انتباهة أخرى في عوالم الكتابة:
الإثراء الثقافي والثراء الإنساني في كتاب "الثرثرات المحبّبة- الرسائل"
رائد الحواري| فلسطين
في عصر تفشي طباعة الكتب، وبعد أن أصبح متاحا لكل من يمتلك المال طباعة ما يكتب، أمسى القارئ في مهب الريح، فمن كل عشرة كتب لا يجد كتابا واحدا ذا قيمة، والباقي مجرد (هذيان) يمغص القلب ويوجع الرأس. وفي عصر سطوة (الرواية) على الأجناس الأدبية الأخرى، قل نصيب هذه الأجناس، إن كان من خلال الإنتاج، أو من خلال تناول تلك الأعمال، من هنا أصبح حالنا مزرياً، فلم نحسن كتابة الرواية، وضيّعنا الأجناس الأدبية الأخرى.
"فراس حج محمد" يقتحم هذا الواقع البائس، ويقدم جنسا أدبياً؛ "الرسائل"، رغم أن القلة القليلة كتبت فيه، وهذا يمثل (مغامرة) أدبية تتجاوز المألوف، وما هو سائد، على صعيد الإنتاج وعلى صعيد القراء.
الكتاب كبير الحجم يقارب ثلاثمائة صفحة، وحجم كبير، وخط 12 أو 14، وهذا ما (أرهق) القارئ صاحب النظر الضعيف، لكن، ورغم هذه الإشكالية في حجم الخط، إلا أن مضمون الرسائل، والشكل الأدبي الذي قدمت به، والأفكار التي تحملها، وحالة (التخيل) الحاضرة فيها، ووجود شواهد (واقعية/ حقيقية) ووجود أفكار فلسفية حول العديد من القضايا الأدبية والفكرية، تجعل "الثرثرات المحبّبة" كتاب العصر، كتاب جديد على مستوى الشكل والمضمون، كتاب ممتع وشائق رغم أنه خارج (سطوة الرواية) حتى إننا نجد فيه (صراعاً) بين حقيقة الرسائل وتخيل/ افتراض المرسل إليها، فليس كل من يقف وراء هذه الرسائل شخصيات حقيقية، هناك العديد منها متخيل، وغير واقعي، وهذا ما سنتوقف عنده لاحقا.
الرواية:
"فراس حج محمد" يوضح أن كتابة الرواية مسألة صعبة، وتحتاج إلى مهارات استثنائية. في إحدى رسائله يرد على من يدعونه إلى كتابة الرواية بقوله: "أسأل نفسي لماذا الرواية؟ هل واجب عليّ إذ أحسن السرد أن أكتب رواية؟ ولماذا لا أصنع شكلي الخاص بي؟ لا أدري ما سيكون... ولماذا عليّ أن أهجر حريتي في الكتابة كما تشتهي الكتابة ذاتها؟ ولماذا عليّ الخضوع والخنوع اللاواعي لفكرة الكتابة لإرضاء الذوق الثقافي العام؟... أريد أن أكتب ما أحلم به من شيء حلمت به، لعله يكون مشروعا، أكره الانزلاق إلى ما يطلبه السوق الثقافي" ص 10، هذا المقطع يجيب على تساؤلات القراء الذي يريدون من الكاتب/ الأديب أن يكون تحت (الطلب) يلبي رغباتهم، لكن "فراس" يرد عليهم، بأن الكتابة هي (السيدة المطلقة) وهي من (تتحكم) فيما يقدمه، وهو يريد أن يكون ذاته المنفردة عن الآخرين، ولا يريد أن يكون تابعا/ خاضعا/ طائعا لأي كان، فالحرية أساس أية كتابة، كما أن الكتابة بحد ذاتها هي من يتحكم فيما يقدمه الكاتب/ الشاعر/ الروائي/ القاص.
اللافت في هذا المقطع أن "فراس" يؤكد ضرورة أن يكون الكاتب ذاته، إن كان على مستوى الشكل، الجنس الأدبي، اللغة، المضمون والفكرة، فكلها يجب أن تكون نابعة من الكتب وإلا سيمسى حاله كحال الغراب الذي حاول أن يتعلم طير الحمام، فلم يفلح، وعندما حاول استعادة طيرانه نسيه، هذا حال العديد من الكتاب الذين يحاولون تقليد الآخرين.
هناك عناصر يلجأ إليها الأدباء وقت الضيق/ الشدة يعبّرون بها ويعبرون فيها نحو الفرح، وهي المرأة، الكتابة، الطبيعة، التمرد، "فراس حج محمد" يؤكد حقيقة هذه العناصر من خلال حديثه عن الكتابة: "وعلمي أن الكتابة شفاء من الوهم بالوهم" ص 93، فالكتابة بحد ذاتها تمثل علاجاً ووسيلة شفاء، وهذا المقطع سنعتمده لاحقا، في البحث عن واقعية/ حقيقة المرسل لهنّ، وبين تخيلهن.
ويتحدث عن حال الكتابة والظرف الذي يجب أن تكون فيه: "إن فعل الكتابة يشبه تماما الفعل الجنسي، إنها عملية سرية، تحدث في الخفاء... كل الكتاب عندما يكتبون ينعزلون عن العالم، إنهم يدخلون طقوس المضاجعة بين القلم والورقة، لتحدث تلك العملية البارعة، المسماة الكتابة" ص 122، هذه الرؤية تمثل رؤية فيلسوف، رؤية حكيم، رؤية محترف كتابة، وهذه النظرة أيضا سنستفيد منها في إيضاح طبيعة المرسل لهن، هل هن نساء حقيقيات أم متخيلات؟
وعن الرسائل والشكل الذي استخدمه "فراس" ليرضي المرسل لها يقول: "إن الكتابة بحاجة إلى خبرة وتجربة، ومتعة في الصناعة والخلق، اصطدمي أكثر، لتنبجس الأفكار حرة وشهية وطازجة... إن الإقناع يفترض أنك أصبحت داخل العمل، وأن القارئ يتخيل نفسه" ص 137، هذه (توجيهات/ النصائح) لا تأتي إلا ممن هو خبير ومحترف كتابة، فالعلاقة بين الكاتب والنص يجب أن تصل إلى حالة الحلول/ التماهي عندها يقتنع القارئ بما يقدم له، أو بالأقل تصله فكرة الكاتب بأفضل ما يكون، وهذا ما يجعل الرسائل ذات قيمة، بالمنسبة للقارئ وبالنسبة للمرسل لهن.
