أمير الشعراء والسقطات النقدية| قراءة في الموسم الثالث- الجزء الثاني
مجلة الليبي، العدد (50)، فبراير- شباط/ 2023
إشارة: رابط الجزء الأول:
https://kenanaonline.com/users/ferasomar/posts/1184684
ثالثا: السّخرية والتّهكّم:
حفلت حلقات البرنامج بالكثير من المواقف الطّريفة المحبّبة، الّتي أضفت جوّا من المرح الظّريف، ولكنّها كذلك غصّت بالمواقف السّاخرة الّتي ابتعد فيها النّقّاد عن النّقد وتجاوزوا الحدّ في الدّعابة، لتقترب تلك الدّعابة إلى حدّ السّخرية والدّعابة الممجوجة المدّعاة. فقد تجاوز د. صلاح فضل المعقول والمقبول في التّعليق على الشّاعر وليد الصّرّاف عندما سمعه لأوّل مرّة، والبرنامج في مرحلة البحث عن الشّعراء، فيدعو النّاقد على الشّاعر بدعوة صار لها صدى واسع فيما بعد في البرنامج، فبعد أن أنهى الشّاعر إلقاءه القصيدة، وإذ بالنّاقد يقول له: "لعنة الله عليك"، ممّا يجعل الشّاعر يستغرب من هذه المقولة الجارحة، والدّعوة القاسية اللّئيمة، ويعاد التّذكير بهذا الموقف غير النّقديّ في أوّل حلقات البرنامج المذاعة على الهواء مباشرة، فيذكر نايف الرّشدان بمقولة د. فضل رافضا لها ومستبدلا بها جملة أخرى: "فإذا قال لك د. صلاح لعنة الله عليك، فإني أقول لك رحمة الله عليك"، وتجرّ هذه الجملة د. عبد الملك مرتاض ليرفض التّعليقين معا ومستبدلا بهما عبارة "رضي الله عليك" على اعتبار أنّ مقولة الرّشدان تقال للأموات! ويعيد د. عليّ بن تميم التّذكير بهذا الموقف في سياق تقديمه الملحوظات النّقديّة للشّاعر العراقيّ عمر عناز مخرجا العبارة مخرجا غائما لا تدري هل هو يمدح شعراء العراق أو يذمهم فـ "لعنة د. صلاح – كما يقول د. علي- تلاحق شعراء العراق".
وتتعدّى المواقف النّقديّة ما هو أشدّ وأبلى، فترى النّاقد يتناول ألقاب الشّعراء وأسماءهم ليعلّق عليها، فلم يسلم من هذه المواقف مَن كان في اسمه أو لقبه ما يوحي بعيب ما، فهذا الشّاعر الجزائريّ نجيب جحيش، تطوله "لعنة" اسمه الثّاني، فيخاطبه د. صلاح فضل "ألم تفكّر في تغيير لقبك؟ أوَلا تشعر بالحرج؟"، ويحاول د. مرتاض تعديل سلوك زميله رادّا على د. فضل مزاعمه بموقف من التّراث، مذكّرا بقصّة بني أنف النّاقة، الّذين كانوا يتحرّجون من لقبهم حتّى جاء شاعر ومدحهم بهذا اللّقب، فصار لقبهم هذا محلّ عزّة وفخار لهم، ولم يسمح الشّاعر الجزائريّ نجيب بمرور الموقف دون أن يقول كلمته وهو المعنيّ بكلّ هذا، فيوضح معنى اسمه بأنّه "المتعصّب لرأيه"، وبذلك يتخلّص د. فضل من سوء مأزقه، وعدم لباقته ولياقته.
وتتناول سهام د. فضل الشّاعر الكويتيّ رجا القحطاني فيجسّد التّعبير الشّعريّ المراد التّعليق عليه بتصوير ساخر، فعندما يوظّف الشّاعر ألفاظا من مثل المعراج والصّعود والرّوح، تتحوّل في لغة د. فضل عبارة ساخرة: "كأنّني أتصوّر قطّة تتسلّق معراج روحك".
