مراجعة نقدية:
لعبة الاسم في "سر الجملة الاسمية" لفراس حج محمد
بقلم: نداء يونس [*]
إلى جانب قدرتها على المحو والتظهير، تتخذُ لعبة الاسم في كتاب فراس حج محمد "سر الجملة الاسمية"، الصادر عن دار الرقمية، في القدس، بعدًا يتجاوز وظيفتها النحويةِ، لتغدو وسيلة لتشكيل الخطاب الجمالي. الكتاب، الذي يضم دراسةً معمقةً حول الكتابة بتقنية الجملة الاسمية، يتضمن ديوانًا شعريًا لا يحتوي على أي فعل على الإطلاق، ليغدو غياب الفعل تعبيرًا قويًا عن خصوصية الكتابة بالجملة الاسمية، فـهي، أي "الجملة الاسمية"، ليست مجرد تركيب لغوي، بل هي فاعليةٌ جماليةٌ تؤسس للعمل الكتابي، خاصة الشعري، باعتباره منجزًا إبداعيًا.
وبعيدًا عن مسألة اشتغال الاسم كسلطة خطابية، من خلال التسمية أو تجريد الأفراد من ذواتهم "ككائناتٍ اجتماعية حية، ومن إنسانِيتهم وتفردهم، كما يظهر في ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في مقابر الأرقام، هذا الامتلاك الذي يمتدُّ إلى الفرد الذي يمكنه اختيار اسم جديد لإعادة تشكيل هويته، سواء للهروب من ماضٍ مؤلم أو لتجنب الضغوط الاجتماعية أو القانونية، أو مسألة ارتباط الأسماء "بالوجوديْن الوهمي والحقيقي"، يُنظر إلى الاسم كوسيلة أساسية لـ “بناءِ ذاكرة الماضي" عبر اللغة. فهو يُؤسس لعلاقات بين دوّالَ ومدلولاتٍ بطريقةٍ اعتباطيةٍ، أيّ دون منهجيةٍ واضحة، إذ لا منطق في التسمية التي تتم بفعل قوة أو اختيار معين، ثم تُنسَخ في الأرشيف الذاكراتي للأفراد، وتُورَّث عبر الأجيال.
تكمن قوة الاسم كذلك في أنه يشكل "الـ DNA" الذي يحمل أرشيفًا كاملاً يُعاد تفعيله كلما تم ذكره. وبذلك، يصبح الاسم أول الاختزالات وأشملها، ليس فقط لدوره في اختزال الذاكرة والسرد، بل في تأسيسه لوحدة تواصلية تتفوق على الحرف والفعل في مواجهة الواقع الاتصالي، ليؤسسَ كما يقول الكاتب "أولَ شروطِ التواصل الاجتماعي" وأكثرَها استقلالية. فالاسم في هذا السياق يعمل كنائب فاعل عن الغائبين جميعًا، بما في ذلك الصور والأفكار التي تشكل الخزان المعرفي للأفراد، والتي يمكن استدعاؤها بشكلٍ محددٍ أو متخيلٍ. كما أنه يحفظ الأصل ويظل حيًا حتى في حال وجود تكرارات تسميةٍ لاحقةٍ، مثل تكرار أسماء الأعلام. ورغم احتمالية التلاشي أو الانهيار أو حتى الالتباس عند نسخ التسمية، يظل الاسم بمثابة "سلطة" لا تقتصر فقط على تنظيم المجتمع، بل تمتد لتحديد الهوية والتوقعات. فالاسم يمكن أن يكون أداة لتعيين الأشياء واختزالِ السرد، لكنه في الوقت نفسِه أداةُ تقييد، ووسيلةٌ لرسم الحدود. فالاسم وسيلة لحبس التوقعات، والسيطرة على الأشياء ومصائرها.
