يوميات "هدى" العاصفة!
اليوم الأول للعاصفة (6-1-2015)
الهُدَيات هنا جمع "هدى"، وهن كثيرات؛ أولهن هدى شعراوي وما أحدثته من عواصف فكرية فيما يتعلق بالمرأة! وهناك "الست هدى" مسرحية للشاعر أحمد شوقي، عرض فيها "هدى" امرأة متصابية، تعصف بكل القيم!
كما وتتدعى إلى الذاكرة الروائية "هدى بركات" صاحبة رواية "ملكوت هذه الأرض"، ومعارك جوائز البوكر العربية، والصراع المحموم في عواصف التأييد والمعارضة، والممثلة المصرية "هدى سلطان" ودورها زوجة لـ "سي سيد" في ثلاثية نجيب محفوظ "قصر الشوق" و"بين القصرين" و"السكرية"، لتعيد إلى الذاكرة تلك العواصف الهوجاء حول دور المرأة العربية قديما وحديثا، وأشياء أخر!
ولن تغيب عن البال "هدى غالية" تلك الطفلة التي استشهد أهلها جميعا على رمال حي الشاطي، إثر عاصفة إسرائيلية صاروخية مجنونة قبل سنوات، وقد هبت دافئة كثيرا! وصاحبتها الريح والزمهير والعراء، والحصار الأليم، لتستدعي "هدى" كل من قتلوا قبلها أو بعدها، وتقفز هذه "البنت الصرخة" في قصيدة محمود درويش لتصير "هي الصرخة الأبدية في خبر عاجلٍ"، كأنها "أثر فراشة" حطت ولم تطر!
كذلك تأتي "هدى" أخرى في مسرحية عادل إمام "الود سيد الشغال" التي أثارت جنون زوجها بعواصفها فطلقها عدة مرات لتعصف بكرامة الأسرة الأستقراطية، ويضطرون ليزوجوها الشغال ليحللها لزوجها المعصوف به، فعصف "الود سيّد" بالجميع، لأنه يحب "هدى"، كيف لا يحبها وهي العاصفة الأنثوية الجامحة؟!
والآن العاصفة الثلجية المسماة "هدى"، التي عصفت في الناس شرقا وغربا، وهيجت المشاعر والأقلام وعجائب الصور والكلام، وجاءت محملة بالبرد والثلج والمطر، لتعصف بكل شيء، فعصفت بالمرأة أكثر من عواصف هدى شعراوي، وتصابت وتدلعت أكثر من الست العجوز المتصابية "الست هدى" الشوقية، وجاءت ومعها كل الوعيد بالأهوال أفظع مما حدث مع "هدى" الاستقراطية المرفهة، وقد أصبحت امرأة الشغال سيد ورفض أن يتخلى عنها، وظل يخاطبها "بتحبيني يا هدى".
حضرت "هدى" ليكبر معها الحنين غامضا من مستقبل يأتي إلينا على استحياء، ربما ما زال مضرجا بدماء "هدى غالية" وأمنيات "هدى بركات" وتطلعات "هدى سلطان" في خلاصها من "سي سيد"!
ولا تنسوا الآن أن "هدى العاصفة"- ككل الهدايات- أصيلة وبنت أصول أتتكم من مناطق بعيدة، وهي غريبة دار ووطن، فلا تزعجوها، وإن غيرت حياتكم وأتتكم بما كنتم تستعدون له! ويجب أن تكرموا هذه "الهدى"، فهي زائرة "لطيفة" و"خفيفة دم"، وعليكم أن تظهروا معها الكرم العربي الأصيل، أكرموها بالنكت والهذيان، والتسالي والسهرات على ضوء الشمع، وتذكروا اللمات الاجتماعية، وقد تعطلت التكنولوجيا بكل أنحائها، ولتقبلوا على الاستغابات فهي شهية ليلا، ولْتستعدوا نهارا لتلعبوا بمخلفات "هدى" البيضاء!