ويخرج أحيانا التّعليق النّقديّ الحقيقيّ مخرج السّخرية، وذلك عندما ينشد الشّاعر تركي عبد الغني قصيدته موظّفا في مطلعها أربعة من أسماء الإشارة، وعلى الرّغم من أنّ اللفتة النّقديّة جميلة وفي محلّها، ولكنّ صياغتها بأسلوب ساخر متهكّم يضعف جماليّتها وموضوعيّتها وكونها ملحوظة نقديّة رصينة، يقول د. فضل: "وزّع إشاراتك على ناصية الأبيات حتّى نستطيع أن نتابعك يا تركي".
ويتابع النّاقد عليّ بن تميم منزلقات التّهكّم النّقديّ، فيدلق عبارات النّقد ساخرة، ليس من ورائها طائل نقديّ سوى الحطّ من الشّعراء والانتقاص من إبداعاتهم، فبعدما يلقي الشّاعر الموريتانيّ أحمد رضوان قصيدته تجد النّاقد يندفع قائلا: "لو حلبت السّحاب مائة عام لن يتقاطر على شفتيك الحليب"، فمثل هذا التّعليق لا يخدم معنى ولا صورة، وليس له علاقة بالقصيدة، ولا يمتّ للنّقد بأيّ وشيجة من وشائجه المعروفة وغير المعروفة، ومثل هذه التّعليقات غير غريبة عن تصرّف النّاقد د. عليّ بن تميم، فتراه مرّة أخرى يتلفّظ بجمل ليس لها انتماء نقديّ، كما حدث مرّة أخرى مع الشّاعر المصريّ محمّد عبادة الّذي تنال منه السّخرية جانبا في قول عليّ بن تميم له تعليقا على القصيدة: "كأنّك في قطار بضائع لم تر شيئا في الخارج".
رابعا: مواقف نقديّة غير مبرّرة:
تنطلق هذه الإشكاليّة النّقديّة من مجموعة مواقف اتّخذها النّقّاد لم تكن مبرّرة في تعاملهم مع النّصوص أو مع الشّعراء، مبتعدين في تلك المواقف عن النّمط المتّبع في البرنامج من حيث تقديم الملحوظة النّقديّة في سياق من الموضوعيّة في التّعامل مع المتسابقين كافّة، فترى وأنت المشاهد أمام التّلفاز أنّ تلك المواقف ثالمة لعلميّة النّقد وموضوعيّة النّاقد.
فلم تتعامل لجنة التّحكيم مع الشّاعر البحرينيّ محمّد المرهون كما يجب أن يُتعامل معه، بل تنطلق اللّجنة من قاعدة السّنّ وتحاكمه بناء على سنّه، ولم يكن هو أصغر الشّعراء سنّا، بل كان هناك في البرنامج من هو أصغر منه سنّا، ولم يكن التّعامل معه بالطّريقة نفسها، ممّا يعني أنّ النّقّاد قدّموا ملحوظات نقديّة خارجة عن سياق النّقد المقدّم لزملائه، وهو بالتّالي بعيد عن النّصّ المقدّم وتقييمه.
ويتعلّل أحيانا النّاقد بضيق الوقت، فيضطر إلى عدم الوقوف مطوّلا أمام بعض المشاركات، وهذا ما حدث مع الشّاعرة اللّبنانيّة أمل طنانة الّتي مرّ النّاقد د. مرتاض على قصيدتها بسرعة متذرّعا بضيق الوقت، هذا الوقت الّذي لم يحسب له حسابا مع شعراء آخرين في أيّ حلقة من حلقات البرنامج سواء في ذلك الحلقات السّابقة أو اللّاحقة، إنّه استعجال نقديّ، وعدم منح الشّاعرة فرصة الوقوف عند قصيدتها أسوة بزملائها علما أنّ هذا الموقف النّقديّ لم يتكرّر مع غير هذه الشّاعرة في هذا الموسم، ربّما كان ينظر إليها النّاقد مرتاض نظرة ذكوريّة خالصة، بحيث لا يرى أنّها تستحقّ الالتفات أو الاهتمام.
