أن جعلتني أحتك بشؤون صناعية ، سوف يكون لي في مقبلات الأيام باع في تطويرها . هذه الخفايا، أو الصدف ، أو الملابسات ، كأنها المدرسة التي وضعت قدمي - بشكل إرادي أو غير إرادي - على بداية طريق التعلم المهني ، والعلمي الأكاديمي ، وطريق الاختراع ، والإبداع الصناعي
الذاكرة الدفينة جعلتني - ولو بعد خمسة عقود - أعود إلى دمشق ، لأقف عن كثب على الحلقة المفقودة اللازمة للتطوير ، وللإبداع في عملية النسيج ، ووضع حجر الأساس لتكنولوجيا النسيج بالمشط المفتوح ، وتصميم نول النسيج المطرز ، ونول نسيج القماش المتعدد المحاور . عندما كنت أسعى في الطريق لرؤية النول القديم في دمشق ، ولاستيضاح طريقة عمله عن كثب ، كأنما كنت واثقا من نفسي ، بأن ما تجمع لدي من العلم والخبرة في مهنة الابتكار والتطوير ، سوف يمكناني من حل المعضلة ، التي وقفت حائلا دون تطوير نول البروشيه القديم لفترة زمنية زادت على الستة عقود
هذا الطريق المتشعب في حياتي التعليمية والمهنية - موفقا أو مسيرا إليه ، بإرادة أو بدون إرادة - هو الذي أوصلني لإنجاز هذا الابتكار ، الذي لم يكن بالحسبان أن يتوصل إليه في هذه الحقبة الزمنية . إن اهتمامات تطوير تكنولوجيا تكوين قماش النسيج في معاهد وأقسام الأبحاث في الجامعات والمؤسسات الصناعية في هذه الأيام متجهة إلى شؤون أخرى تماما . هذا الابتكار سوف يكون مفاجأة كبيرة في الأوساط العلمية والصناعية ، وسوف يدخل هذه التقنية في جداول التصميم والتطوير في هذه المؤسسات
هذا الاختراع يربط - بشكل مباشر أو غير مباشر - مشاهداتي واحتكاكاتي في مرحلة الطفولة بمرحلة الكهولة المهنية ، ويربط الظروف الاجتماعية والمادية الصعبة في دمشق - آنذاك - بظروف حياتي في أوروبا ، كما يربط بعض احتياجات الأعراف الشرقية ، بما يكمن خلفه حلول لاحتياجات عالمنا الصناعي المتطور
سوف أقف - إن شاء الله - مرارا أمام نول نسيج المشط المفتوح ، وكلما يقع نظري على عمل هذه التقنية ، سوف أتصور - ما حييت - أصابع والدتي مضيئة ، وهي تطرر السلكات في عهد طفولتي . هذا العمل المبارك ، لم ينكفئ أثره على تأمين معيشتي في الطفولة ، بل امتد فضله ، وأثره على نتائج ابتكاراتي الصناعية ، ولينجز رائعة اختراعاتي ، التي زاد عدد ما سجل منها على السبعين . عمل الوالد والوالدة لم يكن أجره آنذاك سوى دراهم معدودة ، لكن أثره البعيد المدى ، أسس لمدرسة فكرية أنتجت تربية ، وعلما ، وبحثا ، وابتكارا
فالرحمة الرحمة لك يا والدتي ..
والرحمة الرحمة لك يا والدي ..
أولا وأخيرا يبقى الفضل والمنة والشكر لله عز وجل ، الذي يسر ، وأجرى على يدي هذا الابتكار، كوسيلة تفيد الناس ، وعلم ينتفع به
سعادتي بهذا الإنجاز التكنولوجي ، الذي تحقق على يدي كبيرة ، ولا أستطيع أن أصفها ، أو أعبر عنها بقدرات قلمي المتواضع ، لكنني - رغم ذلك - سأحاول أقرب الموضوع ، لمن لا يستطيع أن يلم في تفاصيل هذه الشؤون التكنولوجية ، بأن أشبه ذلك بإنجاز عالم فيزيائي حقق اختراقا علميا لتطبيق فعالية ما ، أو فوز رياضي حقق رقما قياسيا عالميا جديدا ، أو تألق كاتب لرائعة كتاباته
ساحة النقاش