مريم طفلة جميلة في عامها الثاني‮.. ‬تهم بأول خطوات في عالم الوجود‮.. ‬عالمها الصغير داخل منزل متواضع لأم شابة قروية وأب عامل‮.. ‬أشياؤها قليلة ولكنها تكفيها‮.. ‬طعامها علي القد لكنه يشبعها‮.. ‬لسانها بدأ ينطق بجملة من كلمتين أغلب حروفها‮ ‬غير واضحة لكن أمها قادرة علي فهمها‮.. ‬أرجلها الصغيرة تخطو بها خطوات قصيرة ولا تعفيها من الوقوع‮.. ‬مريم تبتسم في سعادة حقيقية مع قطعة من الحلوي أو عروسة صغيرة أو حضن دافئ‮.‬ وفي صباح أحد الأيام تركت الأم مريم تلهو في المنزل الصغير وذهبت إلي منزل شقيقتها القريب لمدة دقائق وهو تحرك معتاد لها،‮ ‬حيث لا يوجد في هذا المنزل المتواضع ما يشكل خطراً‮ ‬علي حياة الصغيرة،‮ ‬مريم التي مهما تجولت لن يكن محيط حركتها أكثر من عدة أمتار‮.‬ ومن حظ مريم العاثر أن تكون طفلة في دولة لا تحترم إنسانية البشر نساء كانوا أو عجائز أو شباباً‮ ‬أو ملائكة صغاراً،‮ ‬ومن حظ مريم العاثر أن وطنها يزخر بمؤسسات خدمية لا هم لها إلا إيذاء المصريين وطلاء حياتهم بالسواد‮.‬ في‮ ‬غيبة الأم يصل إلي المنزل الصغير ثلاثة مندوبين عن ثلاث من المؤسسات الحكومية‮.. ‬لجنة إزالة تتبع المجلس المحلي والعياذ بالله،‮ ‬ولودر من هيئة الإصلاح الزراعي،‮ ‬والاثنان في حراسة عربة شرطة تتبع وزارة الداخلية،‮ ‬ويسرع لودر الإصلاح الزراعي بأمر الإزالة الذي يحمله موظف المحليات وتحت رعاية الشرطة ويضرب في حوائط المنزل الصغير لإزالته،‮ ‬وفي لحظات يتحول المنزل إلي ركام وأتربة وأحجار،‮ ‬وتدفن مريم وهي حية تحت منزلها الصغير،‮ ‬وعندما عادت الأم وصرخت واستنجدت وعرف الناس أن مريم تحت التراب وأسرعوا بإخراجها،‮ ‬كانت الدماء تسيل من كل مكان في جسد الرضيعة‮.. ‬وترقد مريم الآن‮ ‬غائبة عن الوعي،‮ ‬وضعت علي جهاز تنفس صناعي،‮ ‬الإصابة مركزة في المخ والنزيف ناتج عن شروخ في الجمجمة،‮ ‬غير تهتك العين اليمني وضياعها تماماً‮.. ‬ويقول الأطباء إن الاستجابة لا تزيد علي‮ ‬4٪‮.‬ محافظ الإسماعيلية يقول إنه لن يترك المسئول عن حادث مريم بلا عقاب‮.. ‬مجلس المدينة أو مجلس القرية لا أعرف يتنصل كالعادة من المسئولية وسوف يخرج مثل الشعرة من العجين من الموضوع ويثبت بالأدلة والأوراق والأختام أنه لم يصدر قرار إزالة من أصله وأنهم لا يعرفون لماذا تصرفت هيئة الإصلاح الزراعي هذا التصرف الوحشي‮.‬ وهذا هو‮ »‬سلو‮« ‬المحليات،‮ ‬تخريب ورشاوي وبلاوي بلا أي مسئولية تجاه أي فرد أو أي قانون‮.. ‬وهيئة الإصلاح الزراعي سوف تثبت أنها أخرجت اللودر بناء علي أوامر وسوف ينتهي الموضوع بأنه قضاء وقدر أو أنه حادث فردي وغير متعمد وفي أصعب الأمور ربما يشيل الليلة كلها سواق اللودر ويأخذ كام سنة قتل خطأ‮.