اللغز
كل منا يحمل جثتة على كتفيه ،
ليس هناك أغرب من الموت ،
إنــــــــه حادثٌ غريب ،
أن يصبح الشئ .. لا شئ !!
ثياب الحداد .. والسرادق .. والموسيقى .. والمباخر .. والفراشون بملابسهم المسرحية : ونحن كأننا نتفرج على رواية .. ولا نصدق ولا أحد يبدو عليه أنه يصدق !!
حتى المشيعين الذين يسيرون خلف الميت لا يفكرون إلا فى المشوار ، وأولاد الميت لا يفكرون إلا فى الميراث ،
والحانوتية لا يفكرون الا فى حسابهم ،
والمقرءون لا يفكرون الا فى أجورهم ،
وكل واحد يبدو أنه قلق على وقته أو صحته أو أمــواله ،
وكل واحد يتعجل شيئا يخشى أن يفوته .. شيئا ليس الموت أبداً .
إن عملية القلق على الموت بالرغم من كل هذا المسرح التأثيرى هى مجرد قلق على الحياة !!
لا أحد يبدو عليه أنه يصدق أو يعبأ بالموت ، حتى الذى يحمل النعش على أكتافه ،
الخشبة تغوص فى لحمـ أكتافه ، وعقله سارح فى اللحظة المقبلة وكيف يعيشها !!
الموت لا يعنى أحداً ، وإنما الحياة هى التى تعنى الكل .. نكتة !!
من الذى يموت إذن ؟
الميت ؟
وحتى هذا .. لا أحد يدرى مصيره !
إن الجنازة لا تساوى إلا مقدار الدقائق القليلة التى تعطل فيها المرور وهى تعبر الشارع ،
وهى عطلة تتراكم فيها العربات على الجانبين ، كل عربة تنفخ فى نفيرها فى قلق ؛ لتؤكد مرة أخرى أنها تتعجل الوصول الى هدفها ، وأنها لا تفهم هذا الشئ الذى اسمه الموت .
ما هو الموت .. وما حقيقته ؟!
ولماذا يسقط الموت من حساباتنا دائماً حتى حينما نواجهه ؟!
لأن الموت فى حقيقته حياة ، ولأنه لا يحتوى على مفاجأة ،
ولأن الموت يحدث فى داخلنا فى كل لحظة حتى ونحن أحياء !
كل نقطة لعاب .. وكل دمعة .. وكل قطرة عرق ، فيها خلايا ميتة نشيعها إلى الخارج بدون احتفال !
ملايين الكرات الحمر تولد وتعيش وتموت فى دمنا ، دون أن ندري عنها شيئا ، ومثلها الكريات البيض ، وخلايا اللحم والكبد والكُـلى والامعاء ،
كلها خلايا قصيرة العمر تولد وتموت ويولد غيرها ويموت ، وتدفن جثتها فى الغدد
أو تطرد فى الافرازات فى هدوء وصمت ، دون أن نحس أن شيئا ما قد حدث .
مع كل شهيق وزفير .. يدخل الأكسجين .. مثل البوتاجاز إلى فرن الكبد فيحرق كمية من اللحم ويولد حرارة تطهى لنا لحما آخر جديدا نضيفه الى أكتافنا .
هذة الحرارة هى الحياة !
ولكنها أيضا احتراق .. الموت فى صميمها .. والهلاك فى طبيعتها .
أين المفاجأة إذن ؟!
وكل منا يشبه نعشاً يدب على ساقين ،
كل منا يحمل جثته على كتفيه فى كل لحظة !
حتى الافكار تولد وتورق وتزدهر فى رؤوسنا ثم تذبل وتسقط ،
حتى العواطف ، تشتعل وتتوهج فى قلوبنا ثم تبرد ،
حتى الشخصية كلها تحطم شرنقتها مرة بعد أخرى ،
وتتحول من شكل إلى شكل !
إننا معنوياً نموت ، وأدبيا نموت ، وماديا نموت فى كل لحظة
وأصدق من هذا أن نقول أننا نعيش ..
ماديا نعيش وأدبيا نعيش ومعنويا نعيش ؛
لأنه لا فرق يذكر بين الموت والحياة ؛
لأن الحياة هى عملية الموت .
لأن الاوراق التى تنبت من فروع الشجرة ،
ثم تذبل وتموت وتسقط .. وينبت غيرها .. وغيرها .. هذة العملية الدائبة هى الشجرة ..!