والكتابة عند فراس كالنبوّة، كالرسالة السماوية التي ينشرها الرسل دون أن يكون لهم هدف مادي/ تجاري، فهدفهم (إيصال) رسالتهم للآخرين وحسابهم، وثوابهم عند الله عز وجل. يرسل له أحد الأشخاص مادة مكتوبة، ويريد من "فراس" أن يقوم بصياغتها أدبيا، مقابل أجر مادي (محرز) يرد عليه فراس: "متى كانت الكتابة مشروعا اقتصاديا للكاتب الحقيقي؟... يا صديقي أنا لست تاجرا، أنا كاتب، لست كاتب عرائض قانونية لأحصل على أجر مادي فقط" ص 165، هذا الرد ليس على هذا الشخص فقط، بل هو رد على كل من يبيع قلمه بالمال، ليكون نارا على أهله وشعبه وأمته، فالكتابة يجب أن تبقى (نقية) بعيدة عن التلوث والبيع والشراء.
وهذا يقودنا إلى ضرورة أن يتم التعامل مع النص الأدبي ككتاب مقدس، لا يجوز الزيادة فيه أو النقصان منه، وإلا أمسى كتابا مشوها لا يعرف من أي أب/كاتبٍ جاء.
الجسد والكتابة:
يتعامل فرس مع جسد الأنثى كباعث/ محفز/ منشط/ مُوجد للكتابة، يقول في إحدى رسائله: "أحسّ بجسدي يلامس جسدك، عبرت رائحتك في أعماقي... بي رغبة شديدة في مضاجعتك... أستحضر رائحة أنوثتك كما أتصورها وأنت للتو مبتلة بماء الشهوة الدافئة... أيتها المنحوتة من صخر صبري فتتي الكلمات في لغتي، أعيدي اختلاق الزمن، واكتبي الحكاية من جديد" ص 81، فالجسد هنا له بعدان/ أثران، بعد جنسي، وبعد كتابة، فاللقاء الجسدي يثري اللغة عند فراس ويفجرها، وأيضا يعطي مساحة للأنثى لتكون جزءا من الكتابة ومشاركة فيها، وهذا ما نجده في هذه الرسائل التي وجدنا فيها ما كتبته له حبيباته.
الرسائل:
الرسائل بالنسبة لفراس مشروع أدبي، رغم أنه يحاول أن تكون (توثيقا) لعلاقاته الكثيرة مع النساء، فهو من خلال الرسائل يتماثل مع صانع العطر الذي يعتبر أجساد النساء أفضل مادة لصناعة العطر، "وفراس حج محمد" يعتبر النساء أفضل مادة للكتابة، فالكتابة بالنسبة له (غاية تبررها الوسيلة) تخاطبه إحدى النساء: "أنت تلحق الأذى بكل من عرفك" ص 235، وتقول له أخرى: "يا لك من كاتب، لم توفر أحدا، خف عنهم يا زلمة" ص 235، وهو يعترف ضمنا بحقيقة قولها: "يبدو أن كلامها صحيح نوعا ما، فالكتابة تثير المتاعب والمصاعب" ص 235، ومع هذا هو مصرّ على الكتابة حتى لو نالت ممن عرفهن من النساء، فالكتابة بالنسبة له هدف سامٍ، يجب على النساء أن يضحين بأنفسهن في سبيلها.
لكن بالنسبة له فهو (إله)، خالق للكتابة، ومن حقه أن يستخدم أية مواد يجدها مناسبة فيما يصنعه، يتحدث عن هذا الأمر من خلال هذا المقطع: "لم أشعر بالتعب وأنا أقرأ، ولذا قررت ألا أحذف تلك الرسائل... ألّا تمتلئ لغتي بالحنين... سأتخذ زينتي عند كل رسالة أكتبها، سأغتسل، وألبس ملابسي الأنيقة، وأتطيب، وأسمع قدرا كافيا من الموسيقى، وأدخن، أشرب فنجانا من القهوة بلذة النشوة الأولى، وأجلس إلى مكتبي وحاسوبي الشخصي، وأبدأ بالهذيان وثرثرة الكتابة كأنك هنا" ص 68، هذا شيء من حقيقة كتاب "الثرثرات المحبّبة، الرسائل" فهو مشروع أدبي أكثر منه حديث (عاشق وله)، عاشق (مجنون)، عاشق يردنه كل نساء الأرض ليكون لهن، فهو يظهر نفسه على أنه "جون دوان" عصره، لكنه في حقيقة الأمر يتخذ النساء مجرد مشروع كتابة ليس أكثر، مشروع أدبي له، وما هذا الكتاب وما فيه من شواهد إلا أحد الأدلة: "هي ذاتها التي تعتقد أنني "كاتب غير نبيل" لو قمت ونشرت ما بعثته لي من رسائل، ولو حرفا واحدا منها، سأقوم بنشرها بالتأكيد في الوقت المناسب في كتاب، فكل ما كتب لي فهو من حقي، وأتصرف فيه كيفما أرغب وأشاء" ص 235، هذه حقيقة "فراس" أنه (يقتل النساء) ليكتب بهن وعنهن، أليس كل ما يكتب عن المرأة مثيرا للقراء!؟ لهذا جعلهن مادته الأدبية، فمنهن يستخلص اللغة التي تثير الأخريات ليقعن في (حبائله) الأدبية، ومن ثم يستمر في الكتابة الأدبية، إنه صانع العطر الأدبي، فكلما قتل من النساء أكثر، كان جودة ما يكتبه ويقدمه أكثر.
