في الذكرى السابعة والثمانين لميلاده:
الأبعاد الإنسانية المكتشفة في رواية رجـال في الشمس *
فراس حج محمد| فلسطين
لا أتحدث عن استعادة غسّان كنفاني نقديا في هذه الوقفة، ولو تتبعت ذلك، لحصلت مادة وفيرة، تنبئ عن حضوره في حركة النقد الأكاديمي والصحفي وتناول قصصه ورواياته أو الإشارة إليه أو إلى أحد مؤلفاته، لكنني ألتفت هنا إلى حضور غسّان كنفاني وتحديدا روايته "رجال في الشمس" عند عدد من المغردين، أي ما كتبه أصحاب الحسابات على توتير.
لقد تتبعت حضور هذه الرواية على توتير تحت وسم (رجال في الشمس)، وهو ما يعرف بلغة المغردين الهاشتاج، حيث ترتبط الكلمات ببعضها بعلامة الهاشتاج هكذا (#رجال_في_الشمس)، وتجتمع تحت هذا الوسم مجموعة من التغريدات، فصار الهاشتاج كأنه عنوان جامع وشبيه بفهرسة إلكترونية، تساعد الباحث والمهتم أن يتتبع الموضوع بشكل سهل ومباشر. فماذا يجد المتصفح لهذا الهاشتاج؟ وكيف تم استعادة رجال في الشمس؟
لا شك في أن المسيطر على الهاشتاج وتوجيهه هو الفكرة المركزية لرواية "رجال في الشمس"، وأنها رواية لمبدع فلسطيني اغتالته يد الاحتلال الإسرائيلي، فتحضر سيرته المقتضبة، مع الإشارة أحيانا إلى ما تعرض له غسّان كنفاني من اغتيال، وكثيرا ما ارتبط هاشتاج الرواية مع هاشتاج المؤلف #غسّان_كنفاني.
تمحورت أكثر الهاشتاجات حول فكرة الرواية الرئيسية ومقولتها الأشهر، وهي "لماذا لم تدقوا جدران الخزّان؟" التي تحولت هي بدورها أحيانا إلى هاشتاج داخل التغريدة. يتم في هذه الاستعادات النصية والفكرية للمقولة وللرواية ولغسّان كنفاني محنة الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال، ومحاولته الخلاص من هذا الاحتلال، وأنه لن يضعف وسيظل يدق جدران الخزّان، على اعتبار أن دق الجدران مؤشر على الحياة المتجسدة بالثورة والمقاومة.
وتم الإشارة، توتيرياً، إلى الرواية، في الحالة الفلسطينية الراهنة كثيرا، وخاصة في الحصار الجائر على قطاع غزة، ومحاولة البعض الخلاص من الأوضاع السيئة بالخروج من القطاع مهاجرا، كما حدث مع البعض وترك القطاع وفرّ بجلده بحثا عن خلاص شخصي، وكأن الفلسطيني لم يتعلم من المأساة التي أودت بثلاثة فلسطينيين باحثين عن خلاص فردي، فكتبت إحدى المغردات: "هجرة شباب غزة تذكرني برواية غسّان كنفاني رجال في الشمس، والتي كان هدفها البحث عن حياة أفضل، ولكن لم يحالفهم الحظ وكانت نهايتهم الموت".
لم تغب الحادثة، بوصفها حادثة إنسانية مجردة عن رواية تخص المصير السياسي للشعب الفلسطيني، ليتم التعامل معها إنسانيا، لتؤشّر نحو حوادث من "الموت المجاني" للساعين إلى الهجرة غير الشرعية، وبالتالي تشكل العبارة هجرتها الأولى من الرواية الخاصة بمأساة الشعب الفلسطيني إلى مصير جماعة من البشر ساعين إلى خلاص شخصي، ولكن هذا الخلاص ليس مجرّماً على قاعدة الرواية، وإنما قد يكون له ارتدادات إنسانية أخرى أو ربما سياسية تحكمها عدة عوامل طاردة من البلد الأصلي إلى بلد الهجرة. إن استماتة المهاجرين للوصول إلى البلد الجديد حلم أشبه بحلم مرافقي أبي الخيزران الثلاثة الذين كانوا يحلمون بأن يعملوا ويجتهدوا في الكويت أو أي منفى للخلاص من عيشة الفقر التي يعيشونها في المخيمات. إذن ثمة رابط يربط بين المهاجر غير الشرعي وبين الفلسطيني المتسلل إلى أي بلد عربي، ليدخل إليها دخولا لا شرعياً، وأيضا يجمعهما المصير نفسه، فيموت الفلسطينيون الثلاثة ويموت هؤلاء المهاجرون غير الشرعيين في البحر أو في البر، ليصبحوا أيضا "رجالاً في البحر"، كما كانوا رجال غسّان رجالا في الشمس، وللأسف فقد كان من هؤلاء الهاربين في البحر فلسطينيين أيضا. كتب الشاعر أحمد دحبور (خارج توتير) في بداية مقال له بعنوان (رجال في البحر): "تناقلت وكالات الأنباء مؤخرا، خبرا فاجعا عن غرق عدد من الفلسطينيين في البحر، أثناء محاولتهم السفر بالتهريب الى إيطاليا. والخبر على قسوته المروعة – ليس جديدا من نوعه على الأوساط الفلسطينية"، ثم يشير دحبور إلى رواية غسّان كنفاني ويستحضرها في معرض هذا الخبر.