فكل "هدى" وأنتم وأنتن بألف ألف دفء وخير وبركة!
اليوم الثاني للعاصفة (7-1-2015)
يبدو أن "الست هدى" لم تكن عاصفة، كما كان يتخوف منها القوم، ويتحدونها بثياب سميكة وصوبات مشتعلة وأجساد مرصوصة، ويتوعدونها بالنوم العميق، جاءت هدى ناعمة طرية وخفيفة دم، ثلجها ناعم وبردها غير عنيف، جاءت كما لم تأت عاصفة ثلجية من قبل، فكانت (بردا وسلاما) على الكهرباء وشبكات الإنترت، ولكن الفضائيات غابت كليا، فقد تحقق فيها القول (إذا حضرت هدى غابت الفضائيات)، ليس على اعتبار أن هدى ملاكٌ أبيض طاهر نازل من السماء كعمود نور، والفضائيات شياطين أنس وجان وحسب، ولكن لتعطي الفضائيات فرصة للناس ليقفوا خلف النوافذ فيتأملوا نعومة الثلج، وليلتقطوا الصور لهذا الزائر الأبيض، وما يحيط به.
وربما امتدت الصور لتكون نوعا من المزاح، فتصل إلى منزل (جارة) ما فتحظى بصورة من بعيد، ولكن لم يظهر ما كان ينبغي أن يظهر من ألوان فسفورية، فقد غطى الثلج كل لون وكان الأزهى والأجمل، وربما عاد الأصدقاء إلى ذكرياتهم، فبدأوا ينشرون صورهم القديمة مع الثلج استعدادا لذلك المشهد المرتقب بعد أن يتراكم طبقات، لتبدأ فصول أخرى من يوميات "هدى"!
تركت لنا الست هدى الأوضاع هادئة، فقد أحسنت تقدير الأوضاع الاقتصادية والسياسية فلم تكن هي والحكام والمحتلون والدكتاتوريون علينا، بل كانت أرحم من حكومات تتحكم بمصائر الشعوب، وتتلاعب بالأسعار تلاعبا مضحكا غبيا، وأشد رأفة من محتل جبان عصري بامتياز لا يعرف من الإنسانية شيئا مطلقا، يخنق شعبا كاملا، ليس في غزة وحسب، بل أيضا في المناطق التابعة لجمهورية رام الله المستقلة، حيث لا رواتب إلى الآن.
كانت "هدى" أسمح وألطف من كل ذلك الغثاء الذي يحاصرنا في كل مكان، تساهم في صنعه دكتاتوريات لا تعرف إلا الارتواء من دماء المقهورين، ونظام عالمي مجرم، يهندس الموت في كل لحظة وفي كل بقعة من هذا العالم، لا توقفه هدى ولا غير هدى، فعواصفه مجنونة مع سابق إصرار وترصد!
جاءت هدى اللطيفة الفاتنة، عروس الأشجار والأسحار والربى، عروس متألقة البريق تختال فرحة وهي أشد إنسانية من بعض بني الإنسان، وأكثر دفئا من حضن امرأة لم يعد يتسلل الحنان إلى أطفالها، فقد شمّعها الهباء، وشدت في السعي وراء أشكال من الغباء، تتقافز من هناك إلى هناك، لا تبحث إلا عن ضياعها في هذا الرحب العنيف!
جاءت هدى وهي تحرص على رسم القدر بتأن ورحابة صدر، فهي مأمورة ومأسورة، ولكنها بكل تأكيد ليست مقهورة، إني أراها تنظر إليّ من بين أضواء الشاشة تبتسم ابتسامتها الظريفة المليئة حبا ولطفا، امرأة قلبت بحكمتها ذلك السيل الجارف من التعليقات والتغريدات الإلكترونية إلى مادة أدبية ظريفة، فنجحت في أن تترك بصمتها في هذا الكون بأنعم طريقة ووظفت قوتها الناعمة المهيبة لتعشش في الوعي والذات والأسفار.