التخيل:
من يقرأ الكتاب يتأكد أن التخيل كان حاضرا وبقوة فيه، فليست كل الرسائل حقيقية، وليست كل رسالة واقعية، هناك مساحة من التخيل أضافها "فراس" لتكون رساله متألقة أدبيا، وهذا ما قاله آنفا وبوضوح.
يخاطب فراس الحبيبة المتخيلة بلغة العاشق الوله، ليرفع من مكانة الكتاب الأدبية، وليزيد المتلقي إثارة ومتعة: "كلي مشتاق لكلك... إنني أتوجع يا وجعا لا أستطيع تحمله".
"ها نحن أيتها الحبيبة على مشارف الوعد، فلا تجعلي المسافة أطول مما هي، فتعالي لتصوغي لغتي على شفتيك قبلة وقصيدة ولحظة فرح فردوسية لا تنتهي... أشم رائحة النشوة في صدرك وفي وردتك الناضجة وفي سمرة جسدك المشوب بالزهرة الناعمة... لقد امتقعت بمائي مرتين وأنا أكتب لك" ص 243، هذه النشوة الجسدية والعاطفية تأتي من باب حرص الكاتب على تقديم ما هو متميز، ، لهذا (تخيل) حضورها ولقاءها فكانت هذه اللغة وسيلته لجذب القارئ لما يقوله في رسائله، وما حديثه عن تفريغه لمائه إلا من باب إحداث دهشة للقراء/ القارئات الذين سيغوصون بهذا الحديث الجاذب والمثير والممتع.
"فراس" قارئ نهم، ويعلم جيدا كيف يجذب القارئ لنصوصه وكتبه، وبما أن هناك جيلا من (المراهقين والمراهقات) يسعون وراء الإثارة، فقد أوجد مجموعة كبيرة من الرسائل تتحدث بوضوح عن اللقاء الجسدي: "وتتأبين عليّ في مساء مفخخ باشتياق رؤيتك عارية كقطعة ماس مبتلة بماء الشهوة الحارقة، فيا الله كم أشتاق رائحة فرجك، حلمت بك كثيرا، وتصورتك فيّ طويلا، تحسست جسمك كله، ردفيك العاليين... صدرك الفارة كصحن كنسية عالية، نهديك المنتبهين بحلمتين مولهتين" ص 183 و184، مثل هذه المشاهد لا يمكن أن تكون، أن تأتي ضمن رسالة يبعثها حبيب لحبيبته، مهما كانت العلاقة (حميمية بينهما) لكن "فراس" أوجد مثل هذه المشاهد من باب جذب القارئ والقارئة لكتابه، وجعلهما يغوصان فيما يقدمه من إثارة، فهدفه إيجاد كتاب جاذب، مدهش، صادم/ مثير مهما كانت الوسائل التي يستخدمها والأدوات التي تشكل مادته الأدبية، فإذا كان قد (كشف) نفسه للقراء في سبيل وجود "الثرثرات المحبّبة" فلن يكون أمامه أية عوائق تحول دون قيامه بفعل الكتابة.
يبرر "فراس" كثرة الحبيبات اللواتي عشقهن، فهو كان يبحث عن حبيبته الأولى فيهن: "الخراب هذا، أنت من فعله والله، وكنت أحاول أن أنساك على أجساد أولئك النسوة اللواتي لم أحبب منهن أي واحدة" ص 185، فهو يعمل باحتراف في جعل كتابه "الرسائل" كتاباً مثيراً، استثنائياً، وهذه إحدى الوسائل التي يستطيع فيها (إبقاء) الحبيبة حاضرة، وجعل المتلقي متلهفا لمعرفة المزيد عن هذه العلاقة وهذه الحبيبة.
أفكار الكاتب عن الجنس:
فراس يعمل جاهدا على تقديم ما هو جديد، من هنا وضع رؤيته، فلسفته في العديد من الأشياء، فهو يرى الجنس وما فيه من (قسوة) برؤية أخرى: "فعندما يلج الحبيب إلى حبيبته عبر الرحم، في ممارسة الجنس، إنما هو يريد أن يلتحم بها روحيا وجسديا، وكأنهما يريدان أن يعودا إلى ما كان عليه قبل أن ينفصلا... لذلك إذا لم تتجاوب الروح مع الجسد ستكون العلاقة حيوانية مقرفة... أرأيت مثلا لماذا الاغتصاب جريمة إنسانية أولا قبل أي شيء؟ لأنها تدمر الذات، وفيها فعل إكراه وإجبار على إدخال ما هو غريب عن الروح إلى جسد يأباه هذا الجسد" ص 49، مثل هذه الرؤية تبين العلاقة السوية بين الحبيبين، ولماذا يسعيان إلى التماهي الجسدي، بينما في حالة الاغتصاب يكون الفعل من طرف واحد، وهذا ما يجعله مضرا نفسيا وجسديا للمفعول بها.
ويتوغل أكثر في هذا الرؤية بقوله: "فعندما يتعرى الرجل أمام المرأة أو تتعرى المرأة هي أمامه فذاك يعني أنه لا حواجز بينهما، سينهار الحاجز الديني، والاجتماعي، والجغرافي، وصولا إلى الحاجز اللغوي، عندئذ سيتحدثان ببساطة وأريحية دون أي تحذيرات أو محاذير" ص 163، هذا الغوص في الجنس يشير إلى أن الكاتب يفكر، يستنتج، يكتشف ما وراء الفعل وما دوافعه، وهذا ما يميز "فراس حج محمد" عن غيره.
