جلس شيخ حكيم على ضفة نهر، وبينما هو يتمتع بجميل صنع الله في الكون والطبيعة.. إذا به يلمح عقرباً قد وقع في الماء.. يوشك أن يغرق، ولكنه لم يستسلم، وحاول بإصرار أن ينقذ نفسه دون جدوى، فقد كان تيار الماء الذي وقع فيه شديداً، ولم يستطيع أن يتحكم في نفسه، وفقد توازنه، وأوشك على الموت غرقاً! رأى الشيخ الحكيم العقرب في هذا الكرب وتلك الشدة، فقرر أن ينقذه.. ومدّ يده إليه، لكن العقرب لسعه. سحب الشيخ الحكيم يده صارخاً من شدة الألم، ثمّ نظر إلى العقرب فوجده يقاوم الغرق، فرق قلبه وتعاطف معه، ثمّ مد يده مرّة ثانية لينقذه فلسعه، فسحب يده مرّة أخرى صارخاً من شدة الألم!1
وبينما الشيخ الحكيم يعاني الألم بسبب لسعة العقرب، إذا به ينظر إلى العقرب، فوجده أوشك على الموت، فمد يده مرّة ثالثة يحاول إنقاذ العقرب!!
كان هناك رجل يجلس على مقربة من الشيخ الحكيم، ويشاهد ما يحدث ويتابعه، فتوجه إلى الشيخ الحكيم وصرخ فيه قائلاً: أيها الشيخ الحكيم.. ألم تتعلم من اللسعتين الأولى والثانية؟!! لماذا – إذن – تمد يدك للمرّة الثالثة بعد أن لسعك العقرب مرّتين؟!!
لم يعبأ الشيخ الحكيم بلوم الرجل، وظل يحاول حتى أنقذ العقرب من الغرق، ثمّ توجه إلى الرجل الذي لامه، وربت على كتفه برفق وودٍّ وهو يقول له: يا بني.. من طبع العقرب أن يلسع، ومن طبعي أن أحب وأعطف!!
هنيئاً لهذا الشيخ، صاحب القلب الرقيق، المليء بالحب.. هنيئاً لمن يتغلب على نوازع الشيطان، هنيئاً لمن ينتصر على نفسه، ألم تقرأ أو تسمع هذه المقولة العظيمة: "كونوا كالشجر، يقذفه الناس بالحجر، فيرميهم بالثمر"!!
ألم تتأمل في قذف الناس للشجر، فتلحظ أنّ القاذف أدنى من المقذوف؟ ألم تر الإنسان يقذف نخلة عالية باسقة سامية لأنّها أعلى منه، هكذا يقذف الصغار الكبار؟
قد تجرحك تصرفات الناس وتؤلمك، فلا يدفعنك ذلك إلى التخلي عن قلبك الطيب، ولا تحملنك تصرفاتهم على ترك صفاتك الحسنة، وأخلاقك الحميدة، وقيمك الراقية، ولا تكترث بهذه الأصوات التي تطالبك بأن تعامل الناس حسب فعالهم وتصرفاتهم، لأنّهم من وجهة نظر أصحاب هذه الأصوات لا يستحقون تصرفاتك النبيلة الراقية.
فإذا سلّمت بهذا المبدأ واقتنعت به، فليكن أولى الناس بحسن فعالك أهلك وأولادك، فقد علمنا رسولنا الكريم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
كثير من الآباء والأُمّهات يتألمون من أولادهم، فقد يعق الأبناء الآباء والأُمّهات، وقد يهملون دراستهم، وكثيراً ما يجلبون الكدر والنكد، فيشقى الآباء وتشقى الأُمّهات، بسبب تصرفات الأولاد، وهنالك قد يضعف الآباء والأُمّهات، فبعضهم يقسو..
ومن أقوال "شكسبير": "سامح قبل أن تبتهل بالدعاء، وتحسس قبل أن تؤذي، وأحبب قبل أن تكره".