ويأخذ الموقف النّقديّ غير المبرّر نحوا آخر، عندما يضطر أ. نايف الرّشدان – كما صرّح هو- لحذف نصف ملحوظاته على قصيدة الشّاعرة السّعوديّة بلقيس الشّمّري، وذلك بحجّة تصفيق الجمهور لهذه الشّاعرة، وكأنّ الجمهور لم يصفّق لغيرها، ولم يحظ أحد من قبل بإعجاب جمهور شاطئ الرّاحة.
خامساً: سقطات النّقّاد وأخطاؤهم:
تتغيّا هذه البؤرة النّقديّة الكشف عن أنّ النّقّاد الّذين مارسوا عمليّة النّقد على الهواء مباشرة، وعبر الأثير، لم يسلموا من سقطات نقديّة وأخطاء في التّفسير، عدا الوقوع في أخطاء معرفيّة، لا يصحّ للجنة، أعضاؤها من كبار النّقّاد أن تقع في مثل هذه السّقطات، ولكنّها في نهاية المطاف إشكاليّة معبّرة عن البعد البشريّ في العالِم والنّاقد، الّذي قُدّر عليه الوقوع في الخطأ والزلل، ولا مناص من ذلك.
بدا النّقّاد في تعليقاتهم على النّصوص الشّعريّة مفتونين بمتابعة النّصوص المستكنّة في نصوص الشّعراء المقدّمة، وهذا أدخل بعض النّقّاد في أوهام القراءة النّقديّة، وأدخلهم في التّعنّت في التّفسير والتّمحّل في الرّبط، فعندما يورد الشّاعر السّعوديّ حسن القرني هذا التّعبير في قصيدته: "هي صبغة تعطى وتؤخذ صبغة"، يرى د. فضل أن هذا التّعبير يتناصّ مع قوله تعالى: "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة"، ومن الواضح أنّه لا رابط بين الآية والنّصّ سوى ذكر المفردة، فهل مجرّد ذكر اللّفظ يحيل إلى التّناصّ؟ كما سبق وأشرتّ في موضع سابق من هذه الدّراسة.
ولم تخلُ بعض حلقات البرنامج من العصبيّة والتّوتّر، وهذا ما لاحظه المشاهد الكريم في الحلقة الثّانية من المرحلة الثّانية، حيث يختلف د. مرتاض ضمنيّا مع بعض أعضاء اللّجنة في تفسير قول الشّاعر الأردنيّ صفوان قديسات "تسعين عمرٍ"، فيتّهم د. مرتاض كّل شعراء الأمسية باللّحن، وبأنّ الأمسية أمسية اللّحن، وتناسى النّاقد سقطات لجنة التّحكيم وسقطات الشّعراء قبل هذا الموقف وبعده، لتأتي الطّامّة الكبرى في تلك الأمسية من د. عليّ بن تميم ليعزّز موقف د. مرتاض ويثبّت صفة اللّحن على تلك الأمسية، وذلك عندما يقرأ أبيات أبي فراس الحمدانيّ الّتي سيكلّف الشّعراء بالنّسج على منوالها، فيلحن في قراءة أحد الأبيات، وهو البيت الآتي:
تَعالَيْ تَرَيْ روحاً لَدَيَّ ضَعيفَةً تَرَدَّدُ في جِسمٍ يُعَذَّبُ بالِ
فيقرأ النّاقد يعذِّب بكسر الذّال، وهي بالطّبع بفتحها، مبنيّة للمجهول لا غير، وعدا هذا الخطأ في القراءة، فقد وقع معدّ القصيدة بخطأ عروضيّ بزيادة حرف في بعض كلماتها، مما أدّى إلى كسر في الوزن، والبيت هو:
أَيا جارَتاه ما أَنصَفَ الدَهرُ بَينَنا تَعالَيْ أُقاسِمكِ الهُمومَ تَعالي
فقد انكسر الوزن واختلّ العروض في كلمة "جارتاه"، عدا مخالفة هذا النّصّ للنّصّ الأصليّ في ديوان أبي فراس، ولم يفطن مع ذلك د. ابن تميم لهذا الكسر العروضيّ، وقرأ البيت كما هو مكتوب، ليقع النّاقد في خطأين، ولم يعلق د. مرتاض على هذا الموقف، وكأنّ شيئا لم يكن.
