في الذكرى الخمسين لاستشهاده:
في استعادة غسان كنفاني: عندما لا تموت الفكرة [*]
بقلم: صفاء أبو خضرة/ الأردنّ
عندما يشتبك الكاتب مع الأرض والسماء والمطر، لا بد من أنه سيكون مثقفاً مختلفاً، وأكادُ أجزم أنّهُ سيكون خالداً حتى بعدَ موته.
غسان الذي اغتالهُ الموساد الإسرائيلي، هل استطاعَ فعلاً أن يمحو بذلك كلّ ما قدم للساحة العربية من ثقافة وإبداع؟ كلا، إنّ دمهُ الذي اختلط بالأرض ينبتُ مراراً، كيف لا وهو الفلسطيني الذي تشبّعَ بحب الوطن ونذرَ نفسَهُ وحياتَهُ له.
غسّان الذي نبت من "قنديله الصغير" وخرجَ من الشمس بصحبة رجال المقاومة الذين نذروا أنفسهم وأرواحهم للوطن، غسان الذي لمسَ حزنَ البرتقال يوم التهجير، غسان المحارب، المثقف الذي لم تستطع أيّة سلطة تدجينه ووضعهِ في قوالبها الخاصة والممنهجة، لم يكن يتبع سوى منهجية الوطن وقضيته التي حمل رسالتها على كتفيه وظلّ طيلة حياته حتى آخر نفسٍ لفظه يحلق فيها بجناحين من إصرار ومحبة.
إننا أمام طائر فينيقي أطلّ علينا في كتاب من تأليف الشاعر فراس حج محمد، استعادَ فيه غسان كنفاني ليكشف علاقة المثقفين الفلسطينيين والعرب بقضاياهم، خاصة مسألة التطبيع وتدجين المثقفين، ووضعهم في قوالب خاصة تخدم كل المصالح إلا مصلحة الوطن، وبين لنا التأرجح الرهيب ما بين الكلمة في عهد غسان عندما كانت سيفاً حاداً ولاذعاً وحارقاً ما أدى إلى اغتياله، لأنها كانت مثل الطلقات التي تخرج لتقتل العدو في عقر قلبه، والكلمة في وقتنا الحاضر، مرتعشة وخائفة وأقرب ما تكون إلى هاوية تسقط فيها ولا يسمعُ لها أيّ صدى.
استعاد غسان الذي كان يحملُ في حقيبته كتاباً وجواز سفر، وجهته الوحيدة فلسطين، وبندقية ملغمة وجاهزة للإطلاق، ورغيفاً من الخبز، وشتلة زيتون، وعروقاً من الريحان والزعتر الأخضر، كان يصرّ غسان على دعوة كلّ ما في حقيبته في قصيدة أو رواية أو قصة، لكل ذلك تم اغتياله.
أما أكثر ما لفتني في الكتاب أسماء المثقفين والكتّاب، وقد فوجئت بعددٍ منهم، احترمنا أعمالهم، وربما فُتنّا في كثير منها، لكنها في الوقت ذاته كانت ملغومة بالانحياز للعدو والتطبيع معه بطريقة أو بأخرى، لنرى الفرق الكبير بين الشمس التي لا تغمض عينيها من رصاصة، وبين أرضٍ خذلها أبناؤها فابتلعتهم مرغمة.
تلك شمس غسان التي لم تغب يوماً وتسطعُ في كل الفصول.
إنّ ثائراً مثل غسان غزلَ حزنهُ وقصصه بكل ما أوتي من حرمان وغضب جراء تغريبه وتهجيره عن أرضه التي يحبّ، وعن بيته الذي سكنه الغرباء وجعلوا من لحافهِ غطاءً لسوءات الاحتلال وكفرهِ بالإنسانية.
استطاع فراس حج محمد حقيقةً أن يستعيد لنا غسان في بحر كتابهِ لنعيدَ كرة العوم مع هذا المناضل الذي أتمنى أن يتكرر في عصرنا هذا مثله.
وإذا ما تأملنا عنوان كتاب "استعادة غسان" قد نعتقد للوهلة الأولى أن الكاتب أرادَ بكلّ بساطة أن يُعيد ذكرى هذا المناضل عبرَ كتابه، ينفخ في رماده ليستيقظ، لكنّ السؤال الأهم الذي أجاب عليه فراس حج محمد منذ صفحات الكتاب الأولى وحتى نهايته، من ماذا سيستيقظ هذا الغسان وهو لا زال بيننا حيّ يرزق نتداول أعماله ومقولاته وكتبه على مرّ أجيال؟
نعم، لقد أرادَ استعادته ليحيينا ككتّاب، ويذكّرنا بما نحنُ عليه اليوم، وكأنهُ وضع مرآة ضخمة وحقيقية نصبَ أعيننا، ليثبت لنا "أنّ الفكرة لا تموت"، وأنّ صاحب الكلمة القوية والعادلة تمنح صاحبها الخلود، من هنا أراد فراس حج محمد أن ينفض عنا غبار اليأس والاحباط الذي أصيب فيه المثقف جراء أسباب عدة، إما سياسية أو اقتصادية أو أخرى اجتماعية وثقافية، حتى في ظل توجه العالم إلى الرقمية، وتمثلّ هذا التذكير بالجزء الأول من الكتاب ص "17" والمعنون بـ"شيء عن الثقافة والمثقفين"، فتح في هذا الجزء باب الصراع على مصراعيه؛ وبيّن جميع أوجه الصراع التي يمثلها المثقف ما بين وعيه هو ووعي الشعوب، والظروف التي يرزح تحتها المثقف، وقد تشكل شخصيته الأدبية وتؤثر بها، وصولاً إلى منهجية التطبيع التي مشى خلفها الكثير منهم وانجروا خلفه كأنهم قطعان؛ منتقداً اتحاد الكتاب الفلسطينيين لعدم اتخاذ إجراءات ومنهجية تحول دون ذلك الهراء والعبث.