لأن الحاضر هو جثة الماضى فى نفس الوقت !
لأن الحركة هى وجودي فى مكان ما وانعدامى من هذا المكان فى نفس اللحظة ،
فبهذا وحدة أمضى وأتحرك .. وتمضى معى الأشياء.
لأن الحياة ليست تعادلية كما يقول توفيق الحكيم , ولكنها شد وجذب وصراع بين نقيضين , ومحاولة عاجزة للتوفيق بينهما فى تراكيب واهية هى فى ذاتها فى حاجة للتوفيق بينها .. مرة .. ومرة ومرات .. بدون نهاية وبدون نجاح أبدا .. وبدون الوصول الى أى تعادلية ..!
الحياة ليست تعادلية بين الموت والوجود ولكنها اضطراب بين الاثنين وصراع يرفع أحدهما مرة ويخفضه مرة اخرى .
الحياة أزمة .. وتوتر .. !
ونحن نذوق الموت فى كل لحظة ، ونعيشه
فلا نضطرب بل على العكس .. نحظى بكياننا من خلال هذا الموت الذى فى داخلنا ، ونفوز بأنفسنا , وندركها , ونستمع بها .!
ولا نكتفى بهذا ، بل ندخل فى معركة مع مجتمعنا ،
وندخل فى موت وحياة من نوع اخر !
موت وحياة على نطاق واسع تتصارع فيه مجتمعات ونظم وتراكيب انسانية كبيرة .!
ومن خلال هذا الصراع الأكبر ، نحس بأنفسنا أكثر .. وأكثر .. انها ليست خلايا تولد وتموت فى جسد رجل واحد ،
ولكنها أيضا مجموعات بشرية تولد وتموت فى جسم المجتمع كله ،
إنها الموت يحدث على مستويات أكبر .!
الموت إذن حدث دائب مستمر ، يعترى الإنسان وهو على قدميه ،
ويعترى المجتمعات وهي فى عنفوانها .
وهو فى نسيج الانسان ، فى جسده ، وفى كل نبضة ينبضها قلبه مهما تدفقت بالصحة والعافية .
وبالموت تكون الحياة ، وتأخذ شكلها الذى نحسة ونحياه ، لأن ما نحسه ونحياه هو المحصلة بين القوتين معا ،
الوجود والعدم وهما يتناوبان الانسان شدا .. وجذبا .
ما السر إذن فى هذة الدهشة التى تصيبنا حينما يقع أحدنا ميتا ؟!
ولماذا يبدو لنا هذا الحديث غريباً ، غير معقول , غير قابل للتصديق ؟!
ولماذا نقف مشدوهين أمام الحادث نكذب عيوننا .. ونكذب حواسنا .. ونكذب عقلنا ،
ثم نمضى ، وقد أسقطنا كل شئ من حسابنا .. وصرفنا النظر .. واعتبرنا ما كان .. واجبا .. ولباقة . ومجاملة .. أديناها وانتهينا منها .!
لماذا لا نحمل هذا الحادث على محمل الجد ؟!
ولماذا نرتجف من الرعب حينما نفكر فيه ،
وتنخلع قلوبنا حينما نصدقه وتضطرب حياتنا حينما ندخله فى حسابنا ونضعة موضع الاعتبار ؟!
السبب أنه الحادث الوحيد المصحوب برؤية مباشرة ؛
فما يحدث داخلنا من موت لا نراه ،
لا نرى كرات الدم وهى تولد وتموت ، لا نرى الخلايا وهى تحترق ،
لا نرى صراع الميكروبات وهى تقتلنا ونقتلها ،
وخلايا لا ترى نفسها وهى تفنى .. !
كل ما يحدث فى داخلنا يحدث فى الظلام ، ونحن ننام ملء جفوننا ، وقلوبنا تدق بانتظام وتنفسنا يتردد فى هدوء .!
الموت يسترق الخطى كاللص تحت جنح الليل ، ويمشى على رؤوسنا فتبيض له شعراتنا .. شعرة .. شعرة ،
دون أن نحس ؛ لأن دبيبه وهو يمشى هو دبيب الحياة نفسها .!
إن أوراق الشجرة تتساقط ، ولكن السجرة تظل ماثلة للعيان دائمة الخضرة ،
دائمة الازدهار !
تظل هكذا حتى تهب عاصفة تخلعها من جذورها ، وتلقي بها فى عرض الطريق .!