ويستشهد بقول "باولو كويلو": "فالجنس بلا عاطفة عنف نمارسه على أنفسنا" ص 103، فالكاتب يسعى إلى أن يكون الجنس علاقة متبادلة متفق عليها بين الطرفين، وليست من طرف واحد.
المرأة جرس:
وعن رؤيته للمرأة يجدها جرساً جاذباً/ منبهاً للرجل، لا يمكن المرور عليها أو عندها أو من أمامها مرور الكرام: "في الواقع المرأة كلها جرس... عندما ترتدي فستانا قصيرا يبدو ساقاها متحدين كلسان الجرس، وذلك الفستان كأنه قبعة الجرس الخارجية... زغاريد النساء وكيف يبدو اللسان متردداً في جوف الفم، يتحول المشهد كله إلى قرع الجرس، والأدهى من ذلك فرج المرأة جرس، عند الممارسة جرس وعند الاشتهاء وتفتحه شعورا بالرغبة أيضا جرس... في الثديين الناعمين المتلألئين، إذن المرأة هي مجموعة أجراس" ص 74، لو جئنا بأي كاتب/ فنان لما استطاع أن يتوقف عند هذه المكتشفات الجديدة، المرأة مجموعة أجراس! من هنا تكمن عبقرية "فراس" الذي لا يمر على الأشياء/ المشاهد مرورا عابرا، بل هو المتأمل والمفكر، المستنتج ما هو جديد رغم أننا نمر عليه دون أن نعي أهميته، وما فيه من أفكار وأبعاد فلسفية.
فلسفة الأضداد:
يقول الله عز وجل في كتابه "يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون" سورة الروم (19)، والماركسية تعتمد في بنائها على وحدة وصراع الأضداد، فالجديد يخرج من رحم القديم ويحمل بين ثناياه شيئا منه "فراس حج محمد" يقدم رؤيته حول الأضداد بقوله: "فكيف يقولون إن الذكر ضد الأنثى؟ ما المبرر؟ نظرية خلق الإنسان ترى أن الأنثى مستلة من الذكر، فهي بعضه، تماما كما هي العلاقة بين الليل والنهار، وهل تلد المرأة ضدها عندما تنجب ذكرا؟ وهل الجن ضد الملائكة أم أنهم ضد البشر؟ هل الأحياء ضد الجمادات؟ وهل الجمادات خالية من الحياة؟ القرآن يقول إن كل الموجودات فيها حياة: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم" ص 199، أعتقد أن هذه الوقفة والأسئلة تشير إلى أن الكاتب لا تمر عليه شاردة أو واردة، إلا توقف عندها بالبحث والسؤال والتفكير، وهذا يشير إلى أننا أمام كاتب مفكر، يبحر في الأشياء التي أمامه، فلا يمر/ يسلم منه أي شيء، دون أن يبحث فيه، وعنه، وكيف هو، وكيف كان.
وعن ضرورة فصل الفكرة عن الشخص الذي قالها يقول: "إن اللغة حكيمة أكثر من صاحبها" ص 30، أهمية المعنى تكمن في أننا نتعامل مع الأفكار التي تبقى نقية وبعيدة عن التلوث، بينما الأشخاص يمكن أن يبدلوا ويغيروا، فيقبى الاعتماد على الفكرة هو الأساس، لأنها يمكن أن تصبح/ تكون حجه على (انحراف) قائلها.
جذب القارئ إلى الكتاب:
- الحبّ
يستخدم الكاتب مجموعة محفزات تجذب القارئ لكتابه، منها حديثه عن الحب، يقول: "الحب أن تعيش سعيدا كل لحظة، تغتسل فيها مع من تحب، ويختلط الدم بالدم والماء بالماء، وصبح الجسدان جسدا واحدا، تصنعه كيمياء خاصة، يجعلكما كيانا واحدا معرفا بشيء واحد هو الحب" ص 104، فالكاتب يؤكد أن الحب مرتبط بالحياة الهنية، ويمكن الحصول عليه من خلال العلاقة الجسدية التي تعبر عن هذا الحب، وأيضا تدفعه إلى الأمام ليستمر (الحبيبان) في نهل السعادة واللذة، فالحب هنا هو وسيلة المحبين وغايتهم.
أما عن فكرة الحب فيقول: "أمام الحب يتلاشي كل شيء، ويتعرى المخلوق من كل مكتسباته، ليظهر على حقيقته محتاجا عاجزا ناقصا، يسعى إلى الاكتمال مع من أحب، فالجسد ليس عفونة يجب أن نتخلص منها، إنه بوابة الروح والامتزاج بها... لا شيء يجعلنا قادرين على أن نرى الأشياء على حقيقتها سوى الحب." ص 130، نجد اكتمال/ ذروة الحب تكمن في العلاقة بين الجسدية، وما المقدمات (العري) بين الحبيبين إلا مقدمة لتظهر الروح على حقيقتها، فالملابس تحد/ تمنع رؤية الحبيب والوصول إلى (روحه)، لهذا لا بد من التخلي عن كل ما يحجب الجسدين، ليتوحدا معا، ويصلا إلى الذروة، فالحب عند الكاتب مشاعر/ أفكار/ أقول تتوج بالتوحد الجسدي بين الحبيبين.
