من منشورات موقع تدوين: صحيفة الحدث الفلسطيني:
التقنيات السرديّة في مجموعة "دعوة إلى استلقاء طويل" للكاتبة ميس داغر
فراس حج محمد| فلسطين
عن سلسة "كتاب كناية" التابعة لمؤسّسة ميتونومي في استكهولم، صدر مؤخّراً للكاتبة الفلسطينيّة ميس داغر مجموعة قصصيّة بعنوان "دعوة إلى استلقاء طويل"، وهو مأخوذ من عنوان القصّة السابعة في المجموعة "دعوة تشريفيّة إلى استلقاء طويل". جاءت المجموعة التي تتكون من تسع قصص قصيرة في حدود (50) صفحة من القطع المتوسط، وقد صدرت ورقية وإلكترونية، وهي المجموعة القصصيّة الرابعة للكاتبة ابنة مدينة رام الله، بعد "الأسياد يحبّون العسل"، و"معطف السيدة"، و"ما جرى في الدومينيكان".
غالباً، لم يكن حذف الوصف "تشريفيّة" من العنوان العامّ للمجموعة سوى محاولة لتعميم الاسم ليكون مناسباً لقراءة المجموعة القصصيّة، إذ تميّزت كثير من هذه القصص بأجواء من الغموض الدافع للتفكير في مصير الشخصيّات، فلم تسعَ الكاتبة إلى إضاءة كلّ بؤر السرد لتحافظ على التوتّر المطلوب للقراءة والتشويق، ليكتشف القارئ أنّ هذا الغموض لا يؤثّر على فكرة القصّة الأصليّة، فقد تحقّق الهدف من السرد، فكان تأثير هذا الغموض لحظيّاً داخل السرد، ينتهي أثره بانتهاء القصّة التي اشتملت عليه.
كما أنّ العنوان يحمل دعوة غير مباشرة لقراءة المجموعة في "استلقاء طويل" في جلسة واحدة، ربّما لا تأخذ وقتاً من القارئ أكثر من خمس وسبعين دقيقة هي زمن السرد في القصّة نفسها صاحبة الاسم، وتبدو هذه المقابلة بين الأمرين واردة جدّاً، نظراً لعدد قصص المجموعة وحجم كلّ قصّة.
تناولت الكاتبة في هذه القصص قضايا وهموماً اجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة، وتنوّعت فيها شخصيّات هذه القصص، بين الرجال والنساء، من شرائح اجتماعيّة متنوّعة. ولم تخلُ المجموعة من التعريض بالعنف الذي تتعرّض له المرأة، وكان ذلك واضحاً من خلال مراقبة عبد الله في قصّة "مديرته" لسلوك الرجل الذي كان يشاهده من النافذة، وكيف أنّه فكر للاتصال بالشرطة من أجل حماية تلك المرأة، حيث "سحب الرجل المرأة من ذراعها ثمّ قبض رقبتها ليضرب برأسها في مقدّمة السيارة".
كما أنّ للحيوانات حضوراً في هذه المجموعة؛ فكان الكلب بطلاً في القصّة الأولى "الكلب المستشار"، فقد استطاع التخلص من الطبيب، ليحل محله في العيادة ويمارس دوره، وهو بذلك لا يقلّ أهمّيّة عن المرضى، أو عن الطبيب البارع مجهول المصير، المتمتع بالغموض في سلوكه وظهوره على المرضى في العيادة. إلى القطّة التي نجحت في الهروب من المنزل في قصّة "هواء" بعد أن فقد صاحب البيت الوعي بسبب إفراطه في تناول الحلوى في سهرته، وكان مصاباً بالسكري.
لقد جاء تصرّف الشخصيتين الحيوانيّتين شبيهاً بالتصرّف البشريّ، ما أكسبهما صفات إنسانيّة/ بشريّة لكن دون أن يشعر القارئ أنّهما فارقا حيوانيّتهما تماماً، فجاءت هاتان الشخصيّتان مراوغتين بين الحقيقة والرمزيّة.
ولم تكن البطولة فقط للحيوانات على هذا النحو اللافت، إنّما خلعت الكاتبة على سمّاعة الأذن ظلالاً من البطولة في قصّة "سمّاعة"، حيث شكّل ترك العاملة المدعوة "فطّوم" سمّاعتها في البيت عاملاً مهمّاً في نسج السرد والتحكّم فيه بطريقة مقنعة وفنّيّة، جعل السمّاعة ذات دور محوري وبنيوي في توجيه أحداث القصّة، لتكشف لنا الساردة بهذه السمّاعة- في نهاية القصّة- عن جانب من الغموض الذي كان في رحلتها إلى العمل، فتعيد السمّاعة تلك الجمل التي لم يكن بمقدور العاملة المضطهدة سماعها خلال يوم عملها الممتدّ من الخامسة صباحاً حتّى الرابعة مساءً.