وفي هذا السياق، يتناول الكاتب في فصل كامل دلالات أسماء مثل "ليلى"، والاسم الذي اشتغل عليه شخصيًا "شهرزاد" في عدد من أعماله واسم "فاطمة" الذي يعد اشتغالاً عامًا للكتاب، وللكاتب نفسه في أعماله الشعرية والنثرية، سواءً باستخدام الحرف الأول أو اسم التحبب "فطوم" أو حتى عبر تفكيك أحرف الاسم. وذلك لما له من حمولة دلالية هائلة لا يمكن تجاهلها، سواء في السينما أو الأدب أو الشعر أو الموروث الثقافي، وخاصة لارتباطه بشكل وثيق مع اشتغالات الفنان الكاريكاتوري ناجي العلي، "فهي أم حنظلة، واقترن اسمه بها، فأطلق عليه "حنظلة ابن فاطمة" على غرار "عيسى ابن مريم"" وحيث "بدت فاطمة في تلك الرسومات "شخصية لا تهادن، رؤياها شديدة الوضوح فيما يتعلق بالقضية وحلها".
تصل سلطة الاسم إلى ذروتها في قدرته على الاستغناء عن الفعل وبناء نصوص متكاملة من حيث المعنى والفكرة، مخالفة تمامًا للجملة الفعلية. تشكل هذه المحاججة جوهر طرح الدراسة النقدي، رغم أن الفعل نفسه يمكن من خلال تكراره بناء سرد كامل، كما يظهر في اشتغالات المتنبي مثلا: "(أَقِل أَنِل أُن صُنِ اِحمِل عَلِّ سَلِّ أَعِد/ زِد هَشَّ بَشَّ هَبِ اِغفِر أَدنِ سُرَّ صِلِ)". ولتدعيم ذلك، يبني الكاتب على ما يسميه محمود درويش "تجربة لعبة الاسم"، وهي لعبة ذكية، سواء وظفها الكتاب بطريقة مقصودة أو غير مقصودة. يستعرض الكاتب العديد من النماذج، وحيث تكشف تقنية الكتابة بالاسم، بناء على نتائج الدراسة، عن "عملية فنية واعية جدًا" و"هندسة لغوية" محكمة، رغم الانتقادات التي تقول بأنها موجهة ويشرف عليها العقل. تتعزز القيمة الحقيقية في الكتابة باستخدام الاسم في إسقاطها للزمن؛ إنها كتابة تتجاوز الزمن، وتتحرر منه، ما يعكس العمومية والمطلق. كما أن السرد بالاسم لا يقتصر على تمثيل الذات في حالة ما، بل يتجاوزه ليكون وسيلة لفرض الحقائق دون انتظار رد. وهنا تكمن خطورة الاسم الرمزية والبلاغية والمعرفية، إذ يمثل استخدام الاسم "حالة من المطلق في التعبير عن المعنى"، التي تعتمد على الاختزال والكثافة، ما يجعلها تقترب أكثر إلى روح الشعر وكينونته في القول والعرض والفرض، وبحيث يصبح الاسم ليس مجرد تعبير عن شيء محدد، بل تجسيدًا لحالة أوسع وأعمق.
يستدعي ذلك التساؤل حول إمكانية ترجمة النصوص التي تعتمد على هذه التقنية إلى لغات أخرى دون استخدام الفعل، ما يفتح المجال للتفكير في إمكانيات التعبير اللغوي بتقنية الاسم في لغات أخرى. يمكن ملاحظة هذا الفارق في ترجمات معروفة لشعراء مثل البولندية فيسوافا شمبورسكا، والإنجليزي شكسبير، والفرنسي ألبير ميرا، والأمريكي عزرا باوند، والتي نقلت إلى العربية باستخدام هذه التقنية. رغم ذلك، قد يُعتبر استخدام الفعل في هذه اللغات "خيانة" للروح الأصلية للنص، خاصة أن الفعل في الإنجليزية قد يعطي انطباعًا محددًا للحركة، ويجعل الشعر "بلا لباس أو زخرفة"، عكس العربية التي تتميز بقدرتها على بناء جمل ذات معنى عميق دون الحاجة إلى الفعل، وتعطي في الوقت ذاته مرونة في التعبير باستخدام تقنية الجملة الاسمية، ما يجعل النص أكثر كثافة وثراءً.
