لكل إنسان في الوجود ذات مميزة متفردة تحاول أن تدرك سر وجودها و سر العالم الذي خلق من أجلها ، فالذات عبارة عن كيان خاص ينفرد بإطار معين من المفاهيم و الآراء و المعتقدات و الأفكار و المشاعر ،و وعي خاص تحاول به التكيف مع البيئة التي وجدت فيها ، و يتم هذا التكيف من خلال أنماط و أساليب سلوكية تتفاعل بها في محاولة لأن تشبع حاجاتها و أن تحقق رغباتها و تطور من إمكانياتها و قدراتها الخاصة ، وصولا ً الى تحقيق الهدف الأسمى في الوجود و هو ( تحقيق الذات ) . فالإنسان بطبيعته كائن جوهري لديه استعدادات عصبية فطرية جهز بها لتساعده على التكيف في البيئة التي يعيش فيها ، من سمات هذا التكيف هو توافق الإنسان مع محيطه بما فيه من أشياء موجودة لظواهر طبيعية و كائنات حية و أشجار و بنايات ...الخ من فضاء الكون الواسع ، فمن ضمن ما يتوافق معه الإنسان هو أخيه الإنسان ، بدمه و لحمه و مشاعره ، مدفوعا ً بذلك من حاجاته النفس ــ اجتماعية ، و هي الحاجة إلى الآخر ، إلى الطمأنينة و الاستقرار، إلى الاحترام و التقدير ،إلى توكيد الذات ،أذاً فالذات فاعلة منفعلة مع الآخرين مع البيئة مع محيطها الخاص ، و من دون الاهتمام الاجتماعي ستصبح الذات ناقصة التفاعل ، لأن جوهر الاهتمام الاجتماعي : الذي هو الرغبة في الاحتفاظ بعلاقة قائمة على الحب و الصداقة ( شلبي و فيروف ) و من دون الحب و الصداقة ستعاني الذات الاضطراب و الانعزال .
الاهتمام الاجتماعي كما يراه علم النفس
لا يستطيع أي شخص أن ينفصل كليا ً عن الناس الآخرين و عن الالتزامات نحوهم ، فمنذ العصور الأولى تجمع الناس مع بعضهم على شكل عائلات و قبائل و شعوب ، و هي تجمعات أساسية لا غنى للإنسان عنها ، إذ يجب على الفرد أن يتعاون و أن يكون معطاء للمجتمع من أجل أن يحقق كلا ً من أهدافه و أهداف مجتمعه ، هذا التعاون هو ما عناه (أدلر )عالم النفس الفردي بالاهتمام الاجتماعي ، كذلك ينظر (هايدغر) الى الاهتمام الاجتماعي برؤية مميزة للعلاقات الإنسانية بقوله ( أن الآخر ينطرح أمامي و يشكلني ، و بما أنه كائن من أجلي و أني كائن من أجله ، فالمسألة هي الاعتراف المتبادل بوعي قائم أمام وعي الآخرين )، فيما يرى عالم نفس أخر و هو أريك فروم إلى الاهتمام الاجتماعي بزاوية نفسية أخرى ترى ( أن الاهتمام الاجتماعي هو أشد أنواع الحب ، الذي يتضمن جميع أنواع الحب ، و أقصد بهذا الشعور بالمسئولية ، و الرعاية ، و الاحترام ، و المعرفة إزاء أي كائن أنساني أخر ، و الرغبة في تطوير حياته ) ، في حين حدد أبراهام ماسلو الاهتمام الاجتماعي باعتباره سمة من سمات الشخص المحقق لذاته ، لما يملك من عاطفة و فهم و تقبل لنفسه و للطبيعة البشرية بصورة عامة .
كيف ينشأ الاهتمام الاجتماعي
تختلف الآراء و الأفكار حول نشأة و تطور الاهتمام الاجتماعي ، فمنهم من يرى أن الاهتمام الاجتماعي فطري ، و أن الإنسان مخلوق اجتماعي بطبيعته ، و ليس بحكم العادة ، و لكن هذا الاستعداد الفطري شأنه شأن أي قدرة طبيعية ، لا يظهر تلقائيا و أنما يثمر بالتوجيه و التدريب ، لأن الشخص يعيش منذ يومه الأول لحياته داخل السياق الاجتماعي ، و يفصح التعاون عن نفسه في العلاقة بين الطفل و أمه ، و من ثم يدخل في شبكة من العلاقات الشخصية المتبادلة لتشكل الشخصية ، و من المدعمين لهذا الرأي عالم النفس ( أدلر ) . في حين هناك فريق أخر من علماء النفس يخالفون هذا الرأي ، حيث يرون في نشأة الاهتمام الاجتماعي السلوك المكتسب من البيئة المحيطة ، فالطفل يكتسب سلوكه الاجتماعي من خلال التقليد و المحاكاة و التعزيز من والديه ، ثم يعمم هذا السلوك الى الأخوة و الأقارب و الأصدقاء و من ثم إلى أفراد الجماعة .