كما تناولت الكاتبة في قصّتين الشأن الثقافي، الأولى في قصّة بعنوان "الشعر في زمن الكوليرا"، وهي أطول قصص المجموعة. يحيل عنوان هذه القصّة على رواية غبرائيل غارسيا ماركيز "الحب في زمن الكوليرا"، فتدخل القصّة في تناصّ عنواني جزئي مع هذه الرواية، ويتّضح من أحداث القصّة أنّ "الكوليرا" فيها تأخذ بعداً استعاريّاً، تومئ فيه إلى ذلك الاشتغال بأدب الأطفال على هذا النحو المجنون: "كنتُ في يومٍ ما طفلاً في روضة، تقرأ له مربّيته القصص، لكنّني لا أذكرُ أنّ جمهرةً من الكُتّاب، على شاكلتنا نحنُ فريق حوراء، كان يتوالى أفرادها في زيارتنا وتسجيل اهتماماتنا وحواراتنا في مفكّراتهم، وكأنهّم مُفتّشون حكوميّون".
تحدّثت القصّة عن شخصيّة الشاعر وكساد شعره، واضطراره تحت ضغط الناشرة إلى كتابة قصص للأطفال، فيذهب إلى الروضات لمقابلة الأطفال والمعلّمات والأمّهات لاستلهام القصص. وتجسد القصّة ذلك الصراع المحتدم في نفس الشاعر بين "هروب يمامة الشعر" منه أو "اختفائها" وراء قصصه، أو طرده للشعر وعدم السماح لنفسه أن يكتب شعراً جديداً. وتضيء الكاتبة في هذه القصّة- التي امتدّ زمن الأحداث إلى أكثر من سنتين- على العوالم الداخليّة للشاعر وتفكيره بالشعر، وكثير من الهواجس المصاحبة لصنعة الكتابة؛ خاصة ما يعرف لدى الكتّاب بمأزق "الورقة البيضاء"، والإكراهات التي يتعرّض لها الكتّاب في الكتابة.
كما ترسم صورة "سيّئة" للناشرة وجشعها، إذ مارست عليه ضغوطاً قاهرة لتحوّله من شاعر إلى كاتب أطفال، وما اتّسمت به من ادّعاء المعرفة والاستغلال المقيت والانتهازية والكذب إلى حدّ وصفه إياها بأنّها "خيّاطة أكاذيب"، وجرّه إلى محاولة أن يكون كاتبَ قصص للناشئة إن فشل في الكتابة للصغار. وتعامل الناشرين الفظّ مع الكتّاب، ويمكن لهذه الصفات أو هذه الصورة لحوراء الناشرة أن تكون صورة الكثيرين من الناشرين في حقيقة الأمر.
وفي قصّة "دعوة تشريفيّة الى استلقاء طويل" تضيء الكاتبة على الوضع البائس الذي يتم فيه التعامل مع الشخصيّات الأدبيّة المكرّمة، من خلال شخصيّة الكاتب الأديب لطفي الحيران، واحتفاء الآخرين الصوري به، واستئثارهم بالحديث عن أنفسهم، وما يصاحب ذلك من إهمال للشخصيّة صاحبة الحدث، فالكلّ يتحدّث عن إنجازاته هو، أمّا الأديب صاحب المناسبة، فوجوده ديكور وهامشي. كما لم يفت الكاتبة ميس داغر أن تقدّم انتقادات أخرى للمتحدّثين، كالمتأخّرين عن الموعد الرسمي؛ مراعاة لبروتوكولات خاصّة تتعلق بوهم البرستيج كما يفعل السيّد (ن)، أو تصدّر الحديث عن الكاتب من لم يكن قد قرأ للكاتب أيّ كتاب، وهي ظاهرة تكاد تكون عامّة بين من يقدّم الكتّاب من الصحفيّين أو النقّاد، فهم لم يكونوا على اطّلاع على كتب الكاتب وأفكاره. حصل هذا غير مرّة مع كثيرين؛ حدث معي شخصيّاً، ومنها ما كنت شاهداً عليه في فعاليات توقيع كتب الأصدقاء.