وكثيرا ما يلفت أعضاء لجنة التّحكيم الشّعراء إلى استعمال الألفاظ، وضرورة أن يكون هذا الاستعمال في محلّه، وقد أشرت إلى شيء من هذا في المحطّات النّقديّة السّابقة، وترى أحيانا جهل النّاقد بالنّقد الّذي يقدّمه، وأنّه لم يبن ملحوظته سوى على علمه القاصر، فيبدو غير ملمّ بالملحوظة من جوانبها كافّة، أو ما أجازته المعاجم في اللّفظ الواحد، فعندما ترد كلمة "رِحْم" في قصيدة للشّاعر تركي عبد الغني يعتب عليه د. فضل مدّعيا أنّ الأصل هو "رَحِم" ، ليقع د. فضل في فخّ اللّغة، ولم يخلّصه منه سوى مراجعة كتب المعاجم، فترى معجم الصّحاح قد أيّد الشّاعر في استعماله، وأنّ الكلمة بضبطيها السّابقين على درجة واحدة من الصّحّة اللّغويّة.
وما يتّصل بهذا الباب كذلك، ما عابه النّقّاد على الشّعراء من لحن وقعوا فيه، فما يلبث النّاقد نفسه الّذي قدّم الملحوظة أن يواقع خطأ من الدّائرة نفسها، فالشّاعر الأردنيّ تركي عبد الغني في القصيدة المشار إليها آنفا يقرأ الشّطر الآتي هكذا: "وكان أبردُ ما في قلبي نارُها"، برفع كلمتي أبرد ونارها، فيصحّحه د. أحمد خريس بنصب نارها على اعتبار أنّها خبر كان، وما أن ينهي د. خريس حديثه النّقديّ حتّى يواقع خطأ نحويّا عندما يقول للشّاعر تركي: " أضعُ مجاراتِك في المنزلة الأرفع" فقد ظن د. خريس أن الكلمة (مجاراتك) جمع مؤنث سالم ومن حقّها أن تنصب بالكسرة، وهي بالطّبع كلمة مفردة من حقّها النّصّب بالفتحة.
ويأتي الخطأ بقراءة النّصّ القرآنيّ ثالثة الأثافيّ، عندما يستشهد د. عليّ بن تميم في معرض التّعليق على قصيدة الشّاعر التّونسيّ الشّاذلي القرواشي بالآية الكريمة: "فأواري سوأة أخي"، فيتصرّف النّاقد بالآية جاعلا محلّ أواري كلمة أداري، وتمضي الأمور دون أن يكون هناك تصحيح للآية، فأين التّثبّت من العلم أيّها النّاقد الكبير؟
خاتمة وإجمال:
وبعد، أيّها القرّاء، أيّها الشّعراء، أيّها المتذوّقون الشّعر، فعلى الرّغم ممّا سلف، فقد كثر النّقد وتنوّع في هذا البرنامج الطّافح بالجمال، وقد حظينا جميعا نقّادا وشعراء ومشاهدين بفرصة تعلّم النّقد ليكون ضمن المتداول اليوميّ وحديث المجالس، بعد أن كاد يصيبه الضّمور والجفاف، فمن حقّ القائمين على البرنامج أن يفخروا بهذا الإنجاز الّذي استمرّ يرفد السّاحة الإبداعيّة بالأسماء الشّعريّة الّتي أضافت إلى المشهد الشّعريّ حيويّة وبهاء، وأمدّته بأصوات تتجدّد كلّ عام تثري المدونة الشّعرية العربيّة المعاصرة بتجاربها الخاصّة.
ولذا، فإنّنا ننتظر بشوق ما يتمخض عنه البرنامج، وما تصنعه آلته الإعلاميّة والنّقدية كلّ عامٍ، لعلّ نقّادنا الأفاضل يتوجّهون أو يوجّهون طلّابهم لدراسة هذا البرنامج بوصفه ظاهرة أدبيّة فريدة وعصريّة وجماهيريّة، هذه الجماهيريّة الواضحة في الشّقيق الثّاني لهذا البرنامج، وأقصد بذلك "شاعر المليون" موضوع الدّراسة الآتية.