كثير من الآباء والأُمّهات يرون أنّه لا فائدة في تربية الأولاد ومعاملتهم سوى العقاب والشدة، ويضربون بسائر الأساليب والوسائل التربوية عرض الحائط، ويستدلون على صحة منهجهم بأنّهم تربوا على هذه الطريقة، قال لي أحدهم: كنت أقف أمام والدي، فلا أحاوره، ولا أقاطعه، وهو المسموح له فقط بالتحدث إليّ دون ردّ مني ولا كلام، لأن ذلك من سوء أدب الإبن مع أبيه، وفوق ذلك كان والدي يحدثني، يرفع صوته وأنا أنصت، ولا أدري متى يضربني وكيف، فقد كنت أفاجأ بصفعه لي على وجهي يميناً ويساراً، فأقف ولا أتحرك، وقد رباني هكذا حتى صرت رجلاً كما تراني.
قلت له: أنت تتبع نفس المنهج مع أولادك، فرد متحمساً: طبعاً، ويسيرون على الصراط المستقيم.
قلت له: صف لي ابنك وهو أمامك وأنت تكلمه.. فقال: يقف أمامي يرتجف، وينصت لكلامي، ولا يرد..
إنّ مثل هذا الأب لا يمكن أن يربي أبناء أسوياء، ربّما يتمكن من أن يسكت ابنه، ويجبره على الإذعان والخضوع له، لكنه في مقابل ذلك سيغرس في ابنه الجبن والخنوع، وسيقدم للمجتمع شخصية مهزوزة مضطربة نفسياً، ولن يستطيع أن يبني شخصية قوية سوية، تنفع ذاتها وغيرها، وتكون لبنة قوية في أسرة، ومن ثمّ في مجتمعها وأُمّتها.
- حاجتنا إلى التربية بالحب:
ما أحوجنا إلى أن نربي أولادنا بالحب، كي نرضي ربنا، ونعيش حياة الوئام والإنسجام، فنسعد وأبناؤنا في دنيانا وأخرانا، ونبني مجتمعاً متماسكاً متحاباً قوياً.. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: ما مفردات التربية بالحب؟
- مفردات التربية بالحب:
يشير علماء التربية وعلم النفس والإجتماع إلى عدة مفردات أو وسائل للتربية بالحب، أهمها:
أوّلاً: كلمة الحب:
فللكلمة تأثيرها الفعال في تأليف القلوب، وتربية البشر وهدايتهم وإصلاح شؤونهم ونفوسهم، فهي كالشجرة الوارفة الظلال، المورقة، المثمرة، التي تعطي خيراً كثيراً.
- المتكلم رسَّام وريشته الكلام:
ذكرت إحدى الدراسات أنّ الفرد إلى أن يصل إلى سن المراهقة يكون قد سمع ما لا يقل عن ستة عشر ألف كلمة سلبية "سيِّئة" في مقابل بضع مئات من الكلمات الإيجابية "الطيبة".
قد يقرأ الإنسان هذه الحقيقة ولا يدرك أثرها السلبي في تربية أولادنا، بيد أن علماء التربية يؤكدون أنّ الطفل عندما يُهان أو يُوصف بصفات سلبية من قِبَل الآباء أو الأُمّهات أو المربي؛ فإنّه بذلك يرسم صورة عن نفسه في ذهنه، وهذه الصورة الذهنية له عن ذاته تكون نتيجة لما يسمعه عن نفسه من الآخرين، وكأن كلمات الآخرين له هي ريشة الرسّام، والرسام هو المتحدث للطفل، فإن إستخدام المتحدث ريشة ذات لون أسود رسمت صورة سوداء، وإن استخدمت الألوان الجميلة كانت الصورة جميلة!
إنّ بعض الآباء عندما يسيؤون الحديث وهم يخاطبون أبناءهم يشوهون شخصياتهم، فلا تحط من قيمة ابنك، وأنتِ أيتها الأُم لا تسيئي الحديث مع ابنتك، فأجتنبا – أيها الأبوان – الإهانات والشتائم، والتحقير، والتشنيع، والإستهزاء، والنعت بألفاظ سلبية، لأن ذلك سيورث الأبناء الإنطواء، والعدوانية، والمخاوف، وعدم الثقة بالنفس، وإحتقار الذات، والإضطرابات، والأمراض النفسية.
ثانياً: نظرة الحب:
وذلك عن طريق لغة العيون، فاجعل عينيك – أيها الأب العزيز – في عين طفلك، وتبسم في وجهه، واصحب هذه النظرات الحانية الودودة المليئة بالحب بكلمات الحب، قد يقول أب: كيف أصنع ذلك ولم أعوّد ابني على ذلك؟ وماذا أقول لإبني إذا استغرب ذلك وتعجب؟!