إنها هدى! ونعم العاصفة اللطيفة هي، فامكثي فينا ما شئت من وقت، وليفض حنانك فينا دفئا أبيض يقتل ما تحجر في أرواحنا من لهيب الحروب وحقد القلوب!! فأهلا وسهلا ومرحبا أيتها اللطيفة الرئيفة "هدى"!
اليوم الثالث (8-1-2015)
هل كانت "هدي العاصفة" قاتلة؟ هل هي من شردت الأطفال وأبعدتهم عن ديارهم وأسكنتهم في الخيام؟ هل كانت وحيا شريرا وشيطانا عربيدا ليعلق الناس عليها تلك الجرائم البشعة؟ هل كانت "هدى" قاتلة أطفال بردا وتشردا؟
إني أرى "هدى العاصفة" ترعد وتزبد وترفع صوتها بالنحيب على ما صنع اللئام بأطفال كرام، كيف يلاقي هؤلاء البريئون ما لاقوا من مرارة الحرمان في مخيماتهم، بعد أن تمسك الدكتاتوريون بكرسي الحكم، ولم يحترموا رغبة شعوبهم بأن صلاحيتهم قد انتهت؟!
إنني أرى "هدى" باكية واجمة؛ فكيف كان الموت على هؤلاء الأطفال جرئيا، فيصطاد منهم تلك الياسمينة الشامية الحمصية "هبة"، تلك التي قتلها الإهمال وأحرقتها تحت برد الثلج سياسة عقيمة، تفرق بين شآمي ولبناني وفلسطيني وعراقي، فضلا عن أنها لا تفرق بين فرنسي وأمريكي وأفريقي، كما تفرق بين شمالي وجنوبي، شرقي وغربي! إنها سياسة التقوقع والتحوصل في حواصل اليباس، لتكون الضحية طفلة بل أطفالا يتزاحمون على كفّ الموت، ولن تجد من يقول لهم: "كفى ازدحاما على كفيّ واتزنوا".
فكأننا مع كل عاصفة على موعد مع مصيبة تهز المشاعر والأفئدة، فقد كانت ضحية العام الماضي الكاتب "محمد بنيس" الذي وجد متجمدا من البرد في أحد شوارع القاهرة، أمسِ كانت الضحية أديبا واليوم طفلة بريئة، والمسلسل لا ينتهي، وسيكتفي المرفهون بالاستمتاع كثيرا، وسيتألمون قليلا، لكنهم سيمضون سريعا إلى شأن تافه أشد لفتا لانتباهاتهم من أطفال وأدباء ماتوا في ظل العواصف الصماء المسيّرة!
ستزداد "هدى العاصفة" غضبا عليكم، إنها لتنذركم نذيرها، إنها تزمجر، تريد أن تقلع عليكم جدرانكم، وتطفى تلك النيران التي تقيكم بأسكم، وتغرق مناماتكم بالهواجس والصقيع والريح، ستأتيكم مجنونة جبارة، تنهال عليكم بالشواظ والزمهير، فلا تستثني من "أبناء القحبة" أحدا!
إني أرى "هدى العاصفة" متحسرة حزينة، يجتاحها ألم ووجع على تلك الضحايا التي وضعها المجانين المستغلون في طريقها، فماذا عليهم لو أعدوا لهؤلاء اللاجئين العدة والعتاد، فلم ينسوا "شعب الخيام"، وأكرموا نزل الأدباء والمثقفين وكفوهم شر التشرد؟ وماذا عليهم لو فكروا في هذا الجو العاصف بقوت أسراب الحمام، القابع تحت ظل خيمة لم تعد إلا ركاما في الصقيع والبرد الصفيق!