- اللغة والإثارة
أيضا يستخدم الكاتب لغة أدبية مطعمة بالرغبة الجسدية، حتى أنهما يتماهيان معا، بحيث لا نستطيع فصل جمالية اللغة عن إثارة المشهد الذي يقدمه: "الشهية اللذيذة الجميلة التي لا تقاوم... ماذا تتوقعين أن يحدث عندما أرى صورتك وهي واصفة لكل هذا الجمال الذي لا يقاوم، يشعرني بالجوع إليك، كأني لم أجرب النساء قط، ولم أتذوق لهن طعما... أخشى أن أموت ولا أتذوق لك طعما، يا لها من غصة؛ ألّا يتذوق الحبيب حبيبته!" ص 222، نلاحظ أن هناك (صنارة) يضعها الكاتب في النهر/ البحيرة ليجذب إليها كل الوالهين، فالحبيب ينتشي بهذه اللغة وأيضا الحبيبة تنقاد وراءها لتتعرف حجم الشوق الذي يحمله الكاتب للقاء حبيبته.
- الحب الأول والخديعة
أيضا يتحدث الكاتب برؤية مثالية عن حبه وحبيبته الأولى، حتى أنه (يبرر) علاقاته اللاحقة بالنساء على أنه كان يهدف إلى (إيجاد) حبيبته الأولى فيهن: "كنت أحاول أن أنساك على أجساد أولئك النسوة اللواتي لم أحبب منهن أي واحدة" ص 185، هذا الكلام يتم (تسويقه) للوالهين فقط، فهو مثالي زيادة عن اللازم، فلو اقتصر الأمر على إقامة علاقة (صداقة) لكن الأمر طبيعي ومقبول، لكن أن يصل إلى علاقات جسدية كثيرة ومتعددة فهذا أمر لا يمكن هضمه.
يستمر "فراس" في اللعب على وتر الإثارة والحديث عن الحب الأول وكأنه الخلق الأول له ولها: "وكل ما قضيته مع أولئك النساء كان من أجل أن أقتلك في داخلي، لكنهن لم يستطعن فعل ذلك، ولا أنا استطعت أن أتخلص من ذلك" ص 186، إذا ما توقفنا عند هذا المشهد سيبدو للوهلة الأولى وكأنه (الحب الذي لا يزول أبدا) من هنا لا الكاتب استطاع أن ينسى، ولا النساء الكثر استطعن أن ينسينه الحبيبة الأولى التي بحث عنها في وبين الأخريات، إذا ما توقفنا عنده متأملين سنجد فيه (خدعة/ تضليلاً) يمارسه فراس، فلو كان هذا الكلام (واقعيا/ حقيقياً) لنزوى الكاتب في عزلة، أو لذهب إلى عناصر التخفيف/ الفرح الأخرى مثل الكتابة، ألم يقتل نساءه من أجل أن تكون "الثرثرات المحبّبة" حية بيننا؟ ولماذا لم يلجأ إلى الطبيعة؟ فهو يسكن في منطقة ريفية في غاية الجمال!؟ كل هذا يجعلنا نقول إن فراس يستخدم الحديث عن الحب لجذب القارئ إلى الكتاب ليس أكثر، فهدفه هو إيصال "الثرثرات" إلى أوسع شريحة ممكنة، فقد وضع فيه جهدا ووقتا وأفكارا ولغة لا بد من التوقف عندها والتأمل فيها.
فراس يقتل/ يكشف نفسه:
يعترف "فراس" بأن الرسائل مشروع أدبي استهواه بعد أن قرأ مجموعة كبيرة من كتب الرسائل: "فقد قرأت رسائل جبران إلى مي زياد، ورسائل كافكا إلى ميلينا، ورسائل أنسي الحاج وغسان كنفاني إلى غادة السمان، ورسائل أنور المعدي إلى فدوى طوقان..." لقد شغفتني كثيرا هذه الرسائل يا عزيزتي، وأحببتها حبا جما، على الرغم من أنها أحيانا لم تكن ذات لغة رفيعة أو اسلوب أدبي نقي" ص 159، إذا ما توقفنا هذا المقطع، سنجد فيه "فراس" الكاتب الذي يريد تقديم رسائل ذات قيمة أدبية وبلغة راقية، من هنا كانت رسائله كثيرة وطويلة ولأكثر من امرأة، وعلى مدار أعوام كثيرة؛ فأول رسالة كانت بتاريخ 5/6/2012 وآخر رسالة في7/2/2023، وحتى لو كانت هذه الرسائل/ الكتاب على أجساد النساء وعلى حساب (كشف) حقيقة فراس ذاته: "لست كاتبا "غير نبيل" لأني أفشي أسرار حياتي الشخصية في الكتابة، لم أترك شيئا منها إلا وتحدثت عنه، أنا كاتب "غير نبيل" لأنني كتبت بإخلاص تجربتي العاطفية بكل حذافيرها، فأنا لم أقلد أي كاتب في مشاعره أو عواطفه، أو في صنعة الكتابة، صنعت لغتي من أعصابي، وحملتها تولهاتي وأحزاني" ص 12، إذن عمل الكاتب عل إحياء جنس أدبي قليل الاستخدام، حتى لو كان ذلك على حسابه الشخصي وعلى حساب نساء حبيبات على قلبه، فالكتابة بالنسبة له هدف يجب أن يضحى بالجميع في سبيله، وهذا ما فعله "فراس" في "الثرثرات المحبّبة، الرسائل"
وعن علاقته بالنساء، فمنهن من آذينه حينما رفضنه: "كل النساء اللواتي رغبت في الارتباط بهن وقد أصبحت موظفا نفرن مني نفورا شديدا، كوني فقيرا ومعاقا" ص 117، وهذا ما دفع فراس إلى أن تكون النساء عنده وسيلة/ أداة إلهام للكتابة ليس أكثر، فالكتابة بالنسبة له أبقى من النساء، فبها يكون ذاته كأديب، كشاعر، كناقد.