و بغض النظر عن نشأة الاهتمام الاجتماعي فهو سلوك يعتمد على المناخ النفسي الذي يتواجد فيه الفرد ، فمن شأن المناخ النفسي الذي يشبع في الجماعة أن يحور مدى دقة الأدراك الاجتماعي للاهتمام ، وذلك بناء على تكوين حالة إدراكية معينة تلون سلوك الفرد في تفاعله مع أبناء الجماعة . ( 1 )
معتمدا ً في ذلك على عمليات التفاعل بين الأفراد ، فالاهتمام الاجتماعي عملية تتوقف على استعدادات الأفراد و العوامل الموقفية التي تؤدي إلى عملية التفاعل ، فهو قد يكون قائم على حب أصيل في الأعماق للشخص الأخر أو قد يكون ناجم عن الرغبة في الحصول على فوائد تعود من الشخص الآخر ( 2 ) . كما تتوقف درجة الاهتمام الاجتماعي حسب متغير العمر و الجنس و المركز و نوع العمل ، فنحن نهتم بالأشخاص الأكفاء و الجذابون جسميا ً ، و الذين يحبوننا ، من يعيشون بجوارنا ، من لهم اتجاهات مشابهة لنا ، من يكملون احتياجاتنا .
كيف نعبر عن اهتمامنا الاجتماعي
لكل شخص طريقة مميزة في التعبير عن احتياجاته و رغباته و اتجاهاته و اهتماماته، فمن الطرق التي نعبر بها عن أفكارنا و مشاعرنا هي : ـــ
1 . نظرات العيون : تلعب العيون دورا مهما في عمليات التفاعل و التأثير و الاتصال و الجاذبية و التعبير و الأغراء ، و تؤدي وظائف هامة في بناء الروابط ، فتركيز النظر على الآخرين يقوي التفاعل و يشعر الآخرين بالاحترام و الانتباه لأحاديثهم ، و هو يتوقف على نوعية الموقف .
2 . إرهاف الحساسية لمشاعر الآخرين : أن حساسية الفرد إزاء حاجات الأخرين فن لأصول العلاقات الإنسانية ، يكتسبه الفرد من خلال التفاعلات الاتصالية مع الآخرين ، و هو يستلزم حسن الأصغاء و التفطن إلى المعاني الكامنة للكلام و الوعي بالمشاعر المتضمنة ( 2 ) راجع مقال نظائر اللغة في العدد الثامن .
3 . وضعية الجسم و تعبيرات الوجه : تقوم وضعية الجسم من خلال الحركات الانعكاسية و الغير انعكاسية من جزء الجسم أو بأكمله ، حيث يمكن من خلالها إيصال رسائل ايجابية إلى الشخص بأننا مهتمون و نعكس له مشاعر من الألفة و المودة و الحب . أما تعبيرات الوجه فهي لا تقل دلالة عن وضعية الجسم في إيصال الرسائل الايجابية ، فالابتسامة و حركة الجبين و الحاجبان و حركة الفم يمكن أن تعكس للآخرين مشاعر من الدفء و الصداقة و المحبة و الرغبة في الاستماع و الانتباه .
الاهتمام الاجتماعي و السلوك المرضي
ليس من الغريب أن نوصف أحيانا الاهتمام الاجتماعي بالسلوك المرضي ، فالشخص الذي يولي أو يكرس اهتمامه الى الآخرين بشغف و بقوة كبيرة و بصورة تخرج عن نطاق المعقول و ينسى نفسه، يعتبر سلوك مرضي عصابي ، حاله حال الشخص المتمركز حول ذاته ، المنشغل بالاهتمامات الذاتية إلى الحد الذي يصبح معه الشخص غير حساس بمصلحة و حقوق الآخرين
الفرد العراقي بين الاهتمام الاجتماعي و الانعزال الانفعالي
( الانعزال الانفعالي: هو عدم القدرة على تقديم التأييد الانفعالي اللازم لتكوين العلاقات و تدعيمها )
نحن نعلم جيدا ً أن الوضع الراهن الذي نعيشه وضع مأساوي و قهري ، لا تتوفر فيه أسباب الراحة و الرفاهية و وسائل الأشباع الكافي ( البيولوجي ، و النفس ـــ اجتماعي ) فالفرد العراقي تحول إلى كائن مغترب في جماعته ، ومحبط ، وعدائي ، ومرهق ، وخائف غير مطمئن ، ومكتئب ، وعاجز عن تغيير ظروفه و إشباع احتياجاته الأساسية .
و كل شخص أذا تعرض إلى مثل هذه المثيرات السلبية فأنه سيتجه اتجاهين ، الأول : يصبح كائن خائف و حذر في أقامة علاقاته الاجتماعية مع الآخرين ، و هو بذلك يقل اهتمامه الاجتماعي و تقل علاقاته ، و لكن يبقى محافظا ً على ديمومة ذاته و تفاعلها و الحفاظ على صحته النفسية ، أما الاتجاه الثاني : فسينحو هذا الكائن ليصبح إنسان سلبي مضطرب انعزالي يسوده التفكك و التشتت و انحراف الصحة النفسية ، ليضطرب اهتمامه الاجتماعي و يعزل نفسه بعيدا ً عن الآخرين ـ متمركزا ً حول نفسه ـ منشغلا بذاته ،التي سادها التوتر و القلق .
نشرت فى 21 نوفمبر 2011
بواسطة hany2012
هـانى
موقعنـا موقع علمى إجتماعى و أيضاً ثقافـى . موقع متميز لرعاية كل أبنـاء مصر الأوفيـاء، لذا فأنت عالم/ مخترع/مبتكر على الطريق. لا تنس"بلدك مصر في حاجة إلى مزيد من المبدعين". »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
1,793,580
ساحة النقاش