لا تلوموا "هدى العاصفة" ولوموا حكاما خسروا إنسانيتهم، وتركوا إخوانا لهم في عراء الموت نهبا للرياح، لا تلوموا من تشرد ليلاقي الرحمة ويبحث عنها فلم يجدها، فصار كمن استجار من الرمضاء فلفحته النار وأحرقته البراكين القاسية.
كفوا ألسنتكم عن استغابة "هدى العاصفة" وشدوا الهمة وتوجهوا نحو تلك القصور القاصرة عن نصرتكم فحطموها وهشموا زجاجات خمرتها وأطفئوا نيرانا تقتل أطفالكم، فاليوم كانت "هبة"، فلربما تكون طفلتي أو طفلتكم غدا أو بعد غد، فماذا تنتظرون؟ لا مجال للتقاعس فهيا، ولا تركنوا للعابثين بالأرواح والمصير، وكونوا النار وأحرقوا أرواحهم كما حرقوا أرواحنا بمهجات نفوسنا وأفلاذ قلوبنا، ولتزرعوا الربيع الجديد، مكان هذا البرد القارس، ربيعا تشرق فيه الشمس وترحل عنه الغيوم السوداء، ويعم الدفء الذي يحرك دماء النشاط والحيوية في العروق وفي نبض الحياة.
ولتتذكروا أن "هدى العاصفة" بريئة براءة تامة من كل أذى يصيبنا:
فَهِي الطبيعة لا تـلامُ *** والشؤم يــفعله اللئامُ
هم من سيدمي روحنا *** فطقوسهم أبدا ظلامُ
اليوم الرابع للعاصفة (9-1-2015)
أتدرون أن "هدى العاصفة" قد رحلت أو كادت، ولم يكن لها ذلك الأثر الخطير، أشاعت أجواء من الحب والرأفة والإنسانية، وأعطت ما لم يكن يخطر على بال بشر من حب ومودة وتآلف، وتركت القلوب عامرة يغمرها دفء المحبة، وأثارت في النفوس الشوق للاجتماع والبعد عن الفرقة؟!
أتدرون أن "هدى العاصفة" لها ظلال ثقافية دافئة صاحبتها في تلك الأجواء التي كانت تندف بالثلج، استمتعت معها بأغنية فيروز (ثلج ثلج عم بشتي الدنيا ثلج)، وتابعت الأصدقاء وما كتبوه من وحي "هدى اللطيفة" غير العاصفة، فماذا رأيت من ظلال هدى الثقافية؟
رجعت بي الذاكرة إلى أيام العصر العباسي، ولمعت في الذهن تلك الحادثة التي يسجلها الرواة وكانت السبب في تأليف أبي تمام لكتابه المشهور الحماسة، فقد ورد في مقدمة شرح كتاب الحماسة للمرزوقي ما نصه: "أنه (أبو تمام) قصد عبد الله بن طاهر وهو بخراسان فمدحه فأجازه وعاد يريد العراق، فلما دخل همذان اغتنمه أبو الوفاء ابن سلمة فأنزله وأكرمه فأصبح ذات يوم وقد وقع ثلج عظيم قطع الطريق، فغم أبا تمام ذلك وسر أبا الوفا، فأحضر له خزانة كتبه، فطالعها واشتغل بها، وصنّف خمسة كتب في الشعر، منها كتاب الحماسة والوحشيات"، فكم من شخص فعل فعلك يا أبا تمام في هذه العاصفة التي هداها الله فكانت غير عاصفة؟
وقبل أن أترك العصر العباسي، أذكّر بتلك الظاهرة التي تركها الثلج في الشعر العربي، حيث كان للزائر الأبيض دوما حضور في شعر الشعراء، حتى شكل ظاهرة أدبية تنتمي إلى ظواهر طبيعية شعرية وأدبية؛ كالزهريات والروضيات، وعرفت باسم "الثلجيات"، وقد ألف فيها كتابا الأديب أحمد فهمي عيسى، وجاء تحت عنوان "الثلجيات في العصر العباسي الثاني"، ولعلهم كثيرون من أنطقتهم هدى فكتبوا شعرا فيها وبما أحدثته ثيابها البيضاء من حلل زاهية خلعتها على الطبيعة الجرداء في كانون، ولا بد من الانتباه لتلك الظاهرة ممن يرصدون حركة الأدب وتعبيره عن تفاصيل الحياة وجوانبها المتعددة.