‬ وليست المشكلة في مَنْ‮ ‬الذي سوف يتحمل مسئولية حياة الصغيرة مريم ولكن المشكلة في أن هذه الحوادث أصبحت شيئاً‮ ‬معتاداً‮ ‬لأن حياة الأفراد تقع في آخر قائمة الأشياء ذات الأهمية وعدم إعطاء الأولوية في أي نظام لحياة البشر هو البطش بعينه‮.‬ والذي يثير التساؤل والغضب في حادثة مريم هو أن أياً‮ ‬من الأفراد الذين ينتمون للجبهات الثلاث التي قامت بالإزالة لم يكلف نفسه مشقة طرق باب هذا المنزل أو حتي طرق باب منزل الجيران وسؤالهم عن أصحاب المنزل المراد إزالته‮. ‬والعجيب أن تتم الإزالة دون إخطار أصحاب المنزل حتي يسرعوا ويلملموا القليل الذي يمتلكونه ولم يفكر أحد من الأطراف الثلاثة أنه ربما يوجد بالداخل خلف هذه الجدران أحياء ربما‮ ‬يكونوا نائمين أو ربما يوجد شخص مريض أو عاجز عن الحركة أو حتي‮ ‬غافل‮.‬ وعدم الالتفات والاهتمام بالبني آدمين في هذه الحادثة المخزية ليس عيباً‮ ‬فيهم ولكنه‮ »‬الشيستم‮« ‬العام الذي يسود سلوك هذه الحكومة الحنونة الرقيقة و»الشيستم‮« ‬يختلف عن‮ »‬السيستم‮« ‬في أنه يتعامل مع أضخم الأمور ببساطة ويسر وبشاشة وابتسامات‮.‬ ولا تختلف حالة‮ »‬مريم‮« ‬عن‮ »‬إسلام‮« ‬طفل الإسكندرية الذي مات داخل فصله في مدرسته بعد أن تهشمت ضلوعه تحت تأثير ركلات معلم الرياضة لأنه لم يقم بعمل الواجب والذي توالت بعد وفاته حوادث موت أطفال متكررة داخل المدارس ومنهم الطفلة التي ماتت من الرعب والأخري التي قتلها بواب المدرسة داخل المدرسة من أجل سرقة قرط ذهبي لا يزيد ثمنه علي مائة جنيه،‮ ‬هذا‮ ‬غير حوادث أخلاقية كثيرة ومشينة وأيضاً‮ ‬داخل الفصول المدرسية‮.‬ وكان المفروض أن تقف وقتها الحكومة وقفة شديدة،‮ ‬وتعيد تنظيم إدارة التعليم بأكملها وتأخذ تعهداً‮ ‬علي المدرسين الذين يعملون في وزارة التعليم بعدم التعرض للأطفال بالإيذاء الجسدي وتبدأ خطوات الإصلاح بأن يذهب السيد وزير التعليم إلي منزله بلا رجعة وأن يعاد تقييم المعلمين من حيث الأخلاق والسلوك والأمراض النفسية والعصبية قبل أن يطلقوهم ليحصدوا حياة الأطفال الذين يعانون بشدة،‮ ‬خاصة بعد‮ »‬قانون الطفل‮« ‬المزعوم‮.‬ ولكن‮.. ‬وآه من كل هذه‮.. ‬ولأن هذا لم يحدث فسوف تذهب حياة مريم سدي ولن نعرف من المسئول ولو المسئول من المحليات لن يضار الوزير ولو المسئول من هيئة الإصلاح لن يضار رئيس الهيئة وطبعاً‮ ‬الداخلية ستنا وتاج رأسنا‮.. ‬وكيف يضار مسئول كبير عشان حتة عيلة صغيرة ماتت يعني؟ ده كلام؟ إذا عاشت مريم ستكون معوقة أو مشلولة وبعين واحدة وستكون رمزاً‮ ‬لسنوات رديئة عاشتها مصر،‮ ‬وإذا ماتت تكون قد فازت بالراحة والرحمة من سنوات قادمة أشد سواداً‮.‬
   
 
   مقالات أخري للكاتب
من تاني‮.. ‬ملكي ولا ثورجي؟
ffarah

فرح

  • Currently 130/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
44 تصويتات / 180 مشاهدة
نشرت فى 16 ديسمبر 2009 بواسطة ffarah

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

82,491