ومن الانتقادات التي توجّهها الكاتبة للكتّاب استغلال الكتّاب الناشئين الشباب وتطفّلهم للحديث عن أنفسهم على هامش الحدث الرئيس، كما فعلت الكاتبة الشابّة التي لم تسمّها القصّة، وهي ترجو الموجودين أن يقرؤوا ما كتبت، لقد تعمدت الكاتبة ميس داغر رسم مشهد مأساوي لتلك الشابّة، وهي تتحدّث عن ذاتها، لدرجة أنّ مجموعة من الحاضرين غادروا القاعة مللاً وضجراً من الموقف البائس.
ومن القصص الطريفة في المجموعة قصّة "سيكولوجيّة صاحب السيادة" إذ توظّف الكاتبة فيها أجواء من مشاهد يوم القيامة، ونفخ إسرافيل في البوق نفختين، الأولى لتميت الجميع والثانية لإحيائهم، وتربط ذلك بأجواء نفسيّة ترافق "صاحب السيادة" واختلاط هذا المشهد بمشهد الانتخابات.
وفي قصّة "ثلاثين بوصة" تأتي الكاتبة على عوالم المتسوّلين وما بينهم من تنافس، من خلال متسوّلتين مختلفتين، عجوز وشابّة، وكيف تفكر الواحدة بالأخرى على نحو مختلف متّسق مع حالتها، خاصّة المتسوّلة العجوز التي ترى أنّ المتسوّلة الشابّة تستدّر عطف الرجال، وتغويهم بطريقة ما ليدفعوا لها قرشاً أو قرشين، ويصل الحال بالمتسوّلة العجوز لتصف الشابّة بالعاهرة، وتتّجه هذه القصّة إلى تصوير النفس البشريّة، وما يصاحب ذلك من إشارات أو
إيماءات تفضح ما في هذه النفس من مشاعر الغيرة والحسد، وحبّ الاستئثار.
تكمن أهمّيّة هذه القصّة في أنّ ما فيها من تنافس بين المتسوّلتين يمكن له أنْ يعمّم بين كلّ من اشتركوا في مهنة واحدة، كالتجّار، والمهنيّين، والحرفيّين، والكتّاب، وكما يقول المثل الشعبي الفلسطيني "الشحاد ما بحبّ صاحب كشكول"، ولعلّ جعل الكاتبة الشخصيّتين متسوّلتين هو نوع من التحقير لهذا التنافس غير الشريف بين أفراد المهنة الواحدة، فتصبح القصّة في هذه الحالة استعارة سرديّة يمكن أن تتشابه في أفكارها مع كلّ من دخل في علاقة تنافس غير شريفة مع زميله في المهنة نفسها، أيّة مهنة، وليس التسوّل فقط.
تراوح أسلوب السرد في هذه القصص بين السرد بضمير هو/ هي، وضمير أنا، ولم يكن السارد عليماً وهو يقص بضمير هو، واكتفى بسرد الأمور الظاهرة، أمّا قصص الضمير "أنا" فركّزت على العوالم الداخليّة للشخصيّة وارتباطها بالآخرين بالقدر الكافي الذي يظهر من العلاقة بين الشخصيّات، فاكتسبت هذه القصص باستخدام الأسلوبين في السرد منطقيّة وواقعيّة، وتجلّى فيه الصدق الفنّي والصدق الواقعي، فكانت القصص مقنعة في المنطق الذي يحكم كلّ واحدة منها.
اكتفى السرد بإيراد المكان الخاص للقصّة ذاتها دون التفحّص في المكان ووصفه خارجيّاً، إنّما لم يكن أكثر من ظرف مكاني عامّ لحدوث القصّة، سواء عيادة الطبيب في القصّة الأولى، أو عدّة أماكن تراوحت بين مكان توقيع الشاعر لديوانه الثاني ومكتب الناشرة حوراء والحديقة العامّة ورياض الأطفال في قصّة "الشعر في زمن الكوليرا"، وكانت بعض القصص قد حدثت على ناصية الشارع قريباً من محلّ الصرافة كما في قصّة "ثلاثين بوصة"، أمّا في قصّة "السمّاعة" فكان المكان ممتدّاً من بيت فطّوم- المرأة العاملة التي تخشى التحرّش- الكائن في أحد المخيّمات (منطقة الضفّة الغربيّة)؛ وما بين حقل قطف البندورة الكرزيّة في مكان ما في فلسطين المحتلّة عام 1948، وقدّمت الكاتبة عدّة إشارات لهذا المكان؛ الحاجز والتفتيش والبوابة الإلكترونية، ومقصورة المراقبة، والتفتيش العاري للأشخاص محلّ الشبهة، ووجود الضابط العسكري، والتصريح، وإدخالها اللغة العبريّة في حوار عبد السلام ويائير عنها في مكان العمل.
