بدأت الواقعية في الظهور ـ مذهباً أدبياً ـ في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وأخذت في مزاحمة الرومانسية، ولكنها اتجهت إلى النثر، ولاسيما القصص والمسرحيات، بينما نرى الرومانسية قد اتجهت إلى الشعر غالباً.
ولكن الباحث يلاحظ أن للواقعية بذوراً في الآداب الإنسانية منذ القدم في أدب اليونان، وأدب الهند، وأدب الصين، وفي الأدب العربي، وبخاصة إذا أخذنا لفظة الواقع بمعناها المعروف المتداول.
والواقعية لم تكن مذهباً أدبياً يسلك طريقه الكتاب والشعراء، إلا بعد أن استقرت فلسفة في أدمغة المفكرين، وبطون الكتب، وقامت بين الفلسفة الواقعية هذه وبين فلسفة أخرى تدعى "المثالية" معارضات ومجادلات، إذ الأولى ترى أن الحياة في أصلها شر ووبال ونقمة ومحنة، بينما ترى الأخرى أن الحياة في أصلها خير ونعمة وسعادة، الأولى تنظر إلى الحياة بمنظار أسود قاتم، والمثالية تنظر إلى الحياة بمنظار الأمل والتفاؤل والخير، فهناك بون شاسع بين الفلسفتين.
وأول من مهد للفلسفة الواقعية وظهورها في أوروبا الفيلسوف الفرنسي فولتير "1694 ـ 1778م" ، فقد سخر في قصائده "أحاديث عن الإنسان" ، وفي قصصه "كانديد" ، من المثالية الساذجة التي كان الشعراء الإنجليز ـ كبوب ـ يتغنون بها ويمهدون لها، وذلك بنظرتهم إلى أن الحياة خير، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. ويتخذ فولتير من كانديد ومعناه الساذَج مثالاً للسخرية والاستهزاء، إذ تنزل بالساذَج محن ومصائب ونقمات، كل ذلك بسبب تفاؤله وحسن ظنه بالآخرين، ونيته الطيبة، ويعرض فولتير كل هذا في سخرية لاذعة، ونقد قارص موجع اشتهر بهما.
وإذا أطلقت الواقعية في الأدب العربي الحديث، فإنها تعني الحديث عن الواقع وكشف مظاهره، والبحث عن أسراره وخفاياه، وهذا هو المقصود بها تقريباً بعدها مذهباً أدبيَّاً، إلا أنها ترى ـ بالإضافة إلى هذا ـ أن الواقع شر ووبال في جوهره، وأن ما يبدو خيراً لأول نظرة ليس إلا بريقاً كاذباً، وقشورا لامعة تخفي تحتها الشر والنقمة.
وانبثاقاً من هذا المدلول للواقعية، فإنها تنظر إلى الأخلاق الإنسانية والصفات السلوكية العالية، والقيم المثالية الخيرة إلى أنها أغلفة نحيلة وقشور بسيطة تخفي وراءها القسوة، والوحشية، والشر، فدافع الشجاعة في حقيقته إنما هو اليأس من الحياة، ودافع الكرم إنما هو الفخر والمباهاة، والبحث عن المجد والخلود، إنما هو بحث عن الشهرة وذيوع الصيت، وايهام للنفس بدوام الحياة واستمرارها.
فهذه النظرة لا تهدف إلى البحث عن مشاكل المجتمع وأمراضه، وفرض الحلول لها وكفى، وإنما هي تنظر إلى الحياة بمنظار أسود قاتم، تنظر إليها على أنها معدن للشر، ويجب أن يلتزم الإنسان جانب الحذر وسوء الظن والتشاؤم، حتى يسلم من غائلة هذه الشرور، لا أن يغرق نفسه في المثالية والتفاؤل.
وعلى الرغم من تفسير الواقعية للحياة، ذلك التفسير المتطرف، فلم تقم بينها وبين الرومانسية معارك أدبية كتلك التي حدثت ـ مثلاً بين الكلاسيكية والرومانسية ـ بل اكتفت أن تسير في طريقها الذي آثرته، وتنتج ما تريد من أدب في الصورة التي اختارتها دون ضجيج أو عويل أو دعاية، ولقد ترك "أونوريه دي بلزاك" أكبر موسوعة في الأدب الواقعي، وهي تشمل نحو مائة وخمسين قصة، أطلق عليها في آخر حياته اسم: "الكوميديا البشرية"، وتندرج تلك القصص ضمن الواقعية الاجتماعية التي بلورها بلزاك "1799 ـ 1850".