الأجدر بك أيها الأب العزيز أن تقلع عن التجهم في وجه أولادك، فإذا سألك ابنك عن سر هذا التحول الكبير، فأجبه: "لأني أحبك يا بني"، أو لأني "اشتقت إليك يا ولدي".
ثالثاً: لمسة الحب:
ليس من الحكمة أن تحدث ابنك حديثاً علوياً، سواء كانت العلوية هنا مكاناً أم حديثاً، أقصد لا تحدث ابنك وأنت تجلس على كرسي مرتفع وهو أدنى منك، ولا تكلمه مفرطاً في سلطاتك كأنك ضابط يأمر جندياً.. وليس من الحكمة أيضاً أن تخاطب ابنك أو تحاوره وهو بعيد عنك، بل احرص على أن تكون قريباً منه قلباً ومجلساً وحديثاً، المس كتف ابنك أو بنتك عندما تحاورهما، واحرص على أن تكون نبرات صوتك دافئة، ولمساتك حانية، لمسة رقيقة وليست جصة شديدة.
إن لمسك لإبنك أو ابنتك يشعرهما بروح الأبوة، والحنان، وتعميق الحب، وإشعارهما بالأمان، فيسري تيار الحب الأبوي إلى قلوب الأبناء والبنات، ويشعرون أنهم جزء منك.
- أنواع اللمسات:
ثمة لمسات متنوعة تكون مصدر أمان وحنان الأولاد، فهناك المصافحة عند خروجك أو خروجهم من البيت وعند العودة. وثمّة لمسة على الشعر، ولمسة على اليدين عند الإمساك بهما.
فأين أنت أيها الأب العزيز من تلك اللمسات؟!
رابعاً: ضمة الحب:
فمن الحاجات النفسية للأطفال الحاجة إلى الحب، وهذه الحاجة يجب أن تُشبع من قِبَل الوالدين، وإلا نتج من ذلك حرمان يؤدي إلى بعض الإضطرابات النفسية للأولاد، فلا يبخلن الآباء والأُمّهات على أولادهم بالأحضان، فالحاجة إلى الضمة الرقيقة الحنونة لدى الأولاد إنما هي كحاجتهم إلى الطعام والشراب، بل أشد، ومن ثمّ وجب على الآباء أن يشبعوا حاجات الأولاد إلى ذلك.
خامساً: قُبلة الحب:
إنّ قبلة الوالدين لولدهما تقع على نفس الولد موقع الرحمة والحنان، وتشعره بالأمن والأمان، ومن دون القبلات لا نستطيع أن نقرب أولادنا، فيبتعدوا عنّا، ويألفوا النفور والجفاء ويتعودوه من الصغر.
إنّ القبلة تستلُّ الآلام والجراح، وتدخل على نفوس أبنائنا وبناتنا السرور والأفراح، وتشعرهم بالحب والشوق والرضا.
سادساً: بسمة الحب:
إنّ البسمة في وجوه أبنائنا وبناتنا تثمر ثماراً كثيرة، فهي تدخل السرور عليهم، وتنمي الحب بيننا وبينهم، وتكسبنا الحسنات، وتكفر عنا السيِّئات، وتستل من قلوبنا وقلوبهم الحسنات.
قف "أيها الأب" وقفي "أيتها الأُم" أمام المرآة، ولينظر كل منكما إلى نفسه مرّة وهو يبتسم، ومرّة أخرى وهو عابس، وليلاحظ الفرق.
إنّ طلاقة الوجه والتبسم والإشراف.. كل ذلك يشعر الأولاد بفرحة لقاء الأب أو الأُم، فيسعدون باللقاء، وتنفتح قلوبهم لنا بحب صادق، فإن أحبونا تأثروا بنا وأطاعونا.
فليجرب الآباء والأُمّهات التربية بالحب، وذلك بإستخدام كلمة الحب، ونظرة الحب، ولمسة الحب، وضمة الحب، وقبلة الحب، وبسمة الحب.
المصدر: مقالات النجاح.. البلاغ
ساحة النقاش