أمّا أكثر الأماكن تحديداً في المجموعة القصصيّة دون التصريح الكامل به، مكان تكريم الكاتب لطفي حيران في قصّة "دعوة تشريفيّة لاستلقاء طويل"، فجاء في مستهلّ القصّة: "اتخذتُ مكاناً بين الحضور، في القاعة التابعة لمعلَم ثقافي معروف على مستوى الوطن". هذه أجواء قريبة من قاعة الجليل في متحف محمود درويش في رام الله، حيث اعتاد المتحف على عقد نشاطاته الثقافيّة فيها، ومنها "تكريم الكتّاب"، إضافة إلى ذكرها "التلفزيون الرسمي"، حيث تعقد هذه الفعاليات الثقافيّة بالتعاون مع تلفزيون فلسطين الذي يبثّ هذه الأمسيات إمّا مباشرة أو مسجّلة فيما بعد. عدا حضور الإعلاميّين والإعلاميّات والكتّاب والكاتبات وجمهور المثقّفين، لكنّه ليس المكان الوحيد الذي له هذه الصفات بشكل حصري، ما يجعله مكاناً غير محدّد تماماً.
ولعلّ إطلاق مكان الأحداث بهذه الكيفيّة، وجعله عاماً دون تحديد، فيه أهمّيّة كبرى لتعميم فكرة القصّة ذاتها، فالمكان ليس عاملاً حاسماً في أيّة قصّة من هذه القصص، بما فيها القصّة التي أشرت إليها أعلاه "دعوة تشريفيّة لاستلقاء طويل"، وما يجري في هذا المكان مع أيّة شخصيّة من شخصيّات القصص التسعة يحدث في أيّ مكان مشابه يوجد فيه أشخاص يعيشون الظروف نفسها.
لقد حافظت هذه القصص على إيقاع سرديّ خافت، حتى لحظات الصراع في بعض القصص كانت تتّجه نحو الصراع الصامت، كما هو الحال في قصّة "ثلاثين بوصة" بين المتسوّلتين، والاحتجاج على سوء التصرّف ظلّ صامتاً في نفس الكاتب لطفي حيران، واحتجاج الجمهور وخروجه من القاعة كان صامتاً في القصّة عينها، وبالإستراتيجيّة ذاتها كان صراع العاملة مع نفسها ومع محيطها يتّجه نحو الصمت- على الأقلّ- من جانب بطلة القصّة، وإذا تطوّر الصراع ليكون خارجيّاً لا يكون إلّا خافتاً يميل إلى القهر الخجول، فلا يصل إلى حالة الانفجار، كما هو في قصّة "الشعر في زمن الكوليرا"، فعدم رضا الشاعر عن حوراء انتهى بالصامت المقهور والاستجابة لمتطلّباتها في إنجاز ما طلبته منه، وألزم نفسه به حسب العقد الموقّع بينهما، وانسحب الصمت على الشخصيّات الحيوانيّة؛ الكلب والقطّة، ولم يعلُ إلّا صوت السمّاعة لكنّ انفجارها في نهاية القصّة كان انفجاراً داخل أذن صاحبة السمّاعة، فطّوم العاملة في حقل البندورة الكرزيّة.
وأخيراً، لقد قدّمت هذه المجموعة القصصيّة عالماً قصصيّاً، فيه الكثير من "الشعريّة" التي اعتمدتها الكاتبة في تقنيات كتابة القصّة القصيرة، وتجلّى ذلك في اللغة السهلة، وفي بناء الرمز، وفي إمكانية قراءة القصّة الواحدة على نحو مباشر أو تأويلي استعاريّ، والبعد عن المباشرة والدعاية الأيديولوجية في القصص، فلم يرتفع صوت المؤلّفة، بل إنّها نجحت في إخفاء نفسها تماماً، لتقوم تلك القصص بمهمّة السرد القصصيّ على هذا النحو الذي جعل هذه القصص نماذج من القصّة القصيرة الناضجة. هذا الفنّ الذي أخذ حضوره يضمر في السنوات الأخيرة، وبذلك تشكّل هذه المجموعة القصصيّة مثالاً بلاغيّاً قويّاً على أنّ هناك كتّابَ قصّة حقيقيّين في فلسطين والعالم العربي، فقد تجلى في هذه القصص موهبة قصصيّة واضحة أنتجت كتابة قصص قصيرة على نحو احترافيّ، يذكّر بكتّاب القصّة القصيرة الكبار، فلسطينيّين، وعرباً وعالميّين كذلك.