ورغم أن الكاتب لم يتناول هذا البُعد بشكل أشمل، يبقى السؤال قائمًا: كيف يمكن الحفاظ على الجماليات الشعرية التي يحملها النص العربي في ترجمته إلى لغات أخرى، خصوصًا تلك التي تفتقر إلى نفس القدرة على بناء جمل اسمية بهذا الشكل، والعكس صحيح فيما يتعلق بالترجمة إلى العربية؟ يأتي هذا التساؤل في ظل تخوف الكاتب من ترجمة نصوصه خاصة ديوانه "هي جملة اسمية"، حيث استخدم هذه التقنية التي حسنت جودة شعره وتحديدًا في هذا الديوان النابض بما لا يُحدُّ: بلاغة ومجازا وموسيقى ومرونة: "جسدي بين يديكَ عطريٌّ، طريٌّ، رِيُّ/ منزّهٌ عن شبههِ/ ورديُّ/ ثملٌ منكَ ومنّي/ ثاملٌ / خمريُّ/ جسدي سطرٌ من الشّوق/ في مرمرٍ/ رمزيُّ/ ثامرٌ مثمرٌ ناهدٌ/ ونديُّ" و "أَنتَ اللَّفْظُ وَالمَعْنَى وَنَشْوَةُ صَمْتٍ، وَأَنتَ وَحْدَكَ كُلُّ هَذَا الوَقْتِ، وَمَدُّ رَحْبِ الأُفُقِ أَنتَ، قَبْلَ الصَّلَاةِ قَصِيدَةٌ، قَبْلَ القَصِيدَةِ أَنتَ"، وَكَمَا فِي: "كُلُّ شَيْءٍ أَبْيَضُ، حَتَّى حِبْرُ اللَّيْلِ أَبْيَضُ".
كان فراس حج محمد تناول في دراسة خاصة نُشرت في مجلة "الليبي" في أغسطس 2021 (ص 58-62)، وأحال لها في هامش كتابه هذا (ص 50)، تقنية الجملة الاسمية في ديواني "كتابة الصمت"، الذي يضم بين دفتيه مجموعتين شعريتين هما "أنائيل" و"كتابة الصمت". في هذه الدراسة، يقول الكاتب: تمتاز نصوص "ديوان أنائيل" بأنّها مكثّفة وتعمد إلى الجملة الشعريّة المقتصدة في البناء اللفظيّ، ومن الملاحظ أنّ نصيب الأفعال كان قليلاً في هذه المقاطع، واعتماد الشاعرة غالبًا على الاسم لبناء النصّ، وقد اقتصرت عدّة مقاطع على فعل واحد أو اثنين، في حين أنّها تخلّصت من الأفعال تمامًا في المقطع الذي أخذ رقم (21)، فجاء مقطعًا اسميًّا خالصًا:
"كُلُّ شَيْءٍ دَائِرِيٌّ؛
الحُزْنُ/ المَكَانُ/ الزَّمَانُ
الْوَجَعُ/ الحَنِينُ،
الأَجْرَاسُ/ السَّمَاءُ/ المَسَاءُ
الأَمْسُ / الهَمْسُ
الشَّكُّ/ اليَقِينُ / الشَّوْقُ،
الذَّاكِرَةُ / المُوسِيقَى/ الآيَاتُ
المَعَابِدُ/ القُبَّابُ
الصَّوْتُ / اللُّغَةُ/ الشُّرُوحُ
الهَوَامِشُ
الْوَقْتُ
المَوْتُ/ المَوْجُ/ الرِّيحُ
العَوَاءُ/ التَّرَاتِيلُ
الرَّائِحَةُ/ النَّارُ،
الرَّعْشَةُ/ النَّشْوَةُ/ الشَّرَرُ
السُّؤَالُ/ الصَّمْتُ،
كُلُّ شَيْءٍ دَائِرِيٌّ؛
سَوَاكَ".
وفي هذا السياق، يؤكد الناقد رائد الحواري أنّ "النص الجيد هو كتاب نقد جيد أيضًا"، وهو ما ينطبق على أعمال فراس حج محمد الشعرية والنقدية والسردية والقصصية التي تجاوزت 35 كتابًا، وعلى أغلب ما قام بدراسته من نماذج؛ ما يجعلنا أمام تجربة فنية تستحق المزيد من البحث والدراسة.
[*] شاعرة وباحثة وإعلامية فلسطينية، لها عدة إصدارات شعرية، تقيم في مدينة رام الله.