لغة فراس:
في الرسائل التي أرخها بتاريخ 1/3/2022 و11/3 و15/3 2022، صفحات (250-253) جعلها الكاتب على لسان الحبيبة، لكن نجد فيها لغة فراس وليست لغة الحبيبة: "أعرض عليك أن تأتي إليّ في شقتي لتقضي معي ما شئت من الوقت، حتى ترتوي مني وتشبع، وأعصرك في سريري كحبة ليمون وتعصرني كحبة برتقال شهية ناضجة، كرزتاي على صدري تنتصبان كلما قرأت جملة من هذا الشعر، ووردتي بين فخذي تبتل كلما مددت يدك نحو وردة حبيبتك. كم أشتاق لتكتب رداً على رسالتي، هل تخاف مني؟ ولن يطول بك التمتع حتى تهطل مطرا غزيرا يغسل لوعتي وحر اشتياقاتي.
لأعطيك نفسي راضية مرضية...أنا لست بخير" ص 250- 252، هذه اللغة لغة فراس، وليست لغة أية امرأة أخرى، فهطول المطر، والوردة، وكتب لي، وحتى لغة القرآن الكريم كانت حاضرة في هذه الرسائل، وهذه كلها لغة فراس وليست لغة الآخرين، إن كانوا إناثا أم ذكورا، وهذا ما يجعلنا نقول إن الرسائل فيها خيال وتخيل، والهدف منها هو تقديم مادة أدبية، بجنس أدبي قليل الاستخدام.
حقيقة "فراس"
الأدب يمتزج فيه الحقيقي مع الخيال، الواقعي مع الأدبي، فيخرج لنا بشيء جديد نستمتع به ونفكر فيه، لكن هناك أدباء يأخذون القليل من الواقع ويكثرون من الخيال، وكتاب "الثرثرات المحبّبة" أحد تلك الكتب، سنأخذ مقطعا يتحدث فيه الكاتب عن نفسه لنتعرف على حقيقة وطبيعة ونفسية الكاتب والكيفية التي يفكر بها، حيث يقدم نفسه "دون جوان" عصره، ويتحدث عن علاقة غير شرعية وغير سوية بين شاعر وحبيبته القديمة (انقضى أكثر من عشرين سنة على تلك العلاقة) حيث تزوجت وأنجبت وأصبحت ربة أسرة، لكنهما يلتقيان مجددا، فيقومان بما هو شاذ وقبيح: "هزني بعنف كبير من داخلي ما علمته من تطور العلاقة بين صديقي الشاعر وحبيبته المتزوجة، التي عرفت أنها تمارس الجنس معه، وتأتي إليه بين فترة وأخرى، وتقضي بين أحضانه أياما، تاركة بيتها وعملها وأولادها، وزوجها الذي أنقذها من ضياع محقق وقت أن قررت الهروب من إجبار أهلها على تزويجها من شخص لا تحبه، إن هذا الأمر سيئ جدا، سوءا لا يتصور، كلما تصورت أن هناك إنسانا سيتألم لو عرف الحقيقة، هل تصدقين أنني أوشكت على البكاء، وشعرت بالتفاهة إلى أقصى حد، هل يعقل أن يقابل إنسان إنسانا آخر أحسن إليه إحسانا ليس له ثمن بهذا الرد وبهذه الخيانة، شخص أنقذك من الضياع، تخونه مع شخص عديم المشاعر، أناني لا يفكر إلا بشهوة نفسه" ص 92، هذا المقطع يكشف حقيقة "فراس" والطريقة التي يفكر بها، وكيف ينظر إلى الجنس، فداخله شخص نقي صافي يرفض الاقتراب من المحرمات/ المحظورات، وهو شخص يتأثر سلبا بالأحداث القبيحة التي تصيبه بالغثيان والإحباط، فهل يعقل لمن يملك هذه المشاعر/ الانفعالات أن يقدم على فعل ما يكره ويقرف ويشمئز منه؟
القيمة المعرفية في "الثرثرات المحبّبة"
- الأدباء والكتاب والكتب
يتناول الكاتب مجموعة كبيرة من الكتاب والأدباء والكتب، وهذا بحد ذاته يحسب للرسائل التي تعرف القراء بهؤلاء الكتاب، فالكاتب يتناول الغث والسمين، الجيد والرديء، يذكر كتاب "الشهقة الأولى" وكيف أنه تناول الرواية بحيث لم يجد فيها لا رواية ولا حتى أدباً، مما جعل من يراسلها تقول له: "يا حرامك دمرتها للمخلوقة، ستكون هذه شهقتها الأخيرة" ص 39، هذه المعرفة بالكتاب بالتأكيد ستدفع القارئ للتعرف عليه أو العزوف عنه، لكن لا ضرر من إبداء وجهة نظره، فهي حق له ما دام أن الكتاب عرض في المكتبات.
ويتحدث عن علاقة الأدباء/ الشعراء مع النساء، متخذا من الشاعر "محمد حلمي الريشة" نموذجاً: "عندما كان طالبا جامعيا هو وزوجته (فيما بعد) كتب لها ديوانا كاملا، باكورة شعره، وظلت تحتفظ به، حتى نشره في كتابه "قلب العقرب" ص 49، بهذا المقطع يعرفنا "فراس" على الشاعر، وعلى كتابه "قلب العقرب" وعلاقته الطيبة بزوجته.
ويحدثنا عن "إبراهيم مالك": "صاحب الكتاب الدوري الثقافي "كتابنا كتّابنا" ليخبرنا أنه نشر في العدد العاشر من الكتاب الرسائل الخمس الأولى، على أن يستكمل نشر بقية الرسائل في أعداد قادمة" ص 116، "فراس" يعرفنا أنه نشر جزءاً من رسائله في "كتابنا كتّابنا" وأيضا يعرفنا على هذا الإصدار وعلى من يقوم بإصداره، مما يشير إلى حقيقة وواقعية هذه الرسائل كأدب رسائل، ومن يريد الاطلاع على ما نشر منها فيمكنه العودة إلى الكتاب.