وحينئذ فقط يبدو منظرها قاتما يبعث على التشاؤم ،
تبدو فروعها معروقة عارية .. وجذورها نخرة .. وأوراقها مصفرة .. لقد انتهت .. لم تعد شجرة .. أصبحت شيئا آخر .. أصبحت خشبا .!
وهذا هو ما يحدث ،
حينما نشاهدالانسان وهو يسقط جثة هامدة ،
إنه يبدو شيئا آخر، ويبدو الحادث الذى حدث فجأة ،
حادثاً غريبا بلا مقدمات ، لقد انتهى الانسان كله فجأة ، ويبدأ العقل فى التساؤل .. هل أنتهي أنا أيضا كلى فجأة .. كما انتهى ذلك الانسان .. وكيف ولا شئ فى احساسى يدل على هذة النهاية أبدا ؟!
كيف يحدث هذا ، وأنا جياش بالرغبة ، ممتلئ بالإرادة ، بل أنا الامتلاء نفسه ؟!
كيف يتحول الامتلاء الى فراغ .. وفجوة ؟!
أنا .. أنا ؟ !
الذى أحتوي على الدنيا ، كيف أنتهي هكذا وأصبح شيئا تحتوى عليه الدنيا ؟!
أنا ؟!
إن كلمة " أنا " كلمة كهربائية ،
إنها كالضوء أرى بها كل شئ ، ولا يستطيع شئ أن يراها ،
إنها أكبر من أي كلمة أخرى وأكبر من أي حقيقة ، لأن بها تكون الحقائق حقائق .!
إنها فوق كل شئ ، وفوقى أنا أيضا لأنها ترانى وتشعر بى ،
إنها مصدر الاشعاع كله ، وحيث يتمثل لى هذا المنظر المفجع الذى يلقى فيه إنسانٌ مصرعه ،
فهى فوق هذا المنظر أيضاً لأنها تراه ، وتطل عليه ،
وتطل على هذه الطبيعة من مكان ما ،
فوق المكان .. وفوق الطبيعة .. وفوق قوانينها .. وفوق ظواهرها .!
أنا أموت ؟!
من أنا ..
ومن هو الذى مات ؟!
إنه بعضٌ منى ، منظر من ملايين المناظر التى تعبر خاطرى ،
فكيف أموت أنا ايضا ؟!
إن التساؤل ما يلبث أن يتحول إلى تمزق فظيع يحطم فيه المنطق نفسه بنفسه ، ويصطدم باستحالات لا حل لها .!
وهكذا تبدأ المشكلة الازلية
لغز الموت .!
إن مصدر اللغز ، هو هذا الموقف الذى ينتقل فيه العقل من رؤية مباشرة للموت إلى استنتاج مباشر ، عن موته هو أيضا .!
وهو أبو الاشياء ، ونظامها ، وتفسيرها ، ونورها .!
ولكنه يعود فيقول :
لا ..!
إن الذين يموتون هم الآخرون ،
إن التاريخ كله لا يروي قصة واحدة عن موت الـ " أنا "
إن الموضوعات تتغير وتتبدل وتولد وتذبل وتموت ، والآخرون يموتون ،
أما أنا .. هذه الـ " أنا "
لا توجد سابقة واحدة عن موتها !!
أنا من مادة أخرى غير كل هذة الموضوعات ، ولهذا أمسك بها وأتناولها وأفهمها .. ولا أستطيع ان امسك بنفسى وأتناولها وأفهمها .!
أنا فوق متناول الجميع ، وفوق متناولي أنا أيضا !
وفوق متناول القوانين والظواهر ،
هناك حلقة مفقودة .!
وهى تفتح بابا تدخل منه الفلسفة ، ويتسلل منه الفكر ،
ولكنه باب ضيق ، ضيق جدا .!
يؤدى إلى سراديب أغلبها مغلق ،
ورحلة الفكر فى هذة السراديب مخيفة مزعجة ولكنها تثير الاهتمام .!
وأى شئ يبعث على الاهتمام أكثر من الحياة .. والمصير .. ومن أين .. والى أين .. وكيف ؟!
نشرت فى 8 أكتوبر 2011
بواسطة hany2012
هـانى
موقعنـا موقع علمى إجتماعى و أيضاً ثقافـى . موقع متميز لرعاية كل أبنـاء مصر الأوفيـاء، لذا فأنت عالم/ مخترع/مبتكر على الطريق. لا تنس"بلدك مصر في حاجة إلى مزيد من المبدعين". »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
1,767,905
ساحة النقاش