الدكتور مصطفى شاهين اللبناني الأصل الأمريكي الجنسية عالم من علماء العرب المغتربين، وأحد أهم الشخصيات العلمية التي أسهمت بجهدها البحثي والفكري والإداري في إعادة كتابة علوم الفلك، وتحقيق ثورة معرفية بأسرار الأرض والكون، حصل على درجة الدكتوراه في "فيزياء الموائع" عام 1960م من "جامعة بيركلي" التي تعتبر من أهم الجامعات الأمريكية، وكان عمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين، التحق بعدها مباشرة بمختبر الدفع النفاث JPL بوكالة الفضاء الأمريكية "ناسا".
والدكتور شاهين صاحب الدور الرئيسي كباحث ومصمم ومطور ومحلل في كل تجارب "الاستشعار عن بُع"د التابعة لوكالة "ناسا" الفضائية، ولعبت أبحاثه دوراً مهماً في دراسة حرارة الأرض ورصد المناخ باستخدام الأقمار الاصطناعية، وهو أحد المؤمنين بوجود "حياة عاقلة" خارج الأرض.
ولد الدكتور شاهين عام 1935م بقرية "أم النبع" في بيروت التي غادرها إلي ولاية كاليفورنيا الأمريكية للعمل في وكالة "ناسا" الفضائية حيث قضى 15 عاما في القسم التقني بالوكالة أجريت خلالها معظم الرحلات الفضائية الآلية غير المأهولة.
وفي الفترة ما بين عامي 1975م و1978م ترأس شاهين الدائرة الخاصة بدراسة الأحوال الجوية للكواكب، وأسس في العام 1978م قسم "علوم الأرض والفضاء" في مختبر «جي بي إل» التابع لناسا، وتولى لفترة 8 سنوات رئاسة هذا القسم الذي ضم مائتي باحث، طور خلالها طرقا حسابية لقياس حرارة واستكشاف مناخ كواكب الأرض والزهرة والمريخ والمشتري ، كما رأس اللجنة الدولية الخاصة بدراسة دور الطاقة والمياه في الكرة الأرضية لمدة 5 سنوات.
ومنذ عام 1984م وحتى عام 2001م شغل الدكتور شاهين منصب كبير العلماء في "مختبر الدفع النفاث" و مختبر "جي بي ال" وهو أكبر مختبرات وكالة "ناسا"، وأهم مؤسسات الفضاء في العالم وتم خلال هذه الفترة بناء وإطلاق المسبار الفضائي "ماجلان" الذي قام برحلة خارقة قطع فيها مسافة 1300 مليار كلم ودار حول الشمس حتى بلغ كوكب الزهرة والتف حوله، والتقط له أول الصور المعروفة في علم الفلك، كما تم أيضا إنجاز بناء المركبة "جاليليو" التي تم إطلاقها عام 1989م واستكشفت أكبر كواكب المنظومة الشمسية في رحلة استغرقت 6 سنوات قامت خلالها بعمليات التفاف خارقة حول الكواكب، مستفيدة من قوة الجذب والدفع، حتى وصلت إلى المشتري عام 1996م.
ترأس الدكتور شاهين أيضا أعلى هيئة علمية لدراسة دورة الماء والطاقة في الطبيعة "جيوكس "، وهي هيئة مسؤولة عن تحليل البيانات الخاصة بالأقمار الصناعية التي ترصد الإشعاع الشمسي وحركة الرياح والغيوم ومستويات البحار والمحيطات وتركيب جو الأرض، وكذلك رصد النشاطات البشرية التي تؤثر على كل ذلك، بالإضافة إلى مشروع "أكوا" وهو قمر صناعي لدراسة المياه والمناخ على الأرض.
يؤمن الدكتور شاهين بوجود "حياة أخرى عاقلة" خارج كوكب الأرض، استنادا إلى عدة مبررات، أولها أن الأرض بالنسبة للكون بمثابة قطرة في محيط كبير، فليست الأرض سوى عضو في منظومة شمسية تتألف من مجموعة من الكواكب والتوابع التي تدور في فلك نجم واحد هو الشمس، وليست الشمس سوى نجم واحد من مليارات النجوم في مجرة "درب التبانة"، ودرب التبانة هي الأخرى واحدة من المجرات ضمن مليارات المجرات الموجودة في الكون، وبالتالي فالاعتقاد بأن الأرض وحدها القادرة على توفير ظروف الحياة لهو أمر ينبئ عن مدى "غرور" سكان هذا الكوكب، حسب اعتقاده.
وفي هذا الصدد يقول:" لعل وقفة بسيطة عند الحسابات العلمية التي أجريت حول هذا الأمر، والتي تقول بوجود 400 ألف حضارة شبيهة بحضارة الأرض في مجرتنا وحدها فقط لكفيلة بمحو هذه النظرة المغرورة"، ويستطرد: "إنه إذا كان عمر الأرض قد تجاوز 3 مليارات من السنين، بينما عمر تكنولوجيا الفضاء لم يتخط 100 عام فقط، فليس من المتوقع أن يكون البشر قد تمكنوا من صناعة وسائل اتصال تستطيع أن تصل إلى حضارات أخرى عاقلة في هذا الكون".
ويرى العالم العربي أن الظروف الضرورية لقيام الحياة على الأرض قد تكون هي نفسها المطلوبة لنشأة الحياة في أي مكان آخر في الكون، ومن ثم تطورها إلى الأشكال الموجودة على الأرض في وقتنا الحالي.
