زخزة ضمير (32)
البحث العلمي في جامعتنا
فراس حج محمد/فلسطين
كثيرة هي التنظيرات التي يشبع منها الناس ويلوكها أصحابها متباهين فيها في كل محفل وندوة، ولكنها في حقيقة أمرها سراب بلقع، لا طائل من ورائها ولا تشفي أنة موجوع ولا تبل غلة صديان، في كل منحى من مناحي حياتنا التي ملأها الخراب، ونخر في أساساها الداء الاجتماعي والثقافي قبل الداء السياسي.
ومن المجالات التي أصابها العفن في هذه البقع الجغرافية اليائسة مجالات البحث العلمي، فكثيرا ما نسمع عن أرقام وإحصائيات توثق لحجم ميزانية البحث العلمي، لتكون نفقات القصر الجمهوري أو الملكي أعلى بكثير من مخصصات وزارة أو وزارتين بما فيهما وزارة التربية والتعليم أو التعليم العالي أو وزارة الثقافة. إن دولة ونظاما لا يهتمون بهذه المجالات لهي دولة تحكم على نفسها بالتلاشي والموت عاجلا أم آجلا.
لقد برز الخراب كبيرا حتى في أروقة الجامعات، والتي يفترض فيها أن تكون راعية للبحث العلمي ومشجعة عليه، ولكنها في حقيقة أمرها، تحولت إلى ملجأ لكل طالب يلهث وراء بطاقة في آخر أربع سنوات، وأصبح مضمون التخرج على قاعدة من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، لأنه باختصار يدفع ما عليه، فجامعتنا ومخرجاتها غدت تهرول نحو الحضيض بسرعة هائلة، ولا شيء يوقف تدهورها، ما دامت ترى في هذه السياسة ترعرعا لمصالحها المادية واكتنازا لأرصدة القائمين عليها.
فلم تعد الجامعات تربي في الطالب روح البحث العلمي السليم والتنقيب ومعاركة المعلومات وغربلتها، وبلورة رأي شخصي خاص ومميز، وغدت المقررات الجامعية مقدسة، ومؤلفات المحاضرين خطا أحمر لا يجوز البحث عما يخالفها، وإلا ستكون من الراسبين الحاملين على أكتافهم عبء المساق، ناهيك عما يعنيه ذلك من مصائب في دفع ثمن المساق مرة أخرى في ظل أوضاع اقتصادية متردية، ومصاريف الذهاب والإياب، عدا الوقت المهدور، فيضطر الطالب المسكين لطأطأة رأسه، لأنه لا إدارة جامعية تحميه ولا اتحاد مجلس طلبة يقف إلى جانبه، لأن الكل مستند إلى اعتبارات غير علمية وغير موضوعية، فيداس الطالب بالأرجل ولا يسأل عنه، وحال الطلبة يقول: اللهم نفسي نفسي، اللهم سلم، فلا يلتفتون لزميلهم لتضامنهم معه، فيصحو وإذا به في الميدان وحيدا خائبا خاسرا، ليعيد الدفع والانتظام، مع القهر وعدم الرغبة في أن يكون نافعا، لأنهم اضطروه لأن يكون جبانا، فهل الجبان سيصنع جيلا قويا؟؟
لقد شهدت وأنا طالب في الدراسات العليا مواقف مخجلة يندى لها كل ذي ضمير حي، إذ كيف يتعرض طالب في قاعة المحاضرة للطرد من المحاضر، لمجرد رأي قاله خالف فيه ذلك المحاضر، كيف يعتمد أحدهم رأيا لأستاذ آخر في فهم جملة نحوية أو بلاغية فيكون مصيره الإهمال وعدم الاعتراف؟ كيف يكون الطالب في الجامعة ذليلا تحت رحمة أستاذ دكتور، هو ليس عالما، بل هو دكتاتور في فرض آرائه ومراجعه على طلابه؟ كيف وكيف وكيف؟ وتطول الأسئلة وتبقى المرارة باقية والغصة تدمي القلب
إن أجيال الخريجين غدت أجيالا ممسوخة ليس لها أفق علمي أو منحى تفكيري خاص ومميز، عدا أنهم لا شخصيات لهم، فقد ساسوهم بالجبن والإخضاع والخوف، فساهموا في تحويل المجتمع إلى قطيع يساس بالسوط والعلف ليس إلا.
فأين سيصنع التغيير إذا كانت جامعتنا مصانع تدمير وبوار وخسران، فلنعد قليلا إلى الوراء لنرى أثر جامعة القاهرة وجامعة الأزهر وجامعة دمشق وجامع الزيتونة وغيرها الكثير في بلاد العرب المترامية الأطراف، لترى كيف أنبتت العلماء بالإجازة الأولى (الليسانس)، ولم تكن شهادات الدراسات العليا شائعة بعد، فكانوا الأدباء والمفكرين وصناع القرار، فأين اليوم البائس من الماضي الجميل؟!
المقال منشور في موقع جريدة شموس نيوز