جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
لحظة وداع
سن الستين نغير أشكال الرجال , وتجعلهم يهبطون مطأطئي الرءوس عندما يمر بهم موكب الفراق , وقد لايعنيهم مهما كانت قسوته الا أن خيوطا تضع لمساتها عند ساعات الزمن في الستين من العمر , من تهالك الأسنان , أو اختلاط الرؤى والمشاهد لضعف البصر , وآلام الفراق مهما كانت لوفاة عزيز أو لنأي في الأرض لخير أو لشر .
وكما تترك أشجار النخيل الباسقة , وهي تركع للفناء نواة البلح فتنهي ركوعها الأليم وهي تودع شمس الحياة برضى وسعادة , وقد منحت الكثير من العطاء , وبقي النوى ليخلد ذكراها .
ترى الشيخ في الستين عندما يتربع اليقين والايمان على مسند قلبه, وقد أنجب ابنا بارا به , يراه ويشعر بدبيب الوهن يخترق كيانه , فبغمض عينيه وقد حقق مناه في هذه الحياة فيستريح , ويطمئن أن شجرة أيامه قد أثمرت مارغب فيه .
هكذا يبتلع الفراق نوى البلح قبل أن يتوقف النخيل عن العطاء , ويغيب الابن في وداع عن أبيه الشيخ غيبة ابتعاد وفراق أرض وأجساد بها أرواح .لتنبت النواة مجددة دورة الحياة , ويعود الابن ليحمل رسالة الانسان من قديم الزمان . قد تعمر الأشياء الكبيرة , وتفنى صغارها في ريعانها , ولكن يبقى لغز الفراق يحير العقول وهو يودع الوداع لا يدري هل سيكون لقاء بعد ؟!!
كانت الريح عاصفة تزعزع جذور العمر في لحظاتالأحداث , ولمست عيني مفاعيل الأيام والسنين بأبي الشيخ الكبير , وشاهدت أذني رنين الكلمات الهرمة , وبصرت تهتهات مضغ اللقيمات , فكان اهتزاز في أعماق الفؤاد لواقع الفراق ساعة الوداع .
لماذا يربطنا بالحياة هذا الخيط الرفيع الواهي من التغيير ؟!!!
أهي دلائل وعلامات لتذكير الناس بما انعقد على رقاب العباد من وجوب اقتراب النهاية ؟!!!
لماذا لا نودع الآخرين كما عرفناهم وعرفونا بكامل الصحة والاستقامة حتى نترك أروع الصور محفورة في الصدور ؟!!!
آه ... لقد تغيرت كثيرا يا والدي الوقور ... تبا لهذه الأيام التي قضيتها بعيدا عنك , لم أرك فيها, ولم أشاهد فيك هذا الحنين لموكب الأجداد . عربدت بك الحياة . يا لقسوتها . طوحتنا برياحها الهوجاء وجعلتنا نتجاذب لقمة الطعام من أفواه بعضنا البعض , في بقاع جافة الأودية , مسودة اللفحات . سحقا للقراق الذي يقطع حنايا القلوب بالألم والشقاء , حتى فراق الأجساد وهي على قيد الوجود بين صحة وذبول , وتغير في الأشكال , وضعف في الجوارح . لاتكفي صور الأحياء لسد أركان الشوق والانجذاب عن عناق الأحضان والصدور , وسماع نبضات القلوب . وعلى قارعة الطريق توقفت الحافلة التي ستغيبني في رحلة البعد المكاني , وأشفقت على الشيخ وعلى نفسي من قسوة الوداع ,وكان عناق وكانت دموع , ان دموع الآباء أمام الأبناء تحرق الأكباد , وكان حنان رفيق ورقيق في لمسات الوفاء الحانية ونحن متلاصقان في عناق وسكون يرتجف سعادة وألما في نفس الوقت , واضطربت الكلمات وأهداب عيني من هول الموقف ففكرت في البقاء .
ويمسح والدي الدموع من فوق خدي , وتنفرج ابتسامته قائلا : لتسرع يابني , لتلحق الحافلة , فهي لا تتوقف كثيرا , ينزل منها النازلون , ثم تحمل الركاب الجدد . ولتذكر يابني ما صنع الأجداد والآباء