تأملوا هذا الموقف جعلت فداءكم!!
من مواقف السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله
فراس حج محمد
قد نختلف أو نتفق قليلا أو كثيرا حول شرعية السلطان عبد الحميد الثاني والسلطنة العثمانية بشكل عام، ولكن ما لا نختلف عليه مطلقا حسب رأيي هو أننا كنا في فترة من الزمن طويلة أمة واحدة، بدولة واحدة، ويتبنى قضايانا حاكم واحد، يدافع عنا وندافع عنه!!
لقد اقترف حكام الولايات العثمانيون الأخطاء الكبرى والصغرى، وغابت المحاسبة من الأمة والخلفاء، وسيطر على الدولة سفهاء حزب الاتحاد والترقي الذين أشاعوا في الأمة القوميات، فعملوا على تتريك العرب وغيرهم، فانتفض العرب دفاعا عن عروبتهم، فنادوا بالعروبة والقومية العربية، ولحقت بهم شعوب كثيرة، كل شعب صار يطالب بدولة خاصة بقوميته، وهكذا حتى تفككت الدولة في نهاية الأمر، وأصبحت نهبا للطامعين من الدول الاستعمارية ودخلت إلى الشعوب الدولة مداخل شتى ظاهرها وباطنها عذاب!!
لقد تعرضت الأمة بمكونها الإسلامي إلى عدة محاولات من التشويه والتدليس والسيطرة والتحكم ونهب الثروات، وهذا كان سمة بارزة في بداية التاريخ الاستعماري المقيت لتقسيم الإرث العثماني المتعدد المناحي والمكونات الاقتصادية، وخلف آثاره المدمرة على المنطقة بأسرها، وما زلنا نعاني من عظيم شر ذلك التاريخ الأسود.
وتطورت الحرب ضد المسلمين تحديدا فبدأ المفكرون المدفوعون بدوافع شتى التعرض لأحكام الإسلام وخاصة في الميراث والزواج ومدعاة حرية المرأة والمرأة الجديدة، وألفت في ذلك مؤلفات واستنفدت الفكرة كتابات وطاقات دون طائل وبلا جدوى ولا قيمة حقيقية تخدم النهضة الحقيقية في بلاد العرب والمسلمين.
وقد شهدنا في الفترة الأخيرة توجها من نوع آخر ضد الأمة بمكونها الإسلامي، اشترك في صناعته علماء مسلمون ومفكرون علمانيون وغربيون وكتاب وصحافيون، فكل الحلقات التي ندور في فلكها بين فترة وأخرى من فتاوى غريبة وغير منطقية وغير شرعية هي تخدم هذا التوجه في الصد عن ذكر الله، وإحداث البلبلة في نفوس المسلمين وإفقادهم الثقة بأحكام الدين، فينفضون عنه إلى اللامبالاة والعدمية والعبث، ناهيك عن صنيع الكتاب الغربيين والعلمانيين من العرب وغير العرب الين لا يحلو لهم الحديث ولا يطيب إلا إذا شككوا الناس بدينهم وبعقيدتهم، فينبري الغيورون من علماء المسلمين والمفكرين في التصدي والدفاع، فتستهلك الجهود بما لا ينفع أحدا لا علمانيا ولا متدينا، عدا أن ذلك يرسخ نظرة الشك والريبة في النفوس عند كلا الطرفين، وهذا له ما له من أثر سلبي في إحداث النفور في نفوس الناس، بعضها من بعض، وتحقيق عداوة مجتمعاتنا في غنى عن وجودها
ويشترك في ذلك تلك الحملة المسعورة التي منشؤها "بلاد الغرب أعدائي" في الهجوم على رموز عقائدية إسلامية، وخاصة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم، ولم تجد لتلك الأفعال رادع يردع صانعيها، بل سنجد كل فترة وفترة أمثالها وأفظع منها.
وبمناسبة هذا الحدث فيلم "براءة المسلمين" المثير للغضب والاشمئزاز معا، اسمحوا لي أن أذكر بموقف للسلطان عبد الحميد ضد مثل هذه الأعمال، وأكرر ما قلته في بداية هذا المقال سواء اختلفنا أو اتفقنا على شرعية السلطان ودولته، إلا أنه سجل موقفا رجوليا في الدفاع عما يعتقد أن من واجبه الدفاع عنه، لم يجبن ولم يتخاذل.
فقد حدث في أواخر القرن التاسع عشر 1890م أن قدم الكاتب الفرنسي "ماركي دي بوريز" مسرحية لتعرض على مسرح الكوميدي فرانسيز، وقد كان فيها شيء من إساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل السلطان العثماني عبد الحميد الثاني إلى فرنسا بمنع عرض المسرحية، ليس فقط على مسرح فرانسيز، بل على كل مسارح فرنسا، فاستجابت فرنسا واتخذت قراراً بالمنع، وأرسلت للسلطان رسالة جاء فيها: "نحن على ثقة بأن هذا القرار الذي اتخذناه تلبية لرغبات حضرة السلطان سيعزز بيننا العلاقات القلبية..."، ولما حاول كاتب المسرحية أن يعرضها في إنجلترا، وبدأ الإعداد بعرض المسرحية على مسرح اللسيوم الشهير، علم السلطان فأرسل بمنعها أيضا، فمُنعت، واعتذرت بريطانيا التي كانت عظمى آنذاك عن الإعدادات التي تمت لعرض المسرحية... حتى قبل عرضها!
والآن وقد رأيتم هذا الموقف للسلطان العثماني لكم أن تعقدوا الموازنة بين حال اليوم وحال الأمس، فعلى روحك أعظم الرحمات أيها السلطان، مختلفين معك أو متفقين، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف رجاله، تأملوا هذا الموقف جعلت فداءكم!!