فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

وأنا صرختُ كذلكَ!


فراس حج محمد

يملأ الصراخُ حياتنا، فهو روحها وجسدها وشعارها، منذ لحظة الولادة وحتى الموتُ فلسنا نعرف غير الصراخ، فنحن كائنات صارخة، ونربي أولادنا على الصراخ، فيعتادون على الصراخ، ولا شيء غير الصراخ، فحياتنا صراخ في صراخ.
يهلّ الطفل صارخا، ويستقبلُ حياته بالصراخ، ويحتضنه الأهل بالصراخ، ويهنئ المهنئون ذويه بالصراخ، ويحتفلون بقدومه صارخين، يغنّون ويباركون صارخين، يستمتعون بالصراخ وهم يهدهدونه لينام:
فينشأ ناشئ الفتيان فينا
على ما كان من صوت الصراخِ
هكذا يتشرب المولود الصراخ ويرضعه قبل الحليب ومع الحليب وبعد الحليب، فيصبح الصراخ جزءا منه ومن غريزيته الصارخة، ويأخذ في التعبير عن حاجاته بالصراخ، فإذا ما قام أحدهم من ليلته ليقضي حاجته الملحة صحا صارخا، وقضى حاجته صارخا، وشرب الماء صارخا، وأكل صارخا، وهكذا حتى يقضيَ نحبه صارخا ومصروخا عليه، فحياته صراخ طوال عمره في ليل طويل لا يعرف غير الصراخ.
لقد أضحى الصراخ سلوكا تربويا بامتياز صارخ، فالأب يصرخ لتلبية احتياجاته وتنفيذ أوامره، وتحولت الرجولة عنده صراخا في صراخ، والأم تصرخ احتجاجا على أي موقف صغُر أو كبُر، تصرخ وهي تطلب احتياجاتها، تصرخ وهي تنادي أبناءها وجاراتها، تصرخ وهي تقدم لأسرتها الطعام والشراب، ليغدوَ مجبولا بحروف من صراخ، تصرخ حتى في منامها، وكأنها تستحضر صراخها في ليلتها الأولى، فكل حياتها صراخ في صراخ، وأصبحنا أُسَراً صارخة بكل ما في الكلمة من صراخ!
الطلاب في المدارس يصرخون، والمعلمون يصرخون، المديرون يصرخون، والتربويون عموما يقضون أعمالهم صارخين، فالكل هناك في ساحة التعليم صارخون، ولم نعد نعرف غير الصراخ في غرفة التدريس، فلا يتم السيطرة على الطلاب إلا بالصراخ، ويصرخ الطلاب لأتفه الأسباب، فالطلبة والمعلمون والمديرون والتربويون أجمعين، يحولون قاعاتهم واجتماعاتهم إلى فضاء صارخ وعويل صارخ، لا ترى غير أشداق مفتوحة إلى أقصى الحلق لتصرخ، ولتصرخ فقط، والاحتفالات صارخة والأبواق لا تبثّ غير الصراخ.
يحتجّ الناس على الأوضاع المتردية بالصراخ يهتفون بالصراخ، يسيرون وعدتهم وعتادهم بضاعة مزجاة من صراخ، والحكومة صارخة، والمعارضة صارخة، والبرامج السياسية صارخة، حياة سياسية لا تعرف غير الصراخ في ليل مصوغ بالصراخ، وفجر مصنوع بالصراخ، وأمس ويوم وغد ليس فيه غير الصراخ، وليس مفتوحا إلا على الصراخ. 
والأدب والأدباء والشعر والشعراء لا يكتبون إلا الصراخ، ولا يتقنون غير الصراخ، قصائدهم صارخة، ورواياتهم صارخة، والمستمعون والنقاد صارخون، المجلات والصحف والفضائيات وكل منابر الإعلام والثقافة لا تعرف غير الصراخ، صراخهم طويل متمدد بحجم حروفهم الصارخة ومؤلفاتهم الصارخة، فكل ثقافتنا صراخ في صراخ.
هذه هي حياتنا كلها صراخ، فمتى سنعرف أننا امتلكنا أصواتا عذبة موسيقية، يقتلها الصراخ؟ متى سنعرف أننا موهوبون ومواهبنا قد تتحقق وتتبلور وتتجسد ونحن نعبر عنها بصمت في لوحة بعيدة عن الألوان الصارخة، وبشعر هامس يخاطب الروح والوجدان والعقل بهدوء بعيدا عن الصراخ؟ لماذا لا نؤمن بأن نجاح الحياة لا يكون بالعمل الجاد الصامت والدءوب، الذي يصنع الحياة بلا صراخ، فالريح المزمجرة المجنونة الصارخة مزعجة ومدمرة ومنفرة، وكذلك الصراخ مدمر ومنفر ومزعج وملوث للبيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية، فالصراخ يقضي على كل أمل في اتصال وتواصل يهدف إلى تحقيق ما نصبو إليه.
لماذا لا نؤمن إلا بالمثل القائل "خذوهم بالصوت"؟ لماذا لا نأخذهم ونأخذ أنفسنا بالعقل والمنطق؟ لماذا لا نتدبر المعنى في "واغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير"؟ لماذا لا نترفق في كل أمورنا وكلامنا؟ لماذا نريد أن نشين حياتنا بالصراخ؟ "فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه"، فما أفدحه من شيْن أن نصرخ ونترك الرفق واللين! لماذا لا نحقق رغبة الشاعر حينما قال: "ينال بالرفق ما تعيا الرجال به"؟ فلماذا نصرّ على الصراخ؟
إن صوت العقل والعاطفة وصوت الإنسانية هو بالتعبير بالقصد قدر الحاجة، فلا داعي للصراخ، فهل أدركنا حكمة نور البدر المتسلل عبر نوافذنا برفق، يعاتبنا ونحن نصرخ، ويرجونا أن نظل هادئين متزنين كي لا يرتدّ النور كسيرا كسيفا، فقد أتى لينعش ليلنا بالهدوء وللين؟ فلماذا نكسر توقعاته بالصراخ في ظلمة هذا الليل الطويل؟
وبعد هذا الكم الهائل من الصراخ السابق، بقي أن أقول:
لماذا صرخت أنا مرتين وأنا أتهيأ لكتابة هذا المقال؟ ولماذا صرخت مرتين وأنا أكتبه؟ وثلاث مرات حينما أوشكت على نهايته؟ ولماذا صرخت أصلا كثيرا في هذا الصراخ الذي صرخت به ذات صراخ في يوم صارخ في سطر صارخ في فكرة صارخة؟ لا تحاولوا الإجابة، فلتبقوا صامتين فحياتنا لا تحتاج مزيدا من الصراخ!!

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 279 مشاهدة
نشرت فى 6 فبراير 2013 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

721,189

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.