يشير أحمد دحبور في مقاله السابق إلى أن حادثة موت الفلسطينيين في الرواية كانت واقعة حقيقية، رواها له أحد الناجين بأعجوبة، هذه الحادثة التي تكاد تتطابق مع ما غرّدت به الكاتبة السورية غالية قبّاني على حسابها في توتير: "القصة تتكرر منذ نشر الروائي الفلسطيني غسّان كنفاني روايته رجال في الشمس 1963 عن موت 3 رجال حاولوا دخول الكويت صيفا مختبئين في خزّان مياه وانتشرت عبارته الشهير "لماذا لم تدقوا الخزّان؟". العثور على 39 جثة في شاحنة بمقاطعة اسيكس البريطانية"، وتضع الكاتبة رابطا للخبر وتفاصيله، إذ لا تستوعب تقنية الكتابة في تغريدات توتير سوى عدد محدود من الحروف.
لقد كثرت في السنوات الأخيرة حالات الموت غرقا في البحر لمهاجرين غير شرعيين كثيرين في البحر الأبيض المتوسط، وصار أشبه ببحيرة موت، ويمثل ما مثلته الصحراء العربية، فقد كان البحر والصحراء سواءً في تهيئة الظروف القاسية للموت، فكلاهما لا يرحم، وهما بطبيعتهما الجغرافية قاتلان، والناجي منهما غرقا أو حرقا ناجٍ بأعجوبة.
وربّما كانت فكرة "رجال في الشمس" كذلك حاضرة في محنة السوريين الذين لجأوا إلى أوروبا وتركيا، وقد تناول هذه المحنة مسلسل مدرسة الحب في ثلاثية بعنوان "موطني"، ويظهر في الجزء الثالث أربعة من السوريين وهم يحاولون عبور الحدود إلى بلد أجنبي تهريبا فيجمعهم برّاد، فيموتون نتيجة البرد الشديد. لقد دق هؤلاء الأربعة جدران الخزّان ولكن لم يسمعهم أحد. لقد كانت العشر دقائق في رواية غسّان وفي شاحنة البرد كافية لأن تقتل المختفين في الخزّان، وكان المصير واحدا هو الموت بغض النظر إن كان الموت بالحر أو بالبرد.
لقد وفرّت الرواية مجالا خصبا للاستعادة في الحالة العربية، خلال ما عرف "بثورات الربيع العربي"، وكل تلك المآسي التي يعيشها العربي داخل حدود وطنه، وتؤشر إلى كثير من الضحايا الساكتين عن الأنظمة، كما تؤشر إلى حالات من الموت أصابت كثيرين جوعا وعطشا وتشردا كما حدث مع الكاتب السودانيّ محمد بهنس قبل سنوات الذي مات متجمدا من البرد في أحد شوارع القاهرة، فهو لم يطرق خزّانا، ولم يكن بوسعه فعل ذلك إلا أن يموت مقهورا في العراء في عز البرد، فالمقولة الأساسية للرواية هي التحريض على الثورة، الثورة ضد المحتل، الثورة ضد الأوضاع السيئة في أي بلد، كما فعل مثلا محمد البوعزيزي في تونس، فقد دق بعنف جدران الخزّان، فحرق نفسه وأشعل ثورة الياسمين التي امتدت لتشمل كل من مصر وليبيا وسوريا واليمن والجزائر والعراق، فكانت رواية غسّان كنفاني ضد الصمت، ضد الخنوع، ضد الرضا بالأمر الواقع، لذلك انتشرت في شعارات تلك الثورات كسر حاجز الصمت وكسر حاجز الخوف، لكن هذه الثورات تم إجهاضها وحرف مسارها، كما كتب المغرد حسام شاكر: "شهد عام 2011 مسارا آخر لرواية غسّان كنفاني رجال في الشمس إذ قرعت الجماهير "جدار الخزّان" فتواطؤوا على خنقها في جوفه".