وعلى خلاف التصور السائد عن العلم ومدى تطوره السريع يراه الدكتور شاهين بطيء الحركة، كثير التردد، براهينه غير قاطعة على الدوام، ويعتقد أنه على الرغم من أهمية العلم وقدرته على أن يلعب دورًا مهمًا في السياسة، فإن السياسة ما زالت هي الموجه للعلم وليس العكس، ويدلل على ذلك بحظر التدخين، فقد استمر الجدل حول مدى تأثيره على الصحة عقدين كاملين، بينما لم يحسم هذه القضية سوى القرار السياسي، وهو الأمر الذي يتكرر الآن مع ظاهرة التغير المناخي.
في عام 2002 فوجئ العالم بإطلاق أول قمر اصطناعي أشرف على تصميمه وحدد مهمته عالم عربي هو الدكتور شاهين الذي اختار للقمر اسم "أكوا" ويعني "الماء" باللغة اللاتينية، ووافقت وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" على الاسم الذي يعكس مهمة القمر الأساسية في جمع معلومات شاملة عن دورة المياه في الطبيعة، بما في ذلك المياه المتبخرة من المحيطات وبخار الماء في الجو والغيوم والأمطار والأنهار والثلوج ورطوبة التربة وطبقة الجليد التي تغطي الأرض.
ويمثل القمر "أكوا" خلاصة المعرفة العلمية والتقنية للدكتور شاهين الذي شملت أبحاثه خلال 40 سنة من عمله في وكالة "ناسا" الأرض، والكواكب، والأجرام البعيدة ويعد "أكوا" أحدث الأدوات العلمية لقياس دورة الحرارة في الأرض والطاقة الإشعاعية والرذاذ والغطاء النباتي لسطح الأرض والأعشاب والطحالب البحرية، إضافة إلى المواد العضوية في المحيطات وهواء الأرض ودرجات حرارة المياه، وسيرسم القمر المزود بستة أجهزة علمية أول خريطة عالمية تحدد التوزيع الأفقي لتراكمات غاز ثاني أوكسيد الكربون في جو الكرة الأرضية، وتجمع المعلومات عن درجات حرارة سطح الأرض والمحيطات وارتفاع الغيوم وكمياتها وأوضاع "الأوزون" والغازات الدفيئة، وتقيس الأجهزة درجة حرارة الغطاء الجوي إلى ثخانة تبلغ كيلومترا واحدا بدقة تبلغ درجة مئوية واحدة، كما يقيس درجة الرطوبة إلى ثخانة كيلومترين إلى حد 20 %.
وبلغت تكلفة قمر "أكوا" نحو ربع مليار دولار، لكن المعلومات التي سيجمعها والاكتشافات العلمية التي يقوم بها ستوفر للصناعة والزراعة والقطّاعات الاقتصادية الأخرى ما يعادل خمسة مليارات دولار في اليوم الواحد، فالقمر سيقفز بالتوقعات الجوية التي تبلغ حالياً خمسة أيام إلى أسبوع، ويرصد نذر الكوارث الطبيعية قبل وقوعها، ويجيب على أخطر الأسئلة التي تهدد الحياة على الأرض.
والاسم العلمي لقمر "أكوا" هو "مسبار الرصد الجوي ما فوق الحراري"، ويرافق قمر شاهين قمران آخران يدرسان مناخ الكرة الأرضية، وتمثل الأقمار الثلاثة أكثر الأنظمة العلمية تقدماً، وتتابع الأرصاد الجوية ومراكز البحوث حول العالم تحليل ودراسة النتائج التي يجمعها قمر شاهين.
ويعكس قمر "أكوا" القدرات الفذة للعالم العربي الذي جمعت نشاطاته بين المسؤوليات العلمية والإدارية، وممارسة البحوث العلمية النظرية والتطبيقية.
رغم ابتعاد الدكتور شاهين لما يزيد عن 40 عاما إلا أنه لا يزال متمسكا بجذوره العربية حريصًا على قراءة لغتها وفي هذا الصدد يقول: "للعربية جمال خاص، فهي مبنية على أساس أربعة آلاف جذر من الأفعال، وقد انقطعت عنها سنوات طوال، ربما نشأت خلالها آلاف من الكلمات الجديدة، ومع ذلك أستطيع أن أعرف الكلمة الجديدة عن طريق ردها إلى جذورها بسهولة، هذا يجعلني أستمتع بالقراءة، لكنني مع ذلك لا أستطيع أن أستخدم الكلمات مباشرة مع أنني أقرأ العربية بشكل جيد، وأقرأ الصحف العربية التي أجدها في أكشاك باعة الصحف، كما أقرأ الرسائل التي تأتيني بالعربية مرتين، الأولى لأعرف محتواها، والثانية لأتذوق العربية".
والدكتور شاهين صاحب أسرة عربية؛ فزوجته الدكتورة "مارينا البندق"، بنت بيت لحم في فلسطين، وهي أستاذة للعلوم السياسية، وقد أنجب الزوجان ولدين، هما توفيق (طبيب عيون)، وسليم (محام).
ويذكر أن وكالة "ناسا" قلدت الدكتور شاهين وسام "القيادي البارز" تتويجًا لجهوده في القيادة التي استمرت قرابة 30 عامًا متواصلة واعترافا بمكانته العلمية وانجازاته الهائلة في مجال الفضاء، ورغم ذلك كله ظل هذا العالم الفذ بطلا مجهولا فخرجت انجازاته للعالم كله بينما بقي هو في الظل.
ساحة النقاش