ومن جانب آخر قادتني "هدى العاصفة" للمتابعة أكثر لأتبين أثرها في الشأن الثقافي، فكما أنها تركت بصمتها في الأدب، فإنها قد تركت أثرها في الاسم والجغرافيا، ومن ذلك قرية "الثلجيات" وهي إحدى القرى التابعة لمحافظة القنيطرة في هضبة الجولان بجنوب غرب سوريا، وهي قرية دمرها الإسرائيليون عندما احتلوها عام 1967م.
وفي ذات السياق ومن وحي "هدى اللطيفة" علينا أن نتذكر أن أسرانا الأبطال وهم في مرابض عزهم وشموخهم كانوا وما زالوا يشكلون منابر وعي وثقافة، حتى غدت سجون الظالمين جامعات زاخرة بالعلم والمعرفة، واستطاع هؤلاء الأسرى قتل السجان معرفيا، واستطاعوا أن يتركوا بصمتهم في الحياة الثقافية في السجون وخارج السجون، ورفدتنا الحركة الأسيرة بالكثير من الكتب التي ألفت عن الأسرى وتناولت شتى القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية، فوجد أكثر من "أبي تمام" في مجاثم العز في المعتقلات الصهيونية، فقبل هدى وبعدها هم من علم "هدى" كيف تكون هادية سواء الرشاد الثقافي!
ولم يقتصر أثر هدى الثقافي على ما سبق وذكرت، فصحيح أنها كانت سببا مباشرا في تعطيل الحياة الأكاديمية في الجامعات والمدارس، وتأجيل انعقاد الندوات الثقافية الرتيبة هنا وهناك، إلا أنني لاحظت أن بعض الأصدقاء قد استعد لهدى العدة من مجموعة كتب لتكون رفيقته في أجواء كانوا يتوقعون أن تكون أكثر عصفا مما هي عليه، ولا شك في أن بعض كتّابنا قد انشغلوا بمراجعة بعض مشروعاتهم الثقافية أو مسودات كتبهم، فقد منحتهم "هدى" فرصة ذهبية للتخلص من عبء الروتين وأعباء العمل، ويلتفتوا إلى كتاباتهم أكثر ليتأملوها، كما أنه كان هناك دعوات للاستكتاب حول موضوع "الثلج" وما يثيره من رؤى وأفكار، لينتجوا "ثلجيات" جديدة شعرية ونثرية، فوجد كثيرون فرصتهم للتعبير بصدق عما يختلج في صدورهم ويتململ في أفئدتهم وأفكارهم، فجنينا ثمارا طيبة من رهيف المشاعر في أدب طازج وتلقائي جميل، يتناسب والمحامل الإلكترونية التي نشرته في جو من التفاعل اللطيف بين الأدباء والمتأدبين.
إن ما أحدثته "هدى العاصفة" في مكوثها الذي لم يطل كان كفيلا بأن يؤدي لها الجميع التحية، ويرفع لها القبعة احتراما لما أفاضته علينا من أفكار وما أثارته فينا من مبادرات إنسانية، كانت تستهدف مد يد العون لكل من يحتاجها من عالقين على الطرقات، والمساعدة بأسرع وقت لعودة الخدمات الأساسية وخاصة الكهرباء والاتصالات بشتى أنواعها.
فإن جاءت عواصف أخرى وزارتنا فيا ليتها تكون بمثل "هدى اللطيفة"، فكل عام وثلج وهدى وأنتم وأنتنّ أكثر إشراقا وضوءا وثقافة!