- الأحزاب
يعطينا الكاتب رؤيته عن الأحزاب، وكيف أنها تحدّ من قدرات المبدع على التقدم والارتقاء بإبداعه بقوله: "ففكرة الانتماء للأحزاب السياسية خطر كبير على الكاتب" ص 148، هذا القول حقيقة مر بها العديد من الأدباء العرب وحتى العالميين، لكن، للموضوعية نقول إن العديد من تلك الأحزاب عملت على صقل شخصية الأديب ووضعه على أول درجة سلم الأدب والثقافة، فالأحزاب العربية ساهمت في تأسيس غالبية الكتاب والأدباء العرب، حتى أننا بالكاد نجد أديبا خارج نطاق الأحزاب، لكن بعد مرحلة معينة لا بد من الانفصال (تنظيميا) لكن القناعات السياسية تبقى حاضرة في وجدان الكاتب والأديب، فحاله كحال الابن عندما يكبر ويقرر الزواج وتشكيل أسرة خاصة به، هذه هو الواقع، الأحزاب مهمة في مرحلة التشكيل، لكن بعد النضوج لا بد من الانفصال.
يحاول الكاتب العودة إلى التجربة الحزبية، من خلال الانتقال إلى جزب يساري بعد أن كان في حزب إسلامي، يحدثنا عن هذه التجربة قائلا: "رحمني الله عندما خرجت من حزب التحرير، ولكنني لم أرحم نفسي عندما دخلت في حزب آخر، فأنا لا أتقن العمل الحزبي، ولا أجد جدوى منه، فما هو إلا عبث على عبث، ويرمي بنا في أغوار المجاهيل، ولن تفيد أحدا، لا وطنا ولا مواطنا" ص 173، هذه (التجني) على الأحزاب ناتج عن الواقع الفلسطيني اليومي، وما يمر به من (ضياع وتيه) بعد أن أصبحت الأحزاب يافطات أكثر منها أحزاباً فاعلة ومؤثرة، فهذا القول لا يمكن أن يؤخذ كقاعدة مطلقة، بل ضمن الحالة الزمانية والظرف الذي تمر به فلسطين وشعبها، وحتى المنطقة العربية، التي أصبح حال الأحزاب فيها كحال فلسطين إن لم يكن أسوأ، ففراس حج محمد ما كان ليكون ما هو عليه الآن دون حزب التحرير، لكن يؤس الواقع جعله يخرج بهذا القول.
- الجوائز
الجوائز، وفكرة الوصول السريع إلى القمة/ الغنى انتشرت من خلال (أوراق اليانصيب الخيري) حيث يشتري المواطن ورقة بمبلغ زهيد، ويأتيه الحظ بالفوز، فينتقل من الفقر والعوز إلى الغنى والكفاف، هذه الثقافة اتسعت وانتشرت وأخذت أكثر من شكل، وطالت كافة شرائح المواطنين، حتى أصحاب المحلات أخذوا يمارسونها على الزبائن، (اشترِ بقيمة خمسين ديناراً وادخل السحب على سيارة) والأدب دخل على الخط، خاصة بعد البطَر الذي يمر به الخليج العربي، فأصبحت الجوائز كثيرة وعديدة وتطال كافة الأجناس الأدبية، والفئات العمرية، يحدثنا "فراس" عن الجوائز وأثرها السلبي بقوله: "كثير من الكتاب لا يكتبون إلا من أجل الحصول على الجوائز، إنها مقبرة أخرى للكاتب، أحذرك من متابعة أوهامها". ص 142، عندما قال فراس إنها مقبرة للكاتب، استند على ما قاله سابقا عن الكتابة التي يرى ضرورة أن تخرج من داخل الأديب وليس من قلمه، فالتماهي بين الكاتب ونصه، وهو ما تجعله يصل إلى القارئ وتسهم في إيصال فكرته بأفضل ما يكون.
- النقاد
أمراض المثقفين كثيرة وعديدة، وتطال غالبية الشرائح والجهات التي تتعامل مع الكتاب والكتابة، ينقل لنا حديث (صديقته) عن علاقة (الناقد) مع الأنثى الكاتبة: "بعض شخصيات الصور كتب عن شخص، يدعي أنه ناقد ولا يفرق بينهن، إذ كلهن عنده "الكبيرة المبدعة" تخيل أنه سألني على الخاص: "هل أكتب عنك؟" رغم رفضي لعرضه وتأكيدي أنني لا أملك شيئا يكتب عنه، كتب منشورا وتجاهلته تماما، وألغيته من صفحتي" ص 153، هذا حال المثقفين والأدباء والنقاد، فبالكاد يعرفون أنثى حتى (ينهمروا) عليها ليغسلوها لتكون (نجمة أدبية) ترفع لها القبعات، متجاهلين أن هناك قامات وطاقة إبداعية لم يلتفتوا لها التفاتا، وهذا ما يجعل المشهد الثقافي بائساً.
- الاحتلال
بما أن الكاتب يعيش تحت أقذر وأطول احتلال عاشه شعب في العصر الحديث، فقد ظهر هذا الاحتلال فيما يكتب: "عليّ أن أجهز نفسي للعمل، الجيد في هذا اليوم أنه يوم عمل مكتبي، إن نجحنا في الوصول إلى العمل، ونجونا من الحواجز، ومن الاجتماعات الفجائية سيكون هذا اليوم فيه بعض الجمال، أرجو ذلك" ص 197، رغم بساطة وصغر المقطع "نجونا من الحواجز" إلا أنه يعطي القارئ حجم الضغط الذي يشكله الاحتلال على الفلسطيني، فهو الذي يمنعه من التنقل والتواصل مع الآخرين، ويمنعه من الوصول لعمله، ويجعل يقضي وقته مهدورا أمام الحواجز الكثيرة والعديدة التي يقيمها.