والكتاب في جزئه الثاني ص"89" والمعنوان بـ "رجال في الشمس" رواية المأساة الخالدة"، ثمة إضاءات كثيرة على الرواية من حيث الفكرة والعنوان والشخصيات والحدث والعقدة والزمان والمكان واللغة والأسلوب، وهنا في هذا الجزء لفت الكاتب النظر إلى ظهور غسان كنفاني في روايته هذه على المواقع الإلكترونية، خاصة تويتر، متتبعاً عنوان الرواية الذي ارتبط لا محالة باسم غسان مع الفكرة التي اشتغلت عليها الرواية، موعزاً إلى أن غسان تمت استعادته فعلا "نصياً وفكرياً"، كما ذكر في كل هاشتاج، وفي كلّ نقرة بدءاً من مقولته "لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟"، مشيرة هنا إلى أن الكاتب فعلياً أشار إلى نقطة، كان ذكياً في طرحها بين لنا التأثير الذي شكلتهُ هذه النقرات الغسانية الإلكترونية، مذكراً بحصار غزة، وهجرة الشباب الذين كان هروبهم من الموت موتاً، وسألتُ نفسي هنا: هل كرّرَ الزمن نفسه في الواقع الفلسطيني، ليحدث ما حدث في رجال في الشمس؟ وهل كانت رؤية غسان كنفاني لما يحلّ اليوم في فلسطين رؤيا أو نبوءة؟
وفي ص"129" في جزء الكتاب الثالث المعنون بـ"غسان كنفاني قاصاً وناقداً وشاعراً"، ألقى الكاتب الضوء على الطابع الأدبي الذي غلبت عليها أعمال غسان، وهي القصة والرواية وأن الشعر كان مجرد محاولات في بداياته، مع الإشارة إلى أنّ هذه البدايات لم تكن إلا لتنمّ عن موهبة تنبت في تربة الشعر، وأشار أيضا في عنوان آخر إلى ريادية غسان في كتابة القصة القصيرة التي بدأ في الأصل مسيرته الإبداعية.
أضاء لنا الكاتب أعمال غسان، مقدماً اقتراحات جميلة لنُعطي مناضلنا المثقف حقه الذي سلبهُ الاحتلال روحهُ في عمر مبكر، فلم تتح له ولنا فرصة أعمال أخرى، رغم أن أعماله مقارنة بسنوات عمره أفصحت عن زخم أدبي وفيضان من الكلمات والأفكار لا ينضب، فذكر الكاتب أن على بعض دور النشر أن تتبنى أعمال غسان في كتاب واحد منعا للتكرار ولحصر إرث أعماله بهدف تحصيلها بكل سهولة للدارسين والقراء، وتأسيس "مكتبة غسان كنفاني" وأعتقد أن هذا الاقتراح في محله، وأن وقته حان لنثبتَ لذلك المحتل أن الكلمة لا تموت، والحق يتناسل ولا يموت بموت مطالبه.
كما بينّ أن شهرة غسان كنفاني وصلت إلى العالمية، وبيّن أن استشهاده بتلك الطريقة المفجعة لم يكن السبب في هذه الشهرة، وهنا أودّ أن أشكر الكاتب على هذه الإضاءة؛ لأنّ الكثير يعتقدون بها متناسين أن غسان كان رائد فضاء الأدب في ذلك الوقت ولديه جميع مقومات الأديب، وأنهُ كان مبدعاً متعدداً، فمن الكتابة التي لم تقتصر على نوع أدبي واحد، بل تنوعت ما بين المقالات والرواية والقصة والشعر، وتنوعت أعماله ما بين التأليف والترجمة، ومن بعد ذلك الرسم.
أما عن الحبُ، وفي صفحة "165" غسان وأنا"، فقد ذكر تلك الغادة التي حسدَ الكتابُ جميعهم غسان عليها حتى الكاتب نفسه في نهاية الكتاب عندما تمنى أن تكون له حبيبة مثل غادة، وسؤالي الذي أطرحهُ الآن في نهاية مقالي وهل كل الأحبة مثلُ غسان؟
============
تنويه:
[*] مداخلة لندوة اليوم السابع المقدسية التي عُقدت يوم الخميس 7/7/2022 عبر زوم؛ إحياءً للذكرى الخمسين لاستشهاد غسان كنفاني ومناقشة كتاب "استعادة غسان كنفاني" للكاتب الفلسطيني فراس حج محمد.