وفي غمرة انشغال العالم بأزمة كورونا، فقد بدأ يشيع في المجتمع الفلسطيني بداية الأزمة أن العاملين في "الكيان الغاصب" هم من سيجلب لنا الوباء، وصرتَ تسمع كثيرا من اللوم على العمال الفلسطينيين، ولم تفتأ الحكومة على لسان الناطق باسمها "إبراهيم ملحم" أن يوجّه التهمة بشكل مبطّن إلى أنه يجب أن نستعد إلى "عودة العمال"، ونأخذ احتياطات مضاعفة، وكان ذلك يتم يوميا تقريبا في التقرير الصباحي والتقرير المسائي للحالة الوبائية في فلسطين، ما خلق عند الفلسطينيين الخوف من العمال وتحميلهم المسؤولية، فاستحضر أحد المغردين ويدعى همام غياظة الرواية، ليأخذ الرواية إلى بعد آخر في التأويل، ويقرأ الحالة الحكومية غير السوية على هدي من رواية رجال في الشمس، فكتب على حسابه في توتير في الرابع من نيسان 2020: "لقد قال غسّان كنفاني على لسان ولاة أمرنا ولسان (أبي الخيزران) ملامة الحاكم للمحكوم المشدوه على أمره بعدما خرب الأمر، وتأخر عليهم، فماتوا من حر الخزّان: "لماذا لم يقرعوا جدران الخزّان؟!". فهل نصبح أبا الخيزران مجدداً، ونلوم العمال على تقصير الحكومة تجاههم؟"، فالحكومة بالفعل وقفت عاجزة أمام مشاكل المجتمع، وخاصة، أنها منعت العمّال من الذهاب للعمل في الداخل المحتلّ، ولم توفر لهم البديل، ما جعل الحكومة شيئا فشيئا تتخلى عن سياسة الإغلاق، وتحمّل الناس مسؤولية انتشار الفايروس، بل ربما فكرت الحكومة بأكثر من ذلك، عندما حاول المتنمرون التابعون لها في توجهاتها أن المسؤولية مسؤولية الوعي المجتمعي وأن الحكومة تبذل قصارى جهدها في مكافحة الوباء، ولكنها لم تفعل شيئا لهذا المواطن، فقطعت رواتب الموظفين، وصار الموظف مسؤولا عن البلاد والعباد، وعلى الموظفين والعمال جميعا أن يدبروا أمرهم تجاه ثلاث قضايا كبرى: الاحتلال وكورونا ومتطلبات الحياة المعيشية. وظهرت الحكومة بريئة تماما، فهي تواجه صفقة القرن ومخططات الضم، والمسؤولية عليها أكبر من أزمة موظف لم يتلق راتبه لمدة شهرين إلى الآن (في حينه)، ولكن للأسف لم يدقّ أحد جدران الخزّان ضد الحكومة، ومن حاول ذلك مثل الفنانة أميرة حبش انهال عليها المتنمرون بشكل فظيع، وهاجموها بأقذع الأوصاف، وانتشر شعار "بدكم وطن وللا بدكم مصاري؟" على لسان كثير من مسؤولي السلطة من أجل إسكات الناس وتحميلهم مسؤولية الهزيمة في معركة الصمود المدعاة التي سيواجهها الموظفون عراة وعزلا وجائعين ومشدوهين.
هذه بالمجمل القضايا التي تعرض لها المغردون على توتير واستعادوا فيها المقولة المهمة للرواية، وهذا يؤكد أن الرواية ما زالت حية مفتوحة على آفاق إنسانية ومواجع عامة غير مرتبطة بقضية شعب يرزح تحت نير الاحتلال، وإنما تُستحضر وتُستعاد وتُقرأ ليجد فيها القارئ، أي قارئ، كما كتب أحد المغردين، أنها "رواية مؤلمة جداً وعند الانتهاء منها شعرت بالغثيان والرغبة في البكاء". وكما كتب أحد المغردين في وصف الرواية بأنها كتاب مفتوح: "أعتذر لهذا الكتاب لا أستطيع أن أصفه بأحرفي الغير لائقة بمقامه! غسّان أبهرنا في روايته فقط ليُحيي إنسانيتنا الميتة!".
وليس هذا وحسب، بل إن المغردين يستعيدون الرواية بنشر صور لبعض الصفحات، ولبعض المقولات الفرعية، كما صاحبت تلك التغريدات بعض الرسومات المستوحاة من أجواء الرواية، وكل ذلك يشير بلا شك إلى أن الرواية، رواية حية وكتاب مفتوح على التأويل، وكذلك فإنها رواية إنسانية بما عالجته من قضية شعب يرزحُ تحت الاحتلال ولكن بطريقة إنسانية، ترتفع بالخاص إلى مصافّ القضايا الإنسانية، لتجد الرواية حاضرة في الهمّ الشخصي وفي الهم الجماعي فلسطينيا وعربيا وعالميا، وفي القضايا الاجتماعية كما في القضايا السياسية سواء بسواء، وهذه هي ميّزة أي عمل أدبيّ اكتسب صفة "العمل الإنساني" ليظل ذا حضور دائم في وعي الإنسان الذي لا تنتهي معاناته وأشكالها المتعددة، وخاصة في البقعة الجغرافية الموصوفة بالعربية.