- السلطة
السلطة أيضا لها نصيبها من الكتاب، فمثالبها كثيرة وعديدة، وفسادها متشعب ومتشابك، يحدثنا عن إجراءات التوظيف والمقابلات التي تتم للمتقدمين للوظائف: "تخيلي أن هناك قوائم سوداء توزع على لجان المقابلات للمعلمين الجدد مثلا ليتم تحطيم أشخاص معينين ليبدو أن المسألة طبيعية، وكأنهم يبحثون عن شرعنة الفساد، إنهم يفكرون كيف يخرج الفساد مؤدبا وخلوقا وشرعيا وقانونيا" ص 225، اللافت في هذا المقطع ليست فكرة تعرية الفساد فحسب، بل الطريقة الأدبية التي قدمت بها أيضا، "شرعنة الفساد، الفساد مؤدبا وخلوقا" وهذا ما يجعل صورة القائمين/ العاملين بهذه اللجان أكثر قبحا، فهم يستخدمون (أدوات/ إجراءات نظيفة) في إلحاق الظلم بالآخرين، وإعطاء من لا يستحقون حقوق غيرهم.
- رجال الدين
رغم أن الكاتب يحمل ثقافة دينية، وهذا ما نجده في أقوله وفي كتبه وأشعاره، إلا أنه ينتقد التفكير/ النهج السلبي عند من يدعون أنهم (علماء الأمة) مثلا عندما يتحدثون عن الجنة والحور العين: "نشر فيديو لأحد هؤلاء "الدعاة" يظهر فيه وهو يقول إنه لا شغل يشغلنا في الجنة عن ممارسة الجنس مع الحوريات، وكأن الجنة في هذا التصور أضحت "بيت دعارة" مع تحفظي الشديد على هذا الوصف، إن هذا الفيديو وكثير مثله هو السبب ربما في تلك الموجة الصارخة من الإلحاد التي تجتاح "الفيس بوك" ص 65، هذا التناول لطريقة تفكير هؤلاء المحرفين يدفع بالقارئ ليتوقف عند المسميات التي يسمعها يوما، (سبعين حورية) فالجنة بالنسبة لهم كما قال الكاتب مكان لممارسة الجنس، وكأن أهل الجنة عندهم شبق/ جوع جنسي ولا يفكرون بغيره، لكن من يتوقف عند الجنة سيجدها مكان للتمتع بجمالها "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون" فالجنة وما فيها من أنهار ونعيم أوجدها الله لأهلها لا تعد ولا تحصى، وهذا ما يسفه كلام هؤلاء المتوحشين جنسيا الذين يرونها مكانا مترعا بالنساء والشهوة.
أثر فراس في الأخرين:
"فراس" شاعر، وناثر، وناقد، ومعلم، ومشرف تربوي، وقد أنتج حتى الآن ما يزيد على الثلاثين مؤلفا، وله صفحة خاصة به على جوجل، ونشر أكثر من ألف مداخلة على الفضاء الإلكتروني، وهذا ما جعل أدبه متاحا للكثيرين من الأدباء والكتاب والمثقفين، يقول عن هذا الإرث: "كم أسعدني مثلا أن طالبة دكتوراه قد استعانت بمقالة لي حول رواية أحلام مستغانمي "الأسود يلق بك" وكانت رسالتها عن "النقد الأخلاقي" وقد سبق أن استعان أحد الباحثين نشر مقالة محكمة في مجلة محكمة في إحدى جامعات العراق الكردية بمقالة لي حول اللغة العربية" ص 112، هذا المقطع يقودنا إلى فكرة النبوة والرسالة التي تحدث عنها "فراس" وعن دور الكاتب، فجل هدفه تقديم معرفة/ خدمة للآخرين، وتقريبهم مما هو جيد ومفيد ممتعا أدبيا ومعرفيا.
وعندما يرى أحد طلابه قد أصبحا شاعرا يفرح وينتعش: "فرحت لقصيدته جدا، إنه واحد من الطلاب الذين أثمر فيهم التعليم، فصار شاعرا... وفاز على مستوى مديرية التربية والتعليم التابعين لها جنوب نابلس بمساقة "الشعراء المعلمين" إن هذا الأمر مفرح جدا يا عزيزتي إنه الشاعر لطفي مسلم" ص 105، بهذا يكتمل دور الشاعر/ النبي، فقد أوجد من يحمل رسالته ويكمل دربه.
نبل الكاتب:
من يتابع كتب "فراس" يجدها تتضمن أسماء/ أقول/ صفات أصدقائه، وفي "الثرثرات المحبّبة" نجد مجموعة من الأصدقاء تم ذكرهم وتضمين الكتاب بأقوالهم، وأكثر من هذا جعل في خاتمة الكتاب (فصل) يتضمن العديد من التعليقات التي كتبوها عن الرسائل حينما نشرها على الفضاء الإلكتروني، فهناك أكثر من عشرين كاتبا وكاتبة تم تضمين الكتاب بتعليقاتهم: "لقد أحببت أن أكرم الكتاب الذين كتبوا لي وأكرم كتابي بهذه الطريقة من الاحتفاء" ص 213، هذا الأمر فعله في هذا الكتاب والكتب السابقة، وهذه سابقة تحسب للكاتب الذي يثبت/ يوثق ما كتب عنه حتى لو كان ذلك سلبيا، وينتقص من مكانته كشاعر وكأديب، وبهذا يكون الكاتب ديمقراطيا يتيح المجال للآخرين ليتحدثوا عنه بحرية ودون قيود.
[*] الكتاب من منشورات دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، فلسطين، الطبعة الأولى 2024.