اليوم الخامس (10-1-2015)
رجعت "هدى" لتكتسح الأرض من جديد بثلج يغطي الأديم بحلته الزاهية، وليجبرنا على أن نتعامل معه مباشرة، بعد أن منعت موجة الصقيع تدفق الماء في شرايين البيوت، فشحت المياة وانعدمت، فأين لنا بالماء لتدبير حاجاتنا الشخصية المتكاثرة، هل نحتاج إلى الماء وحولنا كل هذا الثلج الناصع البياض النقي الصافي؟ لماذا تذكرت قول عمر الخيام في إحدى رباعياته:
يا رب هل يرضيك هذا الظما *** والماء ينساب أمامى زلالْ"؟
لا بد من فكرة ما، ولا بد من ماء، إذن فلنقم بجمع الثلج في أوعية المطبخ، فاستخدمنا طاسات الطبيخ والمغارف، وأذبنا الثلج، وأعددنا حفلة الشاي الصباحية، الذي لم يرق طعمه لأحد منا، فلم نعتد على مياه الأمطار ومذاقها المختلف، ولكن لا بأس ها هو الماء موجود وشيء من حرارة الكأس متوفرة، فلنشرب ونستمتع ببعض دفء مسروق من بين ذلك الصقيع المتراكم!
فكرت بإعداد فنجان من القهوة.. لن أغامر في هذا الجو، لأعد فنجانا من القهوة المرة، وعدة الصنع ماء الثلج المذاب، فقد جربناه مع حفلة الشاي قبل برهة، فهل سيصير مصير ركوة القهوة كمصير ما تبقى من الشاي؟ إذن لن أغامر، فسأنتظر، لعل درجة الحرارة ترتفع قليلا، فتدب الحياة في أنابيب المياة، وتجود علينا الحنفيات بمائها؟
شعرت ببعض الدفء، وشعرت كما شعر الجميع بالجوع، هل سنعد الإفطار؟ وكيف؟ لقد تقطعت بنا السبل، فلا خبزَ لدينا هذا اليوم.. فلنتدبر الأمر سريعا، فالجوع كافر، علينا إذن أن نعدّ لوجبتنا الرئيسية من الآن، فالوقت قارب على الظهيرة، سنجهز إذن أدوات الطبيخ، سنحتاج إلى الماء.. ما زالت الحنفيات بخيلة لا تنزّ ولا بقطرة، شكلنا فريقا لجمع الثلوج النقية من جديد، لإعداد وجبة الغداء.
شرعنا بالعمل، وبدأنا الخطوة الأولى، وصارت الحياة تعود شيئا فشيئا إلى أوصال البيت المتجمد، وها هي الحنفيات بدأت تتدفق، وها هو التيار الكهربائي قد عاد بعد انقطاع دام ساعات، وها هي شبكة الإنترنت توصلنا بالعالم من جديد، ولم يطل غيابنا عن ذلك العالم الذي ارتبطنا به ارتباطا أكيدا، وقد أحسنت "هدى" صنعا إذ إنها لم تطل في غياباتها ونتائج عواصفها!
ربما سيكون هذا اليوم هو آخر أيام "هدى"، ولكن هل يستطيع الأطفال اللعب بالثلج الآن، وقد جمّده الصقيع وأضاع على الجميع فرصة اللعب والمرح، أم أن الأطفال سيحتالون على الأمر، ولن يهمهم إلا تلك الكريات البيضاء التي تداعب مخيلاتهم فيجوبوا مرابعهم كالغزلان في المروج البيضاء، يقضون ساعة مرح طفوليّ وصبياني غصبا عن كل ثلج وصقيع وتجمد وبرد؟ فهؤلاء لن تهزمهم الطبيعة والتحدي عنوانهم والعنفوان هُوُيتهم.
فكل عام وقلوبكم بيضاء بياض الثلج نقية نقاء الحب الذي يغمر نفوسكم!