وبالإضافة إلى الواقعية الاجتماعية نجد أيضاً الواقعية العلمية، وتنصرف أكثر ما تنصرف إلى نقد الأدب، وأول من ابتدعها هيبوليت تين "1828 ـ 1893م" ، فإن مؤلفاته انصرفت إلى النقد والفلسفة والتاريخ. والواقعية الطبيعية التي ظهرت بشكل واضح في الأدب، وبخاصة في القصة، ورائدها الأول هو أميل زولا "1840 ـ 1903م" ، الذي يرى أن القصة ليست مجرد ملاحظات يسجل الكاتب فيها ما تأتي به الحياة تلقائياً، بل هي تجربة ذاتية ينشأ عنها العمل الأدبي، والتجربة الأدبية عنده هي أساس الأعمال الفنية، حكمها وتطبيقها أمران لازمان في تقويم تلك الأعمال والحكم عليها.
وقد أنتجت الواقعية بأنواعها المختلفة أدبا موسوعياً ضخماً، يتمثل في قصص جي دي موباسان، وفلوبير، وتوماس هاردي، وترجم من هذه القصص الكثير إلى اللغة العربية، ويتمثل أيضاً في الأدب التمثيلي كتمثيلية "الغربان" ، لهنري باك، وهي تمثيلية تصور مأساة أسرة كريمة توفي عائلها، وهي مثقلة بالديون، فتساقط الدائنون على أفرادها كالغربان الجارحة الجائعة.
ولقيت الواقعية بعض التفسيرات الجديدة التي تباين المنطلق الأساسي الذي صدرت عنه، وهي تفسيرات تزعم أنها لا تملي على الواقع شيئاً، ولا تزور في حقيقته، بل تكشف عنها. وتلاقت هذه التفسيرات مع الأصل الفلسفي للواقعية في جانب، وتباعدت عنه في جوانب أخرى، فهي ترى أن الواقع ليس إلا الصورة الذهنية التي لدينا عن الحياة، وتقول: إن أي شيء لا يتخذ وجوده إلا من الصورة الذهنية التي لدينا عنه، وهي بذلك لا تختلف عن الأصل الفلسفي للواقعية، غير أنها لا تتتفق معها في التشاؤم والسلبية واليأس من الخير. وتدعي أن الصورة الذهنية ملك للأديب، فهو يستطيع أن يعطيها اللون الذي يريد ويرى فيه مصلحة المجتمع، وبالغت في هذا، وتطرفت حين زعمت أن في استطاعتنا أن نسيطر على مصيرنا بالتزام المذهب المادي المحض، واعتبار الأدب مسألة اجتماعية تلغي وجود الفرد واستقلاله في غمار الجماعة التي ينتمي إليها.
والأدب العربي الحديث لم يكن بمنأى عن تيار الواقعية، ولكنها ليست بواقعية الشر والسلبية والتشاؤم، بل الواقعية التي تصور مشاكل المجتمع وتقاليده وعاداته، وإبرازها في صورة أدبية تكشف عن أسراره وخفاياه، ونجد ظلالها عند كثير من الشعراء كحافظ إبراهيم، ومعروف الرصافي.
وعند كثير من القصاص كنجيب محفوظ في ثلاثيته "قصر الشوق، وبين القصرين، والسكرية"، و"خان الخليلي"، و "بداية ونهاية" ، وتوفيق الحكيم "عودة الروح" ، ويحيي حقي "قنديل أم هاشم" ، وإبراهيم المصري "صور من الإنسان"، وطه حسين "شجرة البؤس، ودعاء الكروان" ، والمازني "إبراهيم الكاتب".
ولا تزال الواقعية تحتل مكاناً بارزاً في أدبنا العربي، وفي الآداب العالمية على الرغم من وجود تيارات أدبية جديدة.
نشرت فى 29 نوفمبر 2011
بواسطة hany2012
هـانى
موقعنـا موقع علمى إجتماعى و أيضاً ثقافـى . موقع متميز لرعاية كل أبنـاء مصر الأوفيـاء، لذا فأنت عالم/ مخترع/مبتكر على الطريق. لا تنس"بلدك مصر في حاجة إلى مزيد من المبدعين". »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
1,